لا أحد ينكر اليوم أن القضية الفلسطينية عادت بقوة غير مسبوقة وأصبحت جزءاً من الذاكرة الجمعية الإنسانية، متخطية بذلك صمت الإنسان العربي والإسلامي الذي يقف مشدوهاً أمام ما يحدث أمام عينيه دون أن يحرك ساكناً. يتأمل ثم يمضي، وكأنه غير أمام المجازر التي ترتكب أمام عينيه. بعد قرابة الأربعين ألف شهيد الذين انتهوا تحت الأنقاض أو حرقاً أو أشلاء، لم تحرك جامعة الدول العربية التي لا تنتظر إلا إعلان وفاتها رسمياً.
هي كيان ولد منذ البداية عاجزاً حتى لا نقول ميتاً، لا سلطة لها منذ أن أسسها الإنجليز وتحكمت فيها الإرادات العربية المتناحرة سرياً. لهذا فهي عمياء، لا ترى، وإذا تحركت ونادراً ما تفعل ذلك دون عكازتين. وكل الذين بادروا ويبادرون، هم الأفارقة والآسيويون أو الأوروبيون. حتى جامعاتنا مقتولة لا تتحرك إلا عندما يُراد لها ذلك، بينما الجامعات الأمريكية بالخصوص والأوروبية عموماً، في حالة غليان كلي على الرغم من المؤسسة المديرة العليا العمياء، والكثير من الذين أيدوا الطلبة يحاكمون ومهددون بالطرد.
هذه الحرب الصهيونية المدمرة كشفت شيئين جوهريين: الأول، إلى أي مدى يمكن أن تصل المؤسسة القاتلة بترسانة أسلحتها المتطورة التي وقفت عاجزة أمام الإرادة والإيمان؟ فكلما خطت خطوة، بينت للعالم سقف جرائمها الذي يصعد باستمرار. ردها على المحكمة الجنائية الدولية TPI كان ردها بارتكاب مجزرة جديدة في رفح. الشيء الثاني، أفول الخطاب الإنساني المنافق والكاذب، الذي أصبح يرزح تحت منطق القوة، كما كان، لكن هذه المرة بشكل مفضوح. الحلف الأمريكي الصهيوني أنطولوجي ووجودي وليس مجرد موقف سياسي وأيديولوجي. أمريكا حامية [سعادة البشرية] تسير على نفس خطى الكيان الصهيوني، وتضرب عرض الحائط بالقوانين الدولية ومؤسساتها وقراراتها، بشكل علني. الأكثر سخرية من هذا كله: أمريكا، على لسان وزير خارجيتها، تهدد بمعاقبة المحكمة الدولية على استصدارها قرار محاكمة نتنياهو ووزير دفاعه. المهم رمزياً على الأقل، هو أن إسرائيل التي طلت فوق الكل منذ 1948، الخير والشر يتحددان من خلال إرادتها وقوالبها، أصبحت اليوم عرضة للنقد، بل للمقاطعة والفضح، وبدأ سلاح [الهولوكوست ومعاداة السامية] (حق أريد به باطل لأنه انتقل من الجريمة ضد الإنسان إلى أيديولوجية لتكميم الأفواه) بدأ يسحب من يديها وتقف إسرائيل عارية أمام جرائمها التي وُثِّقت كلها. ولا مفر من اللحظة التي دونتها، ومن التاريخ.
لهذا كله، فالقضية الفلسطينية تثير اليوم أسئلة كثيرة وجديرة بالاهتمام، تتعلق بالوجود الإنساني كلياً. كنا نظن إلى وقت قريب أن البشرية تتعلم من دروسها ولو قليلاً، وأن عصر الإمبراطوريات انتهى وأفل وحل محله شيء هو في طور التكوين، يستعيد فيه المظلوم حقه وإنسانيته. كل الإمبراطوريات ماتت، وستنتهي الإمبراطورية الأمريكية، المآل الحتمي لكل إمبراطوريات الظلم. ماذا بقي اليوم من الإمبراطورية الفارسية، والرومانية، والفرنسية والألمانية، والروسية، والعثمانية، وغيرها؛ رماد وكومة من الأسماء ومؤلفات تاريخية ترسم الحقب المتتالية، لا شيء غير ذلك. ومنطق الحياة هو منطقها الدائمة: السير دوماً إلى الأمام، ونحو الشمس، مهما كان الثمن المدفوع.
تولدت عن حرائقها، الدولة الوطنية التي كبرت داخلها مكاسب العصر الحديث من حقوق الإنسان، وحرية، وديمقراطية، والحق في التعبير، والعدالة الاجتماعية، والحق في الحياة الكريمة، ورفض كل ما ينمّي العنصريات المقيتة، والإبادات الجماعية وحق الشعوب في الحياة الكريمة. كنا نظن أن البشرية استوعبت درس الهولوكوست ودرس إبادة الغجر بوصفهم أنصاف بشر لا يحق لهم العيش، فهم أقرب إلى الحيوانات التي يجب أن تباد حفاظاً على العرق البشري السامي بالمنطق النازي. فجأة، تنشأ السردية الإسرائيلية بكل آلتها الفتاكة التدميرية ولغة سابقيها من النازيين والقتلة والمجرمين، ليستعاد الخطاب النازي بكل تفاصيله ويصبح الفلسطيني مجرد «حيوان» يجب أن يُمحى، لا يستحق العيش، محمياً من المؤسسة العسكرية الأمريكية الكبرى التي أصبحت مجرد أداة لتبرير جرائم الكيان الصهيوني. لأول مرة تعيش البشرية طاحونة الإبادة الجماعية بشراً وبنايات وهواء، طاحونة ضد كل سبل الحياة، تدمير الأبراج على ساكنها في عملية محو غير مسبوقة، تخفي حقداً تاريخياً غير مسبوق في ظل صمت عالمي إجرامي. لا أحد يستطيع أن يتكلم Silence on tue، الصمت، إننا نقتل، البشر يُحرقون أو يُردمون أحياء، ولا من يحرك ساكناً، كان ذلك لا يعني إلا الآخرين، ولم تحتفظ الذاكرة المبتورة من أي سياق تاريخي، وكأنها نزلت هكذا بقدرة قادر. حالة من النكران الكلي، حتى لو كذَّب التاريخ البشري ذلك.
وكأنه لم يكن هناك 1948؟ ولم يتم تهجير شعب بكامله وتحويله بين يوم وليلة إلى تائه، بلا مرافئ، يعيش في المخيمات على بركات الأمم المتحدة، وما كان مؤقتاً تتبعه عودة مضمونة، أصبح دائماً؛ لتولد أجيال متعاقبة داخل جراحات المخيمات والظلم، وكأنه لم تكن جرائم دير ياسين ولا صبرا وشاتيلا، ولا الاعتداءات اليومية في الضفة وغزة… كله بياض. التاريخ حسب السردية الصهيونية، يبدأ بـ 7 أكتوبر 2023. التقتيل الحاصل اليوم هو مجرد ردة فعل ضد المعتدين؟ المخربين؟ الحيوانات؟ الذين تجرأوا على اختراق حاجز الأمن؟ الإسرائيلي العظيم. فتحوا جهنم التقتيل الأعمى.
أكثر من 500 شهيد يومياً، وعندما أصبحت الصهيونية رحيمة وتحت الضغط الدولية والتهديدات الأمريكية المضحكة، انحصر التقتيل بين المائة إلى المائتين؟ وقتل قرابة الأربعين ألفاً من سكان غزة والضفة التي يحاول احتلالها من جديد، دون حساب الذين دفنوا أحياء تحت ردم البنايات والأبراج، أو التقتيل الجماعي خارج أي قانون، والتمادي في اللاعقاب الذي وصل إلى درجة الوقاحة والتهديد بمعاقبة وسجن من تجرأوا على الحكم على نتنياهو ووزير دفاعه. لأول مرة في تاريخ الكيان الصهيوني الذي لا حدود له ويقع خارج قانون البشرية يجر إلى المحاكم، وهو الذي كان يظن أنه فوق أية شبهة.
العالم يتغير بثقل، لكنه يتغير. ومهما كانت الحماية الأمريكية لإسرائيل حيوية، وهي التي لم توقع على قانون المحكمة الجنائية الدولية TPI لن تنفع ولن تدوم لأنها مبنية على الظلم. مع الموقف الأمريكي الأعمى والمتحيز، كل شيء انهار ونزل إلى الحضيض، وما كان يمارس سرياً، أصبح اليوم يمارس بشكل علني، لإسرائيل الحق في أن تظل دولة خارج القانون؟ ألا يعني هذا بداية انهيار وتفكك الغطرسة الأمريكية، إذ لم تعد هي القوة العظمى الوحيدة في العالم، ولكيان إجرامي لا يعترف بأي شيء إلا بقوته وكونه شعب الله المختار؟