أشاهد رئيس الغابون الأسبق علي بانغو، في فيديو لم يتعد الدقيقة الواحدة، وهو يوجه كلمة إلى أشخاص لم يحدد هوياتهم، يطلب منهم التحرك، إثارة الصخب من أجل إنقاذ كرسيه، عقب الانقلاب العسكري الذي أدى إلى عزله نهاية الشهر الفائت. ينطق علي بانغو كلمات غير مضبوطة، والغريب أنه لم يتوجه بندائه إلى شعبه، بل إلى أصدقائه (دون أن يخبرنا منهم!). يتكلم من غير أن يقول شيئاً ذا فائدة. وأستغرب كيف أن هذا الرجل الذي قضى أربع عشرة سنة رئيساً غير قادر على ارتجال خطاب سياسي، في اللحظة الأكثر حرجاً من حياته السياسية. يبدو غير مقنع، ولا نستغرب ألا أحد استجاب إلى ندائه ـ الميؤوس منه. هكذا هي العادة مع كثير من الرؤساء في القارة السمراء، يصلون إلى الكرسي سواء بانقلاب أو بالوراثة، ويفشلون في تطوير مهاراتهم في الخطابة. ينتظرون دائماً شخصاً يكتب لهم ما يجب عليهم قوله، أمام الجموع أو أمام الكاميرا، وإن غاب كاتب خطاباتهم باتوا مثل العراة في حفلة. ذلك الظهور الأخير لرئيس الغابون، الذي ختم به مسيرة حافلة بالمناصب، ومن تسيد البلاد، خفف من حماسة أنصاره للتعاطف معه، التعاطف مع هؤلاء الرؤساء العاجزين على ارتجال كلمتين مقنعتين، تجعلنا نتأسف عن المآل المضبب، الذي تحيا فيه افريقيا. فالانقلاب العسكري الذي أطاح بعلي بانغو يبدو مثل حلقة من مسلسل بدأ قبل عامين، مع توالي الانقلابات، في مالي، بوركينا فاسو، النيجر ثم الغابون. فعلى من الدور في المرة المقبلة؟ لكن قبل الوصول إلى «المرة المقبلة» نتوقف عند تاريخ آخر من الانقلابات، تاريخ لسنا ننتبه إليه كثيراً، وهو تلك الانقلابات الأدبية، التي حصلت في افريقيا، أو بين افارقة، كيف أطاحت بكتاب ورفعت آخرين، والخاسر فيها كان ـ دائماً ـ الأدب الافريقي.
أول انقلاب
منتصف الثلاثينيات من القرن، ظهرت في فرنسا حركة أدبية، أنشأها كتاب يجمعهم عامل مشترك: إنهم من ذوي البشرة الملونة، أطلقوا على حركتهم اسم «الزنوجة» هذه الحركة الأدبية سوف تكون في طليعة مواجهة الكولونيالية، وفي تفكيك الخطاب الاستعماري الأوروبي، وقد صاغ تسمية هذه الحركة ووضع أسساً لها الشاعر المارتينيكي إيمي سيزار(1913-2008) وهو الذي جمع النواة الأولى من مثقفين وكتاب حوله، لكن لم تمض أشهر قليلة بعد ارتفاع صخب هذه الحركة حتى حصل انقلاب في الداخل، واستفرد بها الشاعر السنغالي ليوبولد سنغور (1906-2001) الذي أحاط نفسه بموالين له، وتمكن من إزاحة كل من ينتقد خياراته في هذه الحركة، كما أزاح من طريقه الكاتب والمنظر النفساني فرانز فانون. ما وقع في حركة الزنوجة، التي تعد أهم حركة أدبية جمعت الأفارقة مع نظراء لهم من جزر المارتينيك، هو أول انقلاب أدبي، حصل في زمن لم تكن فيه الدول الافريقية قد تخلصت من سطوة الاستعمار. سنغور فهم اللعبة السياسية، في شبابه، وبمجرد أن عُرض عليه منصب رئيس للسنغال (1960) تخلى عن حركة الزنوجة، بل كان سبباً في تفككها، نظير ما أثاره من خلافات بين الكتاب الافارقة. ولأن سنغور لم يكن مجرد شاعر وكفى، بل حصّن حاله بحيل سياسية، لم ينتظر أن يُعزل من كرسيه في بلده بانقلاب، بل تنحى بنفسه، ولم يأت خياره كخيار ديمقراطي، بل تنحى بعدما حكم السنغال عشرين سنة. هكذا إذن يؤرخ ليوبولد سنغور إلى أولى الانقلابات، في افريقيا، قبل زمن التحرر، وقبل أن يصل العسكر، وقبل أن نسمع عن انقلابات سياسية.
واجب العنف
عام 1968 ظهرت رواية أحدثت ما يُشبه زلزالاً في فرنسا. كاتبها من دولة مالي، لم يتعد حينها الثامنة والعشرين من العمر، اسمه: يامبو أولوغام، أما الرواية فقد كان عنوانها: «واجب العنف». هذه الرواية التي شغلت الصحف والنقاد عقب نشرها، وصارت في وقت وجيزة أشهر رواية افريقية، عرفت مصيراً لم يكن يتوقعه أكثر المتشائمين إزاءها. فقد انتصب كتاب افارقة ضد زميلهم، وقادوا حملة تشويه ضد الكاتب، وصلت إلى اتهامه بالسرقة الأدبية، وبالتالي الانقلاب عليه. والغريب أن من بين من شاركوا في تشويه سمعة الكاتب هو سنغور نفسه، الذي لم يغفر ليامبو معارضته لحركة الزنوجة. شعر يامبو أولوغام بعزلة، لم يتقبل أن خصومه كانوا كتاباً افارقة مثله، أرادوا سحب البساط من تحت رجليه. تلك الصدمة لم يتحملها وهو شاب لم يبلغ الثلاثين، فاعتزل الكتابة. دخل في حالة كآبة عميقة، ولم يفلح في الخروج منها. مرت سنوات وبُرئ الكاتب من تهمة السرقة الأدبية، وعادت روايته إلى المكتبات، لكنه كان قد انزلق إلى حياة أخرى. صار رجل دين، وترك الكتابة ومشاغلها إلى غاية وفاته. هكذا حصل واحد من الانقلابات الأدبية، في افريقيا، باستبعاد كاتب من الواجهة، بالإطاحة به من غرفة الكتابة، واستبعاده تماماً من الواجهة، ومن حقه في أن يكتب. هذا الانقلاب ليس يختلف عن الانقلابات العسكرية، التي نطالع أخبارها في السنين الأخيرة، يتشابه الأمران في عزل شخص من مكانته، وإحالته إلى النسيان.
نتذكر انقلابات أدبية أخرى، حصلت في القارة السمراء، على غرار ما وقع للكاتب المالي الكبير أحمدو همباتي با (1901-1991) الذي مات في منفاه في أبيدجان، بعدما هُجر من بلده عقب مواقفه السياسية التي لم ترض خصومه، وهمباتي با هو صاحب الجملة الشهيرة: «كلما مات عجوز في افريقيا، اندثرت مكتبة» فهو أكثر كتاب مالي شهرة، مع ذلك انقلبوا عليه في آخر أيامه ورحّلوه. كما أن الكاتب الغيني كامار لاي (1928-1980) مات في ظروف قاسية، معزولاً وفقيراً، بعد ما هُجر إلى السنغال، ومنعت السلطات في غينيا عن أهله زيارته، بعدما انقلبوا عليه وأرغموه على مغادرة البلد، ومغادرة الكتابة كذلك. هذه أمثلة وغيرها عن انقلابات أدبية وقعت في افريقيا، لا تقل في تبعاتها وشناعتها عن الانقلابات العسكرية التي صارت مرادفاً للأخبار المقبلة من القارة السمراء.