تخطي إلى المحتوى
في الحنين إلى طقوس رسائلنا الورقية في الحنين إلى طقوس رسائلنا الورقية > في الحنين إلى طقوس رسائلنا الورقية

في الحنين إلى طقوس رسائلنا الورقية

لِخطِّنا المكتوب على الورق قدرة نسبية على التعويض عن غيابنا الجسدي أمام المُرسَل إليه، إذْ يكاد ينجح في إلغاء المسافة والزمن الفاصلين بين مُتراسليْن.

أفكر في ما إذا كان ثمة من ما زال يكتب رسائل على الورق، ليُرسلها في البريد الجوي. لا أعرف! ولست أدري إنْ كانت الإجابة ضرورية، ولا إذا كانت كتابة مقال حول رسائلنا في “عهدنا الماضي” بالشيء الجدير هنا. ولكنني أعرف أنَّ بي شوقاً لكتابة رسالة أوجهُها إلى شخص ما، أخطّها بقلم الحبر على الورق الأبيض ومن ثم أضعها في مغلّف ورقي، وأرميها في صندوق البريد. وأكثر ما أفتقده؛ هو استلام رسالة في صندوق بريدي الذي ظل فارغاً لسنين طويلة قبل أن أتخلى عنه نهائياً بعد يأسي من امكانية استعماله.

إذاً لم يعد هناك من يُكاتبني وأُكاتبه بعد الآن. ليس هذا بسبب انعدام الاصدقاء والاحبّة، وهم كُثُر، ولكن عصر كتابة الرسائل على الورق ولّى وانتهى بعد سيطرة الوسائل الرقمية في كل شؤون المراسلات على أنواعها الشخصية والعمومية. ولا ضيْرَ لي في هذه السيطرة الماحقة كونها تأتي نتيجةً طبيعية للتقدم والتطور.

لا أقول إنّ الناس قد توقفوا عن تبادل الرسائل بل العكس هو ما حصل مع دخولنا عصر الإنترنت وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، إذْ ازدادت وتيرة هذا التبادل بشكل غير مسبوق.

إنما يبدو لي أن الذي تغيّرهو محتوى الرسائل وأهم ما حصل، برأيي هو التغيّر الجذري في الطقوس المحيطة بكتابتها وإشارات إرسالها واستلامها.

قد يصعب على جيل الثورة الرقمية، إذا صحّ التعبير، إدراك المشاعر الخاصة والمُركّبة لطقوس وإشارات كتابة الرسائل بخط اليد على الورق وعملية إرسالها أو استلامها. فتلك المشاعر وعلى تنوُّعها قد اختفت بالأمس القريب وأضْحت ماضياً غائراً لجيلٍ مازال يعيش محاولاً التأقلم مع كل ما تفرضه ضرورات تلك الألفية الثالثة وثورتها الرقمية.

كتابة المراسيل على الورق كانت مفعمة بحميمية شفافة تُتيح بوحاً شعورياً مُحبباً ومبالغاً فيه، ونوعاً من المُكاشفة التي تفاقم الأمر فتزيده غموضاً وجمالاً. على أوراق رسائلنا البيض كانت الحروف تنعقد بالحبر الأسود لتُشكّل كلمات تشبه المرآة المُكبِّرة. مرآةٌ تنعكس فيها التمنيات المُشتهاة، ومشاعر الصداقة والحب بمختلف أنواعه وأشكاله.

كان في استطاعتنا أن نكتب عليها بغزارة ومن دون حساب للحبر والأوراق المُتْلفة المبعثرة بين الطاولة وسلّة المُهملات. نشطب الكلمات منها، نعيد صياغتها عشرات المرات لتغدو منحوتة في أبهى حُللِها. وقد نستعير كلمات أغنية نراها مناسِبة لإيصال مشاعرنا، أو نستعين بجُمل نحتها أدباء وشعراء لندفع بالتعبير إلى ذروته القصوى. كان من شأن هذا النحت الإنشائي أن يُعيد تشكيل ذواتنا وافكارنا مشذباً زواياها الحادة، واضعاً علامات فارقة في تضاريس المشاعر والذاكرة.

كُنّا نصرف الكثير من الطاقة والوقت في تدبيج الكلمات الأولى لمقدمة آسرة، تفتح الباب واسعاً على سرديات منوّعة لأحداث عامة وأخبار خاصة، لندخل بعدها إلى فُسحة بوح حميم تُفضي إلى مُكاشفة شفافة حول آرائنا ومشاعرنا. نختم الرسالة كما بدأناها بعاصفةٍ من القُبل والعناقات والتمنيات بلقاء قريب يجمعنا. نُذيّلها أخيراً بتوقيعٍ سريع يُدوَّن بجانبه المكان والزمان، مع ملحق بأمور صغيرة نسيْنا ذكرها في معرض الرسالة.

عندما نُنْهي المُسْوَدّة النهائية للرسالة، كُنّا نبتعد منها قليلاً ونقرأها بعين المُرسَلِ إليه وقلبه، فنحاول تخيّل تقاسيم وجهه تبعاً لرد فعله وتأثُّره. بعدها نقرر إنْ كان الأوان قد حان لكتابة النسخة النهائية “المُبْيَضّة”، فنُحْضِر لها أوراقاً جديدة، قد تكون ملوّنة، ونختار قلمَ حبرٍ يمتاز بخط أنيق يليق بما كتبناه من قوة الأفكار وفيض المشاعر. بتهيّبٍ كبير نشرع بكتابة “المبْيضّة”، مُعدّلين في وضعية الجلوس على الطاولة، ونتخيل لقاءً مُفترضاً سيحصل مع المرسَل إليه على الطاولة التي نضع عليها فنجان شاي أو كأس نبيذ.

كان الخطُّ في رسائلنا الورقية يعكس مزاجنا الخاص ويشي بالكثير من شخصيتنا. لِخطِّنا المكتوب على الورق  قدرة نسبية على التعويض عن غيابنا الجسدي أمام المُرسَل إليه، إذْ يكاد ينجح في إلغاء المسافة والزمن الفاصلين بين مُتراسليْن.

 بين أوراق المُسْوَدَّة الكثيرة وبين “المبْيَضَّة” الوحيدة، يعيش كاتب/ة الرسالة طقساً روحانياً مميزاً تنخطف فيه ذاته في نشوة الانتقال تدريجياً من واقعه، واقع الغياب عن الآخر، الى عوالم هلامية وغير محددة للّقاء بالمرسـل إليه والتحدث معه. كانت هذه العوالم تُحاول إعادة صياغة معانٍ مُطلقة ومعقّدة كالحب والصداقة، وتُشعرنا بأهمية الروابط الإنسانية الكثيرة مثل الأمومة والأُبوّة والبُنُوَة وغيرها من روابط مِهنيّة مُستجدة في حياة الفرد. 

معانٍ وارتباطات تتغيّر كثافتها ووزنها بشكل طردي ومعكوس نسبة إلى المسافة الفاصلة مكانياً وزمانياً بين المُرسِل والمُرسَل إليه، بحيث يكون في ابتعاد المسافة بينهما، اقتراب للمعاني من حدودها المُطلقة وتكثيف لإنسانية هذه الارتباطات. فيكتشف، مثلاً، الأب أبُوَّتَه من خلال رسائله إلى ولده البعيد، أو يأخذ الحب معنى مثالياً أفلاطونياً في رسائل الحبيبة الى حبيبها البعيد، أو يُكاشف التلميذ معلمه الاول عن شعوره بالوفاء والامتنان.

نُنهي الرسالة فنطوي أوراقها بعناية شديدة، كما تطوي الأم ثياب رضيعها الأول. من المحتمل أن نضع في ثناياها شيئاً مادياً ذا دلالة رمزية. كأن يضع الوالد لابنه قليلاً من الاوراق النقدية تعينه على شظف العيش في الغُربة، أو يُضَمِّنُ الصديق رسالته لصديقه صورة قديمة تعود إلى ايام المراهقة، أو يضع العاشق وردة يابسة لعشيقته، ليعثر في رسالتها بعد حين على خُصلة صغيرة من شعرها مُغمَّسة بعطرها الذي سيذكّرُه بها وبأجمل الأوقات التي جمعتهما.

نُدخِل الرسالة في المُغلّف المناسب، ونُغلقه بإحكام بعد إلقاء النظرة الأخيرة عليه. نظرة تُشبة وداع الأم ولدها البكر الذاهب إلى الحرب من دون معرفة اذا ما كان سيعود إليها أمْ لا. نظرة وداع قلقة ومُعلّقة تنتظر نهاية، لا ترتاح إلّا مع استلام جواب على الرسالة. ولكن يستمر القلق مسيطراً نتيجة احتمال أن تضيع الرسالة في الطريق برغم حرصنا الكبير على تدوين عنوان المُرسَل إليه على المُغلّف بخط كبير وواضح، أو احتمال أنْ يُخطئ ساعي البريد من غير قصد في قراءة العنوان، لتصل الرسالة إلى غير صاحبها، فيضيع كل شيء هباء.

لا نطمئن كثيراً إلى رمي الرسالة في صندوق البريد الحديدي، هكذا وببساطة، بل نُفضّل التوجّه الى مركز البريد لنسلّمها إلى الموظف المسؤول والذي بدوره سيُلصق على المُغلَّف طابعاً بريدياً مناسباً ويُصنّف الرسالة بحسب وجهتِها. عندها فقط كُنّا نبتسم، يغمرنا شعور بالرضا والطمأنينة.

بعد الانتهاء من مركز البريد تبدأ أسئلة جديدة حول متى ستصل الرسالة؟ وكيف سيقرأها الآخر؟ ومتى سيصل الجواب عليها؟ كنا نعيش قلق هذه الأفكار بفرح وترقب، ونحتسب الوقت المُتوَقّع، لِوُرود جواب على رسالتنا؛ لأيام وأسابيع وحتى شهور. لا ينتهي قلق الانتظار هذا إلا لحظة كنا نفتح صندوق بريدنا لنفاجأ بوصول رسالة. في تلك اللحظات كانت  نفوسنا تشهد على انخطافات سريعة يتخفَّفُ بها الجسد من ثقل الوقت وثبات المكان.

في بعض الأحيان، كانت الرسائل تأتي عبر أشخاص يحملونها إلينا بدلاً من ساعي البريد أو صندوقه. حدثَ هذا كثيراً أيام الحرب الاهلية التي عطّلت القدرة على إيصال الرسائل بأساليب تقليدية معروفة. كان هؤلاء الأشخاص بالعادة من المسافرين بكثرة، يُكلِّفون انفسهم متطوعين نقل الرسائل من وإلى…

 كُنّا ننتظرهم، ونفرح لوصولهم سالمين. مُسرعي الخُطى نذهب إليهم. ومن لهفتنا نحاول استباق وصولهم. نلاقيهم في باحات المطارات لنستلم منهم رسائلنا- الهدايا المُنتظرة على أحرّ من الجمر، شاكرين جهودهم الخيّرة. كانوا أشبه بـ”بابا نويل”، وكُنْا أشبه بمجموعة مشردين جوعى وعطشى ينتظرون اخذ حصصهم من المساعدات الغذائية.

باستلام الرسالة الجوابية وقراءتها على انفراد بعد فضِّ مُغلّفها، كانت طقوس الرسائل الورقية وإشاراتها تتجه إلى ذروتها مُستكمِلة دورة كاملة بين مُرسِلٍ ومُستَلِم.

اليوم لم يعُد لدينا من يُراسلنا أو نُراسله بعدما كتبنا مئات المكاتيب ولم يكن في ذلك خسارة، على ما تزعم اغنية كُنّا نرددها: “كتبنا وما كتبنا / ويا خسارة ما كتبنا / كتبنا مِيّة مكتوب / لَهَلَّأ ما جاوبنا…”. قد يكون البعض منا ما زال يحتفظ بالرسائل التي استلمها أو ربما أضاعها أو أتلفها، لا فرق. المُهم أن الجميع عاشوا التجربة بطقوسها الفريدة، وبما تحتوي على تفاعل إنساني مشحون بلحظات الانتظار القلِق والفرح الممزوج أحياناً بالحزن. 

هي لحظات ثمينة يُعتَّدُ بها وتُحتسب من أعمارنا الماضية إلى زوال.

الرسائل على أنواعها شكّلت في الماضي وستظلّ تشكِّل في الحاضر والمستقبل فناً قائماً بذاته ومجالاً حيوياً للتفاعل الإنساني والثقافي بين البشر. وهي إذْ تُغيِّر باستمرارٍ وسائلها، إرسالاً واستلاماً، وتُبدِّل في أساليب كتابة نصوصها وطقوسها، إنما يظل ما حُفظ  منها واشتهر في التأثير والتغيير، مرجعاً جزئياً يصلحُ لفهم تحولاتٍ اساسية في تاريخ الشعوب. في حين تلعب رسائل الأفراد المحفوظة في حياتهم وحتى بعد مماتهم، دور الكشاف عن ذاكرتهم والمرجع الوثيق لتأريخ العواطف والمشاعر في سِيَرِهم الذاتية. 

في رسائلنا المكتوبة على الورق ترتسم ملامح إركيولوجية للذاكرة وتحولات المشاعر في تضاريسها.

المصدر: 
مجلة درج