في أرض مصر نبت، وعلى جبينها حفر بفكره وجُهده أخاديد من المعارك الفكرية والسياسية التي شغلت العالم ومازالت.. وبعد أن أُنهك الجسد المُتعب.. في ثراها رقد بعد أن وافته المنية. ثلاثة عشر عاماً مرت على رحيل الفيلسوف والمفكر وأستاذ الأدب الإنجليزي والموسوعي المصري الكبير الدكتور عبدالوهاب المسيري (1938- 2008م)،
ومازالت أفكاره وآراؤه ومعاركه، وقبلها جُل مؤلفاته التي جعلت منه واحداً من أبرز وأنبل مُفكري عصره، نبراساً حياً وشاهداً على رحلة عطاء كبير لعالم وبروفيسور قلّما يجود العصر بمثله.
كان المسيري دائماً ملء السمع والبصر، فهو واحد من أبرز المؤرخين المصريين والعرب المُتخصصين في دراسة (الحركة الصهيونية)، نراه في أغلب الصحف والمجلات، حاضراً في كل منبر للفكر الحر، وموجوداً في الشارع المصري وسط الجموع.
ولد عبدالوهاب المسيري بمحافظة البحيرة بمدينة (دمنهور) في عام (1938م) لأسرة ميسورة الحال واصل دراسته حتى تخرج في كلية الآداب جامعة الإسكندرية قسم اللغة الإنجليزية عام (1959م)، ثم عين معيداً بذات الجامعة بعد تخرجه. وفي عام (1963م) سافر إلى الولايات المُتحدة الأمريكية لينال درجة الماجستير، ثم الدكتوراه من جامعة رنجز بنيوجيرسي عام (1969م).
عقب العودة إلى مصر في بداية السبعينيات عمل بالتدريس في عدد من الجامعات المصرية والعربية والإسلامية، وعمل أُستاذاً زائراً في أكاديمية ناصر العسكرية، كما عمل مُستشاراً ثقافياً للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة في نيويورك (1975 - 1979م)، وعمل الدكتور المسيري أيضاً عضواً بمجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية في ليسبرج بولاية فرجينيا بأمريكا، كما عُين مُستشاراً للتحرير في عدد من الحوليات الأكاديمية التي تصدر في ماليزيا وإيران وإنجلترا وفرنسا وأمريكا.
وقبل وفاته بعام في (2007 م) تولى منصب المُنسق العام للحركة المصرية من أجل التغيير.
كان الدكتور عبدالوهاب المسيري في عام (2001م) وبعد رحلة عطاء كبيرة عبر مشوار حياته، وهي الحياة التي تخللتها معارك شتى في الفكر والعلم والسياسة ما بين السفر والترحال هنا وهناك، وبين المناصب العديدة التى تبوأها، قد قدم قبل رحيله بسبع سنوات سيرة حياته الفكرية في كتاب بعنوان (رحلتي الفكرية - في البذور والجذور والثمر)، وهي السيرة التي تمنح القارئ الدلالات الكافية عن كيف ولدت أفكار المسيري وتكونت، والمنهج العلمي والتفسيري الذي طالما استخدمه، ابتداء من رؤيته في المُجاز ونهاية التاريخ، وانتهاء بأفكاره عن اليهود والصهيونية.
والمُفكر عبد الوهاب المسيري شغل الساحة الفكرية العربية والعالمية بجل مؤلفاته في شتى المجالات.
وقدم للأطفال: نور والذئب الشهير بالمكار، وسندريلا وزينب هانم خاتون، ورحلة إلى جزيرة الدويشة. وله ديوان شعر بعنوان: أغاني الخبرة والبراءة: سيرة شبه ذاتية وشبه موضوعية عام (2003م)، وقد تُرجمت بعض أعماله إلى الإنجليزية والتركية والبرتغالية والفارسية.
وما يلفت النظر في إنجاز المسيري الفكري هو اهتمامه الشديد بالمنهجية، وإسهاماته في فهم وحل مشكلة المنهج.
وكان الدكتور المسيري قد اشتهر في الفكر العربي بمساهمته في نقد (العَلمانية) ولكن بطريقة مثالية، فلم يكن عنيداً أو مُتعصباً في أطروحاته، ويظهر ذلك من خلال طرحه كتاب (العَلمانية الجُزئية والعَلمانية الشاملة).
وبخلاف مواهبه الأخرى المُتعددة ودراساته القيمة في الحركات اليهودية، وكُتب الأطفال والأدب المقارن، وبناء اللُغة وتحليل العلاقات، فقد ربط الدكتور المسيري بين الفكر والحركة والعمل السياسي، فلم يعزل نفسه كمُثقف في برج عاجي، بل نزل للشارع وشارك في تبصير الرأي العام بوجوده وفكره.