"ينبغي أن نذهبَ إلى الشعر بأعناقٍ مُحرَرة"، هكذا خطّ الشاعر البحريني قاسم حداد طريقه في الكتابة والشعر، ولم يحتجز نفسه في نوعٍ واحدٍ من أنواع الكتابة. ارتبط درسه الأول بنزار قباني، بعد رفض المحرّر نشرَ قصيدته الأولى، "الأسطورة الصفراء"، واعتبارها تقليدا فاشلا لشعر قباني، ليكون لذاك الدرس أثر ترك بصمته في تجربته التي توالت لتتجاوز أعماله الأربعين ديواناوكتابا.
قاسم حداد شاعرٌ بحريني، وُلد سنة 1948، وعُرف بمساهماته في الثقافة والإبداع، وهذا ما جعله يشارك في تأسيس "أسرة الأدباء والكتاب في البحرين" سنة 1969.
ينقسم أسلوبه إلى ثلاث مراحل شعرية، الأولى يظهر فيها الحس الخطابي والغنائي، الذي يدين الواقع ويحرض على التغيير وتجلّت في دواوينه الثلاثة الأولى، "البشارة"، "خروج رأس الحسين من المدن الخائنة" و"الدم الثاني".
أمَا المرحلة الثانية فتبلورت بدايتُها في مجموعتيه، "قلب الحب" و"القيامة"، وهي مرحلة عكست تطورا في وعي الشاعر بالذات والعالم واللغة، مُشكلا قطيعة مع منجزه السابق، لتمتد حتى العام 1991، لتبدأ بعد ذلك مرحلة ثالثة، كان عنوانها المغامرة مع اللغة واستدعاء الأصوات والرموز والأقنعة.
هناك مرحلة رابعة تمثلت في التجارب الإبداعية المشتركة مع أصدقاء عبر فنون تعبيرية أخرى، مثل تجربته مع الروائي البحريني أمين صالح والرسام العراقي ضياء العزاوي والفنان مارسيل خليفة والشاعر أدونيس والفوتوغرافي السعودي صالح العزاز، عدا عن مشروعيه مع ابنته الفوتوغرافية طفول وابنه الموسيقي محمد، وهما "طرفة بن الوردة" و"أيها الفحم يا سيدي".
"جوهرة المراصد"، دفتر الحضور والغياب هو آخر إصداراته، كتابُ السيرة الذاتية الذي كتب فيه عن أصدقائه، ممن شاركوه في صياغة حياته، ونحن نحاور صاحب الفصل الأخير فيه، "قاسم حداد... تقريبا" كما جاء عنوانه.
-
"قاسم حداد... تقريبا"، ماذا يمكن أن تقول لنا عن ذلك؟
"قاسم حداد... تقريبا" كتبته استجابة لطلب من الصديق الكاتب سعد الدوسري لمجلة تصدر في الإمارات، كان يعمل بها منذ سنوات.
-
ما بين ديوانك الأول، "البشارة"، 1970، وديوانك الأحدث، "ثلاثون بحرا للغرق"، العديد من الدواوين، عَرَفت فيها لغتُك الشعرية تحولاتٍ مهمة، كيف تُقيم حركة النقد الشعري انطلاقا من تجربتك الخاصة، وهل تشارك بعض الشعراء العرب اعتبارهم الشعر العربي الحديث حالة يُتم؟
أعتقد أنَ حظنا في النقد أفضل من الجيل الجديد. ما يُنشَر من كتابات في راهن التجربة الشعرية يقصُر عن طرح رؤى نقدية، توازي التجربة الجديدة وتحاورها. لذا سوف نصادف التعثر الملحوظ في العديد من التجارب الجديدة، لغلبة كتابات المجاملة حدّ القصور الأدبي فنيا. في الوقت نفسه ليس ثمة ما يجعلني أُصادر حق الناقد في معالجة ما يراه، بالشكل الذي يراه، خصوصا أنني أظن أن الناقد، هو قارئٌ مميز يرغب في كتابة ما يشعر به إزاء النص، وتعدد القراءات للنص يفتح المزيد من الآفاق أمام القراء، وبهذا يصير للشعر الحديث الكثيرُ من الآباء وليس يتيما.
دروس الرفض
-
في كتابك "جوهرة المراصد"، قلت إنَ المحرر الأدبي رفض نشر قصيدتك المبكرة، "الأسطورة الصفراء"، واعتبرها تقليدا فاشلا لنزار قباني. كيف كان ذاك الحُكمُ عليك، وهل يُقيَّم الشاعر من تجربته الأولى أم هناك شعراء انقلبوا على أنفسهم؟
كان ذلك رئيس تحرير جريدة "الأضواء" في ستينات القرن الماضي. تعالي انظري الى رؤساء تحرير هذه الأيام، مزاعمهم كثيرة لكن أكثرهم لا يرقى الى المثقف العادي، وبعضهم يدخل في آلة الإعلام الرسمية. أمّا في خصوص التجربة الأولى، فسوف نصادف في تعثر، بعض تجارب الشعر الجديد، ما يشي باختلاف حدّ الارتباك بين الكتاب الأول والكتب التالية، لذا أشعر بضرورة الانتظار لاكتمال التجارب، وعدم التسرّع وارتجال المواقف تجاه التجارب الشعرية المبتدئة.
-
إذاً، أنت تنتقد محرري الشعر اليوم بوصفهم متساهلين مع الشعراء الجدد، وهل ذاك التشدد هو الذي ساهمَ في خلقِ مشهدٍ شعريٍ غني؟
لا أتهمُ أحدا، من تجربتي صادفتُ مَن يستهين بالكتابة الأدبية، ويتساهل في إدراك خطورة اللغة بالنسبة إلى مُمارِس كتابة الأدب. فسوف أعرف اهتمام الكاتب بلغته منذ أول صفحة. لستُ متشدّدا ولا أدعو إلى ذلك، أميلُ إلى الاعتناء الكبير باللغة عند الأديب، من الطبيعي أن نخطئ، لكن علينا الاهتمام بتجويد لغتنا.
-
يقول إدوارد سعيد: "إنَ كلَ أصل له أصلٌ سابقٌ عليه"، هل تنطبق هذه المقولة على الشعر في نظرك؟
هذا ما أعنيه تماما، فالعناية بالتراث لا تعني الخضوع له كحكم قيمة. اللغة من بين الأصول التي تكمن في التراث، ينبغي العناية بأصولنا، وكما أنَنا نعتني بالغني فيها، فسيكون علينا أن نصوغ أصولا جيدة لمن يأتي لاحقا.
-
إذن، هل فعلا تتم اليوم العناية بها وصوغ أصول جديدة، وهل ترى شيئا يمكن أن يشكل تهديدا للغة؟
الشاعر لا يشكل تهديدا للغة، الشعراء أكثر المساهمين في صياغة البنى اللغوية. علينا اكتشاف اللغة وتوسعة القواميس من نصوص الشعراء. ما يثيرني الاستهانة باللغة لدى بعض التجارب الجديدة، علينا قبول الأخطاء كاحتمال وارد، ونتفهم الأمر، لكن هذا لا يعني تهاوننا في أمر عدم الاكتراث باللغة.
دعونا نقرأ النصوص ونتجاوز الأشخاص، فالخلق الشعري يكمن في النصوص
-
بوصفك شاعرا شَغلت موقع المحرر الأدبي في وقت من الأوقات، كيف تعاملت مع ما قُدِم إلبك من شعر، كمحرر يستلزم عمله الموضوعية وكشاعر ينحاز إلى مفهوم معين للشعر؟
كنت، وأرجو أنني لا أزال، متصلا بالأجيال الجديدة المختلفة، كنت اقرأ ما يصلني للنشر في موقع "جهة الشعر" واعتدت على محاولة نشر المتميز منها، وأكثر تلك المواهب، التي هي الآن كتّاب معتبرون، يقبلون من "جهة الشعر" ملاحظاتها، وظلت هذه المواهب متصلة بالموقع، تقديرا منها لدوره الإيجابي في تجربتها. كنا نحاول جعل تلك الأصوات متبلورة وقادرة على مجابهة الاستسهال وإثبات نفسها في مشهد الكتابة الأدبية.
-
أتاحت منصات التواصل الاجتماعي فرصا للشعر وللشعراء للوصول إلى القراء لم تحظَ بها الأجيال السابقة، هل نحن إزاء مشهدٍ شعريٍ غني أم فوضوي؟
كنتُ اقترحتُ الانتباه النقدي لما ينشر في الانترنت، وعدم الاستسهال. ثمة تسابقٌ غير موضوعي في حجم النشر الأدبي في شبكة الإنترنت. فالفوضى ليست عربية فحسب، ففي كل العالم تحدث هذه الظاهرة. أتمنى تفادي تفشي هذه الفوضى التي يساعد عليها بعضُ التسرع لدى الأجيال الجديدة، دون أن أضع نفسي في موقع القاضي، فربما هناك حساسية أدبية مختلفة لدى أجيال شباب هذه المرحلة.
-
عُرِفتَ بصداقتك مع الشعراء من كل الأجيال، بل إنك تعتبر الصداقة مصدرا من مصادر شغف الشاعر بالشعر، كيف تنظر إلى مصطلح "الأجيال الشعرية"، في ضوء اختلاف القضايا التي تشغل كلَ جيل، وانعكاسها على مُنتَجه الشعري من لغة ومفردات وغير ذلك؟
لا أميل الى تقسيم الكتّاب إلى أجيال زمنية، فشاعر مثل أدونيس وقد تجاوز التسعين عاما لا يزال يكتب جديدا، فالموهبة، ما دامت قادرة على العطاء، تظل قادرة على الإبداع. دعونا نقرأ النصوص ونتجاوز الأشخاص، فالخلق الشعري يكمن في النصوص. كما أن ليس ثمة موضوعات محددة، أو مفروضة، أمام الشاعر. نتوقع من الشاعر تناول القضايا الكبرى في نصوصه، وربما صادفنا موضوع فلسطين أو غيرها، غير هذا ليس فرضا محتوما، على أن نُحسِن الفرق بين الموضوع والمضمون في النص الأدبي والفني.
-
لديك تجارب في ربط شعرك مع فنون أخرى كالموسيقى والتشكيل والرسم والسينما، ومنهم مع أبنائك، ماذا تُقدم هذه الشراكة بين الفنون وهل شعرتَ يوما أنك تقوم بهذا الربط انطلاقا من خوف على الشعر الحديث من عزلته؟
شخصيا، تعلمت كثيرا من التجارب المشتركة مع فنون التعبير المختلفة. فالوسائل الجديدة تفتح أمام الكتابة آفاقا يجب عدم التأخر عن الاستفادة منها. من أجل وضع الكتابة في سياقٍ حضاريٍ يليق بها.
الوسائل الجديدة تفتح أمام الكتابة سبلا يجب عدم التأخر عن الاستفادة منها
-
إقامتك الأوروبية خارج البحرين استمرت لفترات غير قصيرة تماما، في ألمانيا خصوصا، وقد كتبت في المكان وعنه، ربما تُسميها إقامة أدبية، لكن ما المغزى الذي تعطيه لهذه الإقامة، وهي عمليا منفى لبعض الشعراء العرب، وهل انعكست بشكل ملموس على شعرك؟
غير مرة، قلت إنَ ثمة فرقا بين الزيارة السياحية لبلد ما والإقامة الطويلة. حيث تتعرّف الى المجتمع والطبيعة الإنسانية في الإقامة. في ألمانيا شعرتُ بحرية التعرّف وتجاوز إعلان الحرب الباردة حيث كانوا يقولون لنا (طوال خمسينات وستينات القرن الماضي) عن جلافة الانسان الألماني ووحشيته. يوم طرحت هذه الفكرة في إحدى الندوات هناك، فوجئ الجمهور بهذه الحقيقة. وكنتُ قلتُ لهم إنني اكتشفت إنسانية المجتمع الألماني، وجمالية الإنسان هناك.
تجربتي الألمانية تظل حاضرة في جانب ما كتبتُ. لكن من المؤكد أنَ هذا لن يبدو مباشرة، سيحتاج الأمر بعض الوقت، لكن من الأكيد أنني كتبت بحرية كاملة هناك.