مع خواتيم العام 2022 تم في العاصمة السودانية الخرطوم عن الفائزين في مبادرة "كتابة" لنشر الشعر السوداني، لتبدأ ملامح ختام الدورة الأولى من المبادرة التي أطلقها الشاعر محمد عبد الباري، وحظيت بمساندة مؤسسات وشخصيات ثقافية داخل السودان وخارجه.
راء مدهش وتعدد وتنوع في الأصوات، هكذا يوصف المشهد الشعري السوداني من قبل المتابعين له.
لكن الوصول له ومتابعته أمر لا يخلو من عُسر وغالبا ما تكون طباعة الدواوين ونشرها وراء ذلك. وذلك مما لمسه الشاعر محمد عبد الباري، وعن هذا يقول للجزيرة نت "أتاح اغترابي عن السودان أن ألحظ النقص الفادح في وصول الشعرية السودانية إلى المتلقي خارجه، ولا شك أن أحد أسباب هذا القصور يعود إلى ضعف حركة النشر، بل وتعذرها في أحايين كثيرة".
لعل غربة عبد الباري الطويلة جعلته يلحظ ذلك بوضوح وحركت فيه الرغبة في القيام بفعل إيجابي، وهذا ما قاله في إفادته المتصلة، التي ذكر فيها أن تجربته الشخصية كانت السبب والدافع، مضيفا "حتى آخر زيارة قبل شهرين، كانت الهوة تتعاظم في عيني، بين كثافة وتميز الأصوات الشعرية السودانية، قديمها وحديثها، وبين حظها المنقوص في الحضور عربيا وإقليميا ودوليا".
وأردف "بعد تفكير ومدارسة مع الأقربين كانت مبادرة "كتابة" التي يعرفها أهلها بأنها مبادرة سنوية تهدف لدعم حركة النشر الشعري في السودان. وتستهدف المبادرة بشكل مبدئي دعم الأصوات الشعرية الجديدة، بالإضافة إلى الأصوات المكرسة والمهمة ابتداء باللحظة الراهنة وعودة إلى أصول وكلاسيكيات الشعر السوداني".
أفكار كثيرة ذهبت مع الريح عندما لم تجد قلوبا تحتويها، لكن "كتابة" مبادرة نمت وتحولت من التخطيط إلى التنفيذ، فشركاء الهم لم يتركوا شريكهم وحيدا.
وبحسب حديث عبد الباري، فإن جهات كثيرة وقفت مع المبادرة لتتحول من مبادرة يحمل محمد همها منفردا إلى 3 هياكل (مجلس أمناء، ولجنة إدارية تنفيذية، ولجنة تحكيم)، ليختار محمد مقعده عضوا فقط في مجلس الأمناء رفقة عدد من الأدباء والأكاديميين، ويترك رئاسة المبادرة للشاعر عالم عباس محمد نور، والأمانة العامة للدكتور الصديق عمر الصديق مدير معهد العلامة عبد الله الطيب بجامعة الخرطوم، ومدير بيت الشعر الخرطوم.
هذا وتتعاون "كتابة" فيما يخصُ النشر بالإضافة لدار جامعة الخرطوم، مع دار صوفيا للنشر والتوزيع، وهي الناشر العربي لأعمال المبادرة. ودار الأجنحة للطباعة والنشر والتوزيع (الناشر السوداني لأعمال المبادرة) التي تعد من الدور الوليدة والمتميزة في مجال النشر، واستطاعت أن تضع بصمتها في سوق النشر المحلية والخارجية، وتعنى المبادرة في طورها الأول بنشر الشعر الفصيح بكافة مدارسه وحساسياته الفنية، ويمكن في المستقبل أن تنفتح على بقية الأشكال الكتابية من نقد ورواية وقصة.
تم الإعلان عن الدواوين الفائزة وكان أولها ديوان "معارج لشرفة عذراء" للشاعر السر مطر، بينما كان الثاني ديوان "يُروى عن الطفل الحكيم" للشاعر زكريا مصطفى، وكان الشاعر عبد الرحمن الفاتح ثالثا بديوانه "نصف يوم من النبوة"، كما نوهت اللجنة بالشاعر أنس عبد الصمد وديوانه "تمائم أبنوسية" والشاعر مجتبى عبد الرحمن عن ديوانه "رقص أسمر".
سألنا الشاعر العراقي عارف الساعدي رئيس لجنة التحكيم عن المبادرة، فقال للجزيرة نت "هذه واحدة من المبادرات المهمة التي تعزز واقع الشعر العربي الحديث وتفتح نوافذ لهواء نظيف يتنفسه الشعراء الشباب في السودان".
مساران
تشق مبادرة "كتابة" طريقها في مسارين، أولهما نشر أعمال الشباب دون الـ40، وهذا ما سيتحقق للدواوين الفائزة، وكانت آلية التنافس قد حُددت بلائحة خاصة بالمسابقة.
أما المسار الثاني فقائم على ترشيح دواوين وأعمال ترى المبادرة أهمية طباعتها، أو إعادة طباعتها، لرواد الشعر السوداني ورموزه، وأصحاب التجارب الشعرية الكبيرة، وفي هذا يعلق رئيس مجلس الأمناء عالم عباس محمد نور قائلا "ظلت الطباعة ونشر الشعر هاجسا يؤرق شعراء السودان، بل كانت سببا في توقف مشاريع شعرية ورغم أن الحال يبدو أفضل مما مضى فإن المشكلة ما زالت قائمة"
ويضيف عالم للجزيرة نت مثنيا على المبادرة ومؤسسها "من الجميل أن يلتفت شاعر في هذا العمر لما يحيط بشعراء جيله، والشعر السوداني عامة، وأن يسخر إمكاناته وعلاقاته لخدمة الشعر السوداني".
وعن اختيار الشاعر الراحل عبد الله موسى إبراهيم (عبد الله شابو) (1928-2022) شخصية لهذه الدورة، سألنا عالم فقال "كثيرا ما احتفى شابو بالشعراء الشباب، وكان رهانه عليهم كبيرا، واستطاع أن يكون قريبا منهم، مشكلا حلقة وصل بينهم وأجيال سابقة"، وكان شابو من أقرب الشعراء لجيل الشباب إلى أن رحل في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
كل ما سبق من أعمال إدارية وأعباء مجلس أمناء، ولجان تحكيم كان عملا تطوعيا دون مستحقات مالية أو حوافز.
وبحسب ما تقوله المبادرة فإنها تعتمد في تمويلها بشكل أساسي وأولي على عائدات الطبعة السودانية من دواوين محمد عبد الباري، بالإضافة إلى مساهمات الشركاء والرعاة التي لا تبدو جيدة، لكن إيمان هياكل المبادرة بها وبالشعر جعلها تبلغ هذه المرحلة.
وربما يتغير الحال في مقبل الأوقات إذ تم الكشف في المؤتمر الصحفي عن تواصل مع مؤسسات جديدة بحثا عن رعاية ودعم للمبادرة، ومن المتوقع أن تتضح المعالم في وقت قريب.
سألنا محمد عبدالباري عن شعوره بما تحقق فقال "الشعور الآن مركب، فرح بما أنجز حتى الآن، من جهة تأسيس المبادرة ذاتها، ومن جهة انتهاء الدورة الأولى منها بنجاح أسهم فيه الجميع، ابتداء بمجلس الأمناء ولجنة التحكيم ومرورا باللجان الإدارية والإعلامية وليس انتهاء بالمشاركين في هذه الدورة، وشعور التطلع إلى مستقبل المبادرة بما فيه من فرص وتحديات، وكلي أمل أن تشق هذه المبادرة طريقها نحو خدمة المشهد الثقافي السوداني خاصة والعربي والدولي عامة".
بحسب الجداول الزمنية المعلنة، من المفترض أن تدشن الأعمال الفائزة وأعمال شخصية العام في 19 يونيو/ حزيران من هذا العام 2023، وأن يفتح باب التقديم للموسم الثاني 2023-2024.
ربما لا يبدو الأمر كبيرا عند البعض، لكن فكرة التنادي لخدمة الثقافة والشعر محبة فيه وإيمانا بأهميته فكرة جديرة بالاحتفاء، ويرى عالم عباس محمد نور في ختام إفادته أن نشر الشعر السوداني وكل منتج ثقافي مهمة يجب أن تقوم بها الدولة، ولكنها بحسب رأي عالم "لا تأبه، ومشغولة عنها. فالثقافة استثمار طويل الأمد لكنه عظيم الفائدة للدول ويحتاج من يدرك ذلك".
الثقب الذي أحدثته هذه المبادرة سيمكن دواوين كثيرة أن تبث ضوءها، ويمنح تجارب كثيرة من الهواء لم يصل إلى رئات رواد سابقين، لتستمر الكتابة.