يدافع الغربي عن قيمه الثقافية المادية باعتبارها متطورة عن باقي القيم التي تحملها الشعوب التي كان يستعمرها، ولذلك عمل على نشر ثقافته ولغاته في كل مستعمراته، وبعد الاستقلال ظلت صورته ثابتة لديه عنها. يبدو هذا في أن على كل من يريد العيش في الغرب أن ينخرط في ثقافة المجتمع، وأن عليه التخلي عن قيمه الأصلية، ومعتقداته السابقة.
إن القيم الغربية ليست دائما هي ما يبرز في أدبيات هذه المجتمعات عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، التي بها يعلن عن تميزه عن المجتمعات المتخلفة وغير الغربية، بل إن من بين هذه القيم نجد الاعتقادات الدينية تحتل موقعا مركزيا ضمنها، رغم كون الغرب يُعِد غيره متخلفا بسبب اعتقاده الديني، لكن القيم الدينية الغربية يعتبرها الغرب جزءا من هويته الثقافية التاريخية، ويمكن لمن يريدون إدماجه في بيئته أن يتبنى المسيحية مثلا في أي من مذاهبها، دون أن يكون ذلك مانعا له عن الانخراط في هذا المجتمع، والقبول به مواطنا، ما دام يعلن صراحة تخليه عن دينه الأصلي.
إن هذا الآخر المختلف عن الغرب، الذي عليه الاستقرار في الغرب هاربا من جحيم بلده الأصلي لأسباب يتعلق بعضها بالهيمنة الغربية، يفرض عليه تعلم لغة البلد، والإحاطة بتاريخه، وثقافته، وعليه ألا يدافع عن قيم بلده الأصلي ما دامت تتعارض مع بلد اللجوء، وإلا اعتبر آخر غير مرحب به، وعليه اختيار ما يبرر بقاءه، أو يسوغ طرده. إذا أعلن لاعب كرة القدم العربي في فريق غربي تضامنه مع فلسطين سيصبح لا ساميا، ومحرضا على الكراهية. ومثال الممثلة المكسيكية التي تدين قتل الأبرياء في غزة تعفى من مواصلة بطولتها في فيلم أمريكي، والأمثلة كثيرة، أما الصهيوني الذي يحرض المغاربة على الخروج لإدانة المقاومة الفلسطينية فله كل الحرية في الدفاع عن قيمه، أما الفلسطيني الذي يضع الكوفية في أمريكا فيتعرض للاضطهاد هناك.
لكن الغربي في بلاد تختلف عن قيم وأفكار بلاده فهو متعال على ما يهيمن في هذا البلد الذي يسافر إليه من قيم، وله كل الحق في أن يعبر عن معتقداته، وأن يفرض وجهة نظره، وأن يمارس كل حقوقه وعاداته في الأكل والشرب تماما كما ظل يمارسها في بلده. ولعل من بينها دخوله لهذا البلد دون تأشيرة، وإذا كانت له سطوة وسلطة في بلده فيمكنه أن يتصرف في البلد المختلف بكل حرية، بحيث يمكنه: تصريف سياسة بلده، وتأطير الناس ضد بلدهم الأصلي، باعتماد مختلف الأساليب الظاهرة والخفية، بما فيها شراء الذمم، والرشوة، دون أي رادع أو موجب يطلب منه الخضوع لقيم البلد الذي هاجر إليه، بل هو قادر حتى على اغتيال المعارضين لسياسة بلده، والشواهد لا حصر لها.
المسألة الكبرى تتمثل في تعامل المسلمين والعرب، وأخص بالذكر بعض المثقفين الذين بانصياعهم لهذه الأطروحة، ودفاعهم عنها باسم الحداثة، والتنوير، والحوار والتسامح، وما شئت من المفاهيم التي توظف دون أي سند فكري، أو إطار تصوري يساهمون بدورهم في تكريس تلك الأطروحة.
منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول صار الإسلام رديف الإرهاب، بل غدا كل مسلم أو من يدافع عن الإسلام، أو يتحدث عنه إرهابيا بشكل أو بآخر. لا أحد ينكر أن هناك متطرفين إسلاميين، وهم يمارسون الإرهاب على المسلمين أيضا. لكن الآلة الإعلامية الصهيونية والأمريكية والغربية تسعى إلى جعل كل المسلمين «إرهابيين» مفترضين يجب القضاء عليهم. ولنا فيما تمارسه إسرائيل قبل طوفان الأقصى وخلاله، وهي تدمر البلاد والعباد انطلاقا من تعاملها مع كل مواطني غزة على أنهم حماس، وأنهم إرهابيون حتى الأجنة في أرحام أمهاتهن إرهابيون، ويجب مسحهم من الأرض قبل أن يتحولوا إلى مزعجين لها بعد ولادتهم. يسلم الجميع أن التطرف والإرهاب ليس لأي منهما وطن، لكن جعلهما مرتبطين فقط بكل ما هو إسلامي يعطي للتطرف والإرهاب الصهيوني والمسيحي إمكانية ممارستهما التطرف والإرهاب، دون أن تشوبهما شائبة، فهما يحاربان «الإرهاب» لكن ليست المشكلة في جوهرها في كيفية تعامل الغرب بصفة عامة مع الإسلام، فتاريخه الصليبي والاستعماري القديم والجديد لا يحتاج إلى برهان.
لكن المسألة الكبرى تتمثل في تعامل المسلمين والعرب، وأخص بالذكر بعض المثقفين الذين بانصياعهم لهذه الأطروحة، ودفاعهم عنها باسم الحداثة، والتنوير، والحوار والتسامح، وما شئت من المفاهيم التي توظف دون أي سند فكري، أو إطار تصوري يساهمون بدورهم في تكريس تلك الأطروحة. فكثر لدينا من «المفكرين» الذين يدعون الدفاع عن قيم جديدة، ويسعون إلى التجديد، يجعلون الإسلام والعروبة، والتاريخ الإسلامي هدفا لمراميهم الأيديولوجية المسمومة غير مميزين بين من يمارس الإرهاب والتطرف بمختلف صوره وأشكاله، سواء مع اليمين المتطرف أو بعض التيارات الإسلاموية. يمكن لهابرماس مثلا، وللجندي الذي دمر حيا بكامله احتفاء بعيد ميلاد ابنته أن يتباهى مع المتطرف الديني في الغرب، وأن يدافع عن الطريقة التي يقتل بها الصهيوني المدنيين، لكن أن يفعل ذلك أدباء ومفكرون عرب أو مسلمون، فذلك تعبير عن استلاب ثقافي يجعلهم يرون الإرهاب الديني الغربي حضارة، وما تقوم به المقاومة عملا وحشيا. إن موقفهم من الدين والتاريخ الإسلامي يبيح لهم القول بأن للغرب دينهم، وغيرهم لا دين لهم.