ربما تكون الرواية أكثر الفنون الإبداعية تطورا وتجديدا، وميدانا للتجريب، ومرونة لتداخل الأجناس، وتوظيفا للتقنيات، كما أنها الأكثر مقروئية، وحظا في الجوائز، وهناك ميل جارف لكتابتها وخوض غمارها من قبل الكتاب المتمرسين والشعراء والشباب في بدايات تجاربهم الإبداعية، ولا تتردد دور النشر في نشر أي رواية على أن يتحمل الكاتب كلفة النشر. ولا شك في أن الرواية سيطالها التغيير والتجديد المستمر، بما ينسجم مع التطورات والتغيرات المتسارعة في جميع المجالات، والرواية بشكل أو بآخر هي انعكاس للحياة بمرآة غير مستوية، أو تبدع عالما موازيا. وحول مستقبل الرواية وجهنا السؤال الآتي لعدد من الروائيين والنقاد: «كيف ترى مستقبل الرواية من حيث الشكل والمضمون؟ وهل ثمة تصور لما يمكن أن تكون عليه بعد عقد أو عقدين مثلا؟» فكانت هذه المشاركات ..
المسرحة وتقنيات السينما
يقول الناقد والأكاديمي السوداني عزالدين ميرغني: هذا الزمن هو زمن الرواية، فهي وحدها القادرة على كتابة الجماعات والمجتمعات الحديثة في تحولها وتطلعها للمواكبة، والسير في دروب الحضارة والعولمة، وكما قال الروائي هنري ميللر «إن الرواية هي كتاب الحياة» والحياة تعني الواقع الذي نحيا ونعيش فيه. وهي في رأيي كتاب المجتمع الذي تستعرض فيه ثقافته وتفاعله مع الجديد والحديث؛ رفضه أو قبوله. وطالما هي كذلك، فإن المستقبل أمامها يكون مفتوحا، طالما أنها بشكلها ومضمونها تواكب وتساير هذه التحولات الاجتماعية، بحيث تثير العديد من الحوارات والأسئلة، وتفتح أفق متلقيها لكي يساير ويواكب كل مستجد وحديث في دنيا العولمة والقرية العالمية الواحدة. وواكبت أيضا ثقافة الصورة ومغرياتها لتجذب أكبر عدد من القراء، خاصة الشباب الذين أثرت فيهم الثقافة البصرية الجديدة والمغرية، وبذلك يكون دور الرواية كبيرا في تحفيز القارئ المشغول بوسائل التواصل الاجتماعي، التي تأتيه بالخبر مصورا وجاهزا من كل بقاع العالم، ولذلك عليها تحديث بنيتها ومعماريتها الفنية؛ بأن تتضمن التقنيات الحديثة مثل مسرحة الحدث، والأخذ بتقنيات السينما، حيث العودة والاستباق وتقطيع المشاهد. وكاميرا المخرج والمصور البارع لالتقاط المشاهد الزمانية والمكانية، كأننا نشاهدها أمامنا، وأن تركز على الشخصيات العميقة وليست المسطحة، وأن تدخل بنا لزمنهم النفسي الداخلي. ومن ناحية المضمون أن تختار الفرد المقهور والمهمش، والدخول في فجوات الواقع والتعدد الثقافي للمجتمعات، وبذلك نضمن لها الاستمرارية لعشرات السنوات .
السياق الإنساني
يرى الروائي المصري عمرو العادلي، أن الرواية ستبقى ما دام الإنسان موجودا، فقد هضمت كل الفنون؛ كالتصوير والنحت والرسم والفن التشكيلي والسينما والمسرح، وحتى القصة القصيرة، هضمتها الرواية وأخرجتها على شكل عُقد وقصص متشابكة أو متوازية. السرد والحوار والبلاغة والخطابة، الاجتماع والسياسة وعلم النفس، ابتلعتهم الرواية باقتدار. ستبقى لأنها مرنة في تقبل الاختلافات، سنسمع مستقبلا مسميات من نوعية «الرواية الإلكترونية» أو «الرواية الرقمية» أو «الرواية المدونة» إلخ، وما يجمع كل تلك المسميات هي الكلمة الأولى «الرواية» فلم يخترع أي فن طريقة للتعبير عن مشاعر الإنسان وتحولاته النفسية والاجتماعية أكثر من الرواية، سيتغير الشكل إلى أشكال عدة، وسيتبدل المضمون إلى ما يناسب العصر الذي تُكتب فيه، لكنها ستظل معبرة عن روح الإنسان الغريبة طوال العصور، فالإنسان لديه أحاسيس كثيرة متضاربة؛ روح وجسد، دنيا وآخرة، نعيم وجحيم، يشعر بأنه وُلد قبل موعده بمليون سنة على الأقل، أو تأخر مليونا أخرى، لكن ما هو متأكد منه تماما أنه لم يأت في موعده، لذلك سيظل محتارا، يحتاج دائما لمن يكشف عن جرحه ويقدم له الحلول، ولا يوجد أي ميدان مناسب لذلك الكشف إلا الرواية.
الانتهاك والتطور
يعتقد الروائي المغربي طارق بكاري أن ما يتهدد الرواية حاليا، هو الميل الجارف لكتابتها، فمرونتها، واتساعها لكل الأجناس الأدبية، فضلا عن مقروئيتها وحظها في الجوائز الأدبية، كلها أمور فتحت أبواب كتابتها لكل من هب ودب، وفي المحصلة، عشرات الكتّاب يولدون يوميا من رحم لغة معطوبة، بلا موهبة ولا صبر، غابات تعدمُ وتزف أوراقها للمجهول، روايات تطبع بلا تدقيق لغوي ولا تحرير، وبلا أمل ولا جمهور. وسماسرة نشر يقبضون ثمن أغلفة وعناوين براقة، لا يحفلُ أصحابها إلا بضمها إلى سيرهم الذاتية. حالة الانتهاك التي تعيشها الرواية عموما، والرواية العربية تحديدا، تسيء للرواية، وتشوش على التجارب الجادة، لكنها لن تلغي تطور الرواية مبنى ومعنى.
في ظلّ حالة الفوضى هذه، أعتقدُ أنّ التكنولوجيَا في طريقها إلى تقويض مختلف القنوات التي كانت تعملُ، ولو بشكل ضعيف على غربلة ما ينشر، فالطفرة المعلوماتية ستخوّلُ لكل راغب في الكتابة أن ينشرُ ما يكتبهُ رقميا، بل إنّ هناك العديد من المنصات التي باتت توفر خدمة النشر الإلكتروني، والنشر الورقي «تحتَ الطلب» ما يعني أننَا سنكون أمام فوضى مضاعفة لا تنتصر للأديب الجيد بقدر ما تنتصرُ للأديب الذي يحسنُ تسويق اسمه إلكترونيا، بغض النظر عن سؤال الجودة. كما أعتقد أن التصور التقليدي للرواية سيتداعى لا محالة مستقبلا، وستتحرر الرواية إن عاجلا أم آجلا من سلطة الورق، وسلطة المؤلف، والبقاء وقتها سيكون من نصيب الروائي القادر على تطوير أدواته، وهندسة عوالم تخييلية رقمية وتفاعلية يتنازلُ فيها عن بعض صلاحياته الأدبية لصالح القارئ ولصالح فعل القراءة.
التجاوز والتحرر
تقول الروائية والأكاديمية العُمانيّة عزيزة الطائي: نشهد اليوم تناميا فاعلا وحيويا، واجتهادا متنوعا، متجاوزا قيود التقليدية التي عرفتها الرواية، وبدأت ترسم لنفسها تطورا ملموسا بكاميرا فاحصة شاخصة، مستفيدة من أنساق إبداعية سردية أخرى، علاوة على التلاقح الخصب والمتبادل بينها وبين الشعر. واللافت للانتباه أننا صرنا نشهد تجاوزات كثيرة اخترقت بنية الرواية؛ وأصبحنا نصنف هذا الجنس السردي بعدة أصناف، رفدت بنية الرواية في إمكانات ذات عناصر جمالية، انفتحت على أجناس أخرى كـ (رواية سيرذاتية، رواية مذكراتية، رواية تراسلية، رواية نهرية، رواية وثائقية، رواية تخييل ذاتي، إلخ) وهذا يدل على تحرر الرواية من الخطابات التقليدية والذاتية والرومانسية، وأصبحت عينا راصدة لأزماتنا وأحوالنا وهمومنا، وصوتا حيّا قويا للهامش والمأزوم والمحبط، ورفض للصراعات والإثنية والطائفية. وبذلك استطاع العديد من الأقلام الشابة نحت فضاء روائي متجاوزا البنية الحكائية للنص، وإعادة النسيج الروائي، بما يتلاءم وثقافة المتلقي وهمومه وإدراكه، من خلال اقتحام العديدة من البنى الفنية، وتنظيم متتاليات سردية متنوعة لا تكترث بانتظام الزمن؛ بهدف تشكيل قوام سردي معني بابتكار نص جديد، يضيف لبنية الرواية حلية جديدة بما تحمله من عوالم وحيوات وفضاءات وشخصيات، تنهض بالمعمار الروائي وترتقي به. فالرواية تغامر في التجريب، مستفيدة من حقول معرفية عديدة، وأشكال إبداعية مختلفة، وستظهر بالتأكيد رواية جديدة متحررة من جميع الأطر التي اعتدنا عليها؛ لصياغة التشكيل الروائي بقوالب غير جاهزة، تعيننا على فهم الحياة وتطورها من جهة، كما تعيننا على إنجاز طرائق تجريبية متجددة باستمرار.
أداة سياسية
يقول الناقد الأكاديمي الأردني عماد الضمور: إن خصوصية الرواية الفكرية وخصائصها الجماليّة جعلت منها جنسا أدبيّا شائع الانتشار، خاصة بعدما أصبحت تنشد العالمية بفعل عوامل ثقافية وسياسية كثيرة، جعلت الرواية قادرة على تجاوز المحليّة إلى التشكّل في أبعاد إنسانية ذات دلالة فكريّة كاشفة للواقع بطرائق الرواية الفنية ومعاييرها الجمالية. إنّ تحيز الرواية السياسي وخضوعها لمنزع أيديولوجي معين، أسهم بشكل فاعل في تحديد مضامينها وتشكيل أدواتها الفنية، بعدما أضحت الرواية وسيلة للتوجيه الفكري، وبؤرة مهمة لإضاءة جوانب خفيّة من المجتمع، تُعلي من المسكوت عنه، وتبني جسورا من التواصل مع فئات مهمشة أو مُغيبة، وهذا يتطلب من المتلقي الوقوف عند التفاعلات الفكرية التي تحققها الرواية في سياقها الاجتماعي ومنظومتها الفكرية.
لعلّ المعمار الفني والتشكيل الجمالي للرواية يعكس أهميتها وخصوبتها المضمونيّة. وبناء على ذلك، فأهمية الرواية من حيث المضمون، أنها أداة سياسية تجاوزت عفويتها الواقعية إلى قصديّة إيديولوجيّة جعلتها تتشكّل في قوالب فنية جديدة بعيدا عن السرد الكلاسيكي أو التخيل التاريخي، وأضحت الرواية مع ذلك كله ميدانا واسعا للتجريب الفني والتداخل الأجناسي في توليفة اجتماعية حضارية تتعانق فيها العواطف الإنسانية المتصارعة؛ لترسم ملامح عالم جديد يمتاز بثراء المتن، وبذاخة السرد واكتنازه بالمعنى العميق. وفي ظل هذا الفهم لأهمية الرواية، فإن ما يتسرب إلى وعي القارئ من أفكار مسبقة، حول مقاصد الرواية المعاصرة قد يُسهم في موت المتعة الفنية لتلقي الرواية بحثا عن منزعها الأيديولوجي ومؤسساته الداعمة له. لذلك فإنه ليس بعيدا أن نجد الرواية بعد عقدين من الزمن قد جعلت من غوايتها السردية وسيلة للتورط في دسائس السياسة ودهاليزها الضيقة متجاوزة الفن ورسالته السامية.
الشكل الأمثل للتعبير
يرى الروائي التشادي طاهر النور أن الرواية ستظل متربعة على قمة هرم الفنون العالمية، بغض النظر عما تكون عليه الحياة في العقود المقبلة، لأنها الشكل الأفضل والأمثل للتعبير عن الألم والفرح الإنسانيين، ولن يزعزعها عن هذا أي فن آخر. كما أعتقد أن انفتاحها على تذويب أي فن أو علم يريد الكاتب المجازفة فيه يساعد على استمرارها، وعلى طرح السرد بطريقة غير مسبوقة، لأنه ما من قيد أو شرط في الإبداع، الذي كلما استمر في تراكمه، انفتحت عليه الآفاق، وطرق عوالم أكثر رحابة وجمالا وروعة. ومثلما كنا نعتبر الرواية في العقود السابقة رواية كلاسيكية، وما بعدها حداثوية، وما بعد حداثوية ومن ثم تجريبية، فإننا بلا شك سنشهد طرحا جديدا على مستوى الشكل والتقنيات والدراما. ولعبة العالم الجديد تتطلب من الروائي أن يكون على وعي تام حتى يتمكن من مسايرة سرعتها الهائلة، وتدفقها اللامعهود. على الرغم من أن التجريب ليس هو اللون الغالب على الرواية العربية، وأنه يطرح بشكل خجول هنا وهناك على مستوى السرد العربي. لكننا نعلم أن أي خطوة نحو النمو تحتاج إلى وقت طويل كي تحظى بالاهتمام وتأخذ حيزها على النحو الأكمل. وهذا يعني ببساطة أن الاكتمال ممكن، والوصول إليه مرهون بمدى الوعي التام بحتمية المجازفة السردية، والعمل على تطوير الإرث الجميل الذي تركه أساتذة السرد الكبار.