تخطي إلى المحتوى
فلاح وصياد… عن كتابة تواريخ مدن الخليج قبل النفط فلاح وصياد… عن كتابة تواريخ مدن الخليج قبل النفط > فلاح وصياد… عن كتابة تواريخ مدن الخليج قبل النفط

فلاح وصياد… عن كتابة تواريخ مدن الخليج قبل النفط

مما يلاحظ في السنوات الأخيرة داخل المكتبة العربية، ظهور موجة من الكتابات التي تتناول تاريخ مدن الخليج العربي في فترة ما قبل ظهور النفط، الذي لعب دوراً في إعادة تشكيل المجال العام في بعض هذه المدن، وبالأخص على صعيد مفاهيم الدين والجنوسة. وهناك من يربط إعادة النظر في ذاكرة مدن الخليج بعدة تفسيرات: الأول يتعلّق بموجة من الحنين يشعر بها جيل من المثقفين الخليجيين حيال ما عرفه هذا الفضاء من تغيرات ثقافية واجتماعية، والثاني يرتبط بدور المؤسسات الخليجية التي باتت تدعم هذا التوجه، خاصة في ظل القلق الديموغرافي الذي تعيشه هذه المدن، مع ظل تزايد أعداد العمالة الأجنبية، التي بات لها دور في رسم مشهد آخر عن هذه المدن، في الأقسام القديمة منها.
وكمثال على هذا التحول في الكتابة، يمكن الإشارة هنا لمدينة المنامة، التي شهدت حفريات عديدة في تاريخها المحلي، بعضها ذات طابع أنثروبولوجي عروبي يدافع عن دور العرب في تشكيل هذه المدينة في القرن العشرين، وهو ما نرصده بشكل مميز في كتاب الأنثروبولوجي البحريني عبد الله يتيم (المنامة.. المدينة العربية). واللافت في هذا الجانب، أنّ هذا التوجه للكتابة عن مدن ما قبل النفط، لن يقتصر على الأنثروبولوجيين والمؤرخين فحسب، بل شهد مشاركات غنية أيضا، من خارج هذه المدارس، مثل أبحاث وكتب نادر كاظم، عن سير وتواريخ الأشياء. ففي العادة، تصوّر مدن الخليج العربي بوصفها مدناً بدوية، أو محافظة، بينما نرى في مصادر جديدة، أنها لم تكن منغلقة على نفسها، وأن تاريخ الصادرات التي كانت تصلها، يكشف عن اهتمامها أيضا بالمواد السلعية والاستهلاكية في العالم في وقت سابق للنفط.
نادر كاظم بروفيسور في الدراسات الثقافية في جامعة البحرين، تخصص في البداية في مجال الأدب وكانت أطروحته للدكتوراه عن صورة السود في المتخيل العربي في العصور الوسطى، ثم اتجّه لاحقا نحو اهتمامات أوسع يضم الأدب والاجتماع والأنثروبولوجيا. وعادة ما يضع المؤلف أعماله في سياق قراءات نظرية أوسع أو تجارب بحثية مشابهة، ولذلك نجده في كتاب «لا أحد ينام في المنامة» يقتفي أثر الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد في ثلاثيته «لا أحد ينام في الاسكندرية»، التي لم يخف فيها عبد المجيد شوقه إلى الإسكندرية الكوزموبوليتانية في الأربعينيات والخمسينيات مقارنة بفترة ما بعد الناصرية.

وعاد كاظم ليعتمد هذا المنهج في مؤلفه عن سرده لسير الأشياء البحرينية، إذ حاول هذه المرة السير وراء خطوات المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل، الذي عُرِف بدراسة تواريخ الأشياء الاجتماعية والثقافية الأوروبية، خلال فترات طويلة، وبالتالي وضع كاظم عمله ضمن محاولة كتابة تاريخ اجتماعي آخر بعيد عن اللحظة السياسية الحالية التي تعيشها البلاد منذ عام 2011. لكن على الرغم من هذه الأجندات البحثية الطموحة، مما يلاحظ بالمقابل أنه رغم اعتماده عدسات بروديل في يوميات البحرين في القرن العشرين، إلا أننا في المقابل نرى أننا نعيش في زمنين، أو تجربتين مختلفين؛ فهما يتشابهان في عملهما على كتابة تاريخ للأشياء الصغيرة واليومية، إلا أنّه مقابل زمن بروديل، الذي جاء من خلال كتابه ليمثل «عملا نفسيا للربط بين العصر الوسيط والنهضة»، وفق تعبير جاك لوغوف. فإنّ زمن كاظم هو زمن يبدأ منذ اللحظة الأوروبية المبكرة في البحرين (الكوزموبوليتانية) ليتوقف عند فكرة تقول إنّ قطيعة جرت بين الماضي البحريني (الكوزموبوليتاني) والواقع. وبالتالي زمن كاظم يبدأ منذ اللحظة الأوروبية المبكرة في البحرين ويتوقف لاحقا، خلافا لبروديل، الذي يركز على الاستمرارية، وهذا سرد شبيه بسرديات عديدة منتشرة اليوم في سوريا والأردن ولبنان والقاهرة، فزمن الخمسينيات يظهر في قسم كبير من الكتابات، بوصفه الزمن الجميل، بينما تظهر المدينة العربية اليوم وهي تغوص في مشاكل جماعاتها الطائفية والإثنية، وتعيش مرحلة من الفوضى. وهو تصوّر، وإن لم يكن بالإمكان نفي بعض صوره، لكنه في المقابل يعمل على خلق، أو أسطرة ماضٍ جميل. وفي حالة كاظم ربما تبدو فترة الأربعينيات والخمسينيات أيضاً، هي المخرج الأنسب من التوترات المحلية التي تعيشها البحرين.

في أحد الفصول يتناول كاظم تاريخ الجسور التي تربط بين مدينة المنامة وجزيرة المحرق، وكانت البدايات في الثلاثينيات لكن الحكومة البحرينية تراجعت عن بنائها في ظل عدم توفر الميزانيات، ولذلك تكفّلت إحدى العائلات المحلية بمبلغ كبير لإكمال بناء أول الجسور. وفي هذا السياق نرى رسالة واضحة عن دور الجماعات الأهلية في بناء المجال العام، وهذا دور سيتراجع لاحقا مع قدوم زمن النفط، وغنى الدولة، الأمر الذي كان له تأثير أحياناً، في علاقة الأسر الحاكمة في الخليج العربي بالجماعات المحلية. ومع أهمية هذا التدوين لرحلة بناء الجسر، لكن في المقابل نسي المؤلف هنا التقاط مدى تأثير بناء الجسور على أهالي الجزيرة المعزولة (المحرق)، فهو لا يولي أحياناً، في تاريخه للأشياء، اهتماما كافيا بانعكاسات ظهورها على حياة الناس اليومية، على الرغم من أنه جزء من هذا التاريخ، ودون قراءته لا يمكن رسم صورة كاملة. ولعل ما يهمله المؤلف هنا، نراه في إحدى المقالات التي نشرتها صحيفة «البحرين» خلال ترتيبات افتتاح الجسر، حيث يذكر المقال أنه نظرا لانعزال الجزيرة الصغيرة (المحرق)، فإنه قبل تشييده (الجسر) كان التنقل بالسفن «يستغرق وقتاً طويلاً.. ونظراً لانعزال موقع المحرق قلّت أهميتها وهبطت تجارتها». ولذلك نرى أنّ أهمية الجسر جاءت مع ما خلقه من فرص وتغيرات في العلاقة بين أهالي المدينتين والتطور الحضري في البحرين. ولعل هذا القصور في رصد بعض التفاصيل الصغيرة، نراه أيضاً خلال حديث المؤلف عن تاريخ أول مكتبة أُسِّست في البحرين بواسطة ثلاثة شباب مبشرين إنجيليين في عام 1889. إذ حاول جمع تفاصيل، وكتابة تاريخ جديد عن هذه المكتبة، والفضاء البحريني، الذي كانت تعيشه فيه. لكنه أهمل في سياق كشفه هذا، ذكر بعض عناوين الكتب التي كانت تضمها المكتبة الجديدة، التي لو توفرت، لكنا تمكنا من التعرف أكثر على اهتمامات أبناء الجاليات الأوروبية في البحرين آنذاك وبعض نخبها المحلية.

فلاح وصياد

كان بروديل يصف نفسه قائلاً «أنا مؤرخ من أصل فلاحي»، إذ أنّ من طباع الفلاحين الصبر حتى تخرج الثمار، وهذا ما ظهر في مؤلفاته، من خلال عمله على جمع وثائقه لسنوات طويلة. وفي عمل نادر كاظم نرى جهدا مماثلاً على صعيد جمع الوثائق والمخطوطات. لكن ربما بقي كاظم ابن البحر (البحرين)، ولذلك نرى أنّ نواياه في كتابة تاريخ طويل، غالبا ما تصطدم بأمواج مئات الوثائق الأخرى، التي سرعان ما كانت ترمي به إلى مكان آخر دون أن يصبر على الاصطياد في موقعه السابق، ولذلك بقي تأريخه للأشياء ذا نفس قصير. إذ أنه لا يرى في فترة الأربعينيات والخمسينيات، في البحرين سوى أنه العصر الأجمل في البلاد، الذي شهد بداية تشكل أشياء ومؤسسات عديدة، لكن غالباً ما يُهمل في هذا السرد الإشارةَ لبعض الفضاءات السياسية، التي كانت ترافق هذا التطور أو تمهّد له بالأحرى. وهذا مثلاً ما تنبّهت له المؤرخة الفرنسية نيلدا فوكارو في كتابها «المنامة منذ 1800: تاريخ المدينة والدولة في الخليج»، إذ لاحظت أنه في خلال هذه الفترة كان مقر الإدارة البريطانية الكولونيالية قد انتقل من إيران في الساحل الغربي للخليج إلى البحرين في الساحل الشرقي. وفي ظل هذا الزخم سنكون أمام تطورات في الخمسينيات على صعيد المجال الحضري البحريني، وهو عامل لا نشعر به في عمل نادر كاظم. لكن هذه الفجوة لا تقلل من أهمية ما قدمه في تاريخه للأشياء البحرينية والخليجية على صعيد كتابته وجرأته في وضع تواريخ جديدة، ما قد يشجع الباحثين وطلابه على الخوض في جوانب منسية من تاريخ مدن الخليج، لكن بنفس الفلاح الطويل هذه المرة.

المصدر: 
القدس العربي