يعد الشيخ محمد البشير الإبراهيمي (1889/1965) رائدا من رواد الإصلاح في الجزائر، وعلما من أعلام اللغة والأدب في القرن العشرين وهو بمعية الشيخ عبد الحميد بن باديس وعصبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، رجال كلمة وفرسان جهاد في سبيل نشر العربية والدين والقومية العربية والروح الإسلامية، في بلد أراد له الاستعمار طريقا غير الذي درج عليه، من أجل نهبه واستعباد شعبه وتكريس تخلفه وتبعيته وذلته.
تلك الجمعية الشهيرة التي رأسها عبد الحميد بن باديس أول الأمر عام 1931 وجعلت شعارها «الجزائر وطننا والعربية لغتنا والإسلام ديننا» ثم آلت رئاسة الجمعية إلى البشير الإبراهيمي بعد وفاة ابن باديس عام 1940 وقد اضطلع الإبراهيمي بالمهمة خير اضطلاع جامعا بين المهام الوطنية والدينية والأسرية، لكن إقامته في المشرق تظل علامة فارقة في مسار الرجل، فهو المثقف العصامي الذي نهل من مصادر الأدب وحفظ متون اللغة حتى غدا في اللغة حجة، وكأن الفراء والكسائي وثعلب وقطرب في إهابه، ما شكل صدمة لبعض المشارقة أول الأمر، فقد كانت أخبار الجزائر لا تصلهم إلا مشوشة بفعل الدعاية الاستعمارية، وأن هذا البلد قد تفرنج فلا أثر لعربية ولا لدين فيه، وقد شهد شوقي بذلك أثناء زيارته للجزائر للاستشفاء، ثم أكد ذلك سلامة موسى لكن وجود الإبراهيمي في المشرق وخطبه النارية ضد الاستعمار وفصاحته المثيرة وعلاقاته الكثيرة برجال السياسة والفكر والدين في المشرق، جعلت كثيرا من المشارقة في ذلك الإبان يغيرون النظرة ويعرفون أن ما وصلهم ما هو إلا كيد استعماري وتظليل إعلامي إمبريالي.
الإبراهيمي الذي غادر الجزائر عام 1911 للالتحاق بوالده في الحجاز، حيث تعرف على الشيخ العربي التبسي وتبادلا وجهات النظر في تأليف جمعية للدفاع عن ثوابت الأمة ضد المسخ الاستعماري، ونشاط التنصير وفرنسة المناهج الدراسية، وليس بخاف أن السجن أو النفي سيكون مصير كل حر يتمرد على دوغمائية الخطاب الاستعماري والغلق سيكون مصير كل مدرسة تتمرد على المناهج الفرنسية، غير أن حدثا جللا وقع في الحجاز تمثل في ثورة الشريف حسين حاكم المدينة المنورة ضد الخلافة العثمانية ولحساب الإنكليز، وكان الإبراهيمي ضد هذه الثورة، ما تسبب في طرده وجماعة كبيرة من الحجاز ليستقر في الشام أربع سنين بداية من عام 1916.
ولقد أقمت بين أولئك الصحب الكرام أربع سنين إلا قليلا، فأشهد صادقا أنها من الواحة الخضراء في حياتي المجدبة، وأنها الجزء العامر في عمري الغامر، يا رعى الله عهد دمشق الفيحاء وجادتها الهوامع، وأفرغت فيها ماء وسقت، فكم كانت لنا فيها من مجالس نتناقل فيها الأدب ونتجاذب أطراف الأحاديث العلمية.
حيث درس في المدرسة السلطانية، ومكتب عنبر، وخطب في الجامع الأموي، وكان من تلاميذه كثير من مثقفي الشام أشهرهم جميل صليبا صاحب «المعجم الفلسفي الشهير» الذي احتفظ له بود كبير وكتب عنه في مذكراته (كنا ندرس العربية في مكتب عنبر دمشق على الأستاذ عبد القادر مبارك فلما نقل الشيخ إلى المدرسة الحربية، عهدت وزارة المعارف إلى الشيخ محمد البشير الإبراهيمي التدريس مكانه، فأعجبنا بسعة علمه وقوة ذاكرته واستقامة منهجه، لأنه كان يملي علينا المتنبي والبحتري وأبا تمام عن ظهر قلب من أولها إلى آخرها، ويقرب معانيها من أفهامنا بالتفسير المحكم والشرح الدقيق والتحليل الأدبي الجميل، حتى ولّد في نفوسنا حب اللغة العربية وآدابها) ووسمه شيخ الشام محمد بهجت البيطار بدائرة معارف، وقال عنه جمال الدين الأتاسي، لما قدم الإبراهيمي على العراق محاضرا (ونحن في العراق عزز عواطفنا وألهب أحاسيسنا في محاضراته وأحاديثه، لم نشهد أديبا أو داعية بمقدراته وطول نفسه وإجادته لفن القول وسعة اطلاعه على ألاعيب الاستعمار).
وقبل أن يغادر دمشق الفيحاء عام 1920عائدا إلى الجزائر كتب عنها (ولقد أقمت بين أولئك الصحب الكرام أربع سنين إلا قليلا، فأشهد صادقا أنها من الواحة الخضراء في حياتي المجدبة، وأنها الجزء العامر في عمري الغامر، يا رعى الله عهد دمشق الفيحاء وجادتها الهوامع، وأفرغت فيها ماء وسقت، فكم كانت لنا فيها من مجالس نتناقل فيها الأدب ونتجاذب أطراف الأحاديث العلمية).
وفي الجزائر، غب عودته، اضطلع بمهمة الإصلاح بهمة عالية ودأب لا يكل بمعية رفاقه بعد تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان قد سبق لابن باديس أن زار الإبراهيمي عام 1924 وتبادلا الأفكار حول تأسيس هذه الجمعية التي سيكون شعارها «الجزائر وطننا والإسلام ديننا والعربية لغتنا» وهي رد حاسم على دعاوى الاستعمار وألاعيبه المفضوحة، وبدأ الإصلاح من الغرب الجزائري مأوى الطرقية وعرين شيوخها الذين ناصبوا الجمعية العداء، وحين توفي ابن باديس عام 1940 تولى الإبراهيمي رئاسة الجمعية وأدى الرسالة خير أداء غير هياب ولا خوار، بعزم ونفس لا يكل وبيان دامغ.
وإذ اندلعت الثورة الجزائرية عام 1954 كان الإبراهيمي في المشرق خير سفير لها، فقد انتدب نفسه للدعاية لها وصال وجال في ربوع العالم الإسلامي شارحا للناس ويلات الاستعمار ومكابدة الجزائر منه، ودعا إلى النصرة والتأييد للجزائر وفلسطين معا، في مصر والشام وفلسطين والعراق والهند وباكستان، وحيثما حل كان محط تقدير وتأييد، وكان مما بهرهم فيه سعة الثقافة وفصاحة اللسان والاسترسال في الكلام بالحجة والبرهان وعهدهم بأبناء الشمال الافريقي أصحاب عجمة، مما ترسب في نفوسهم من مخلفات الاستعمار، ولا عجب أن ينتخب الشيخ عضوا مراسلا وعاملا في المجامع اللغوية العربية، كمجمع اللغة العربية في القاهرة ودمشق وبغداد وكان ممن أثنى عليه كثيرا محمد الغزالي ومحمد عمارة وكامل كيلاني وإبراهيم بيومي مدكور، وقد كتب علي الطنطاوي في مذكراته أنه رافق الإبراهيمي في رحلة إلى القدس فبهره بسعة محفوظه من شعر العرب ونثرهم إلى حد حفظ مصادر بعينها. ومما يحتفظ به التاريخ مدونا أنه لما خطب في جمعية الشبان المسلمين في القاهرة عام 1963 قال عنه منصور فهمي وقد نزع حذاءه ووقف حافيا (إن هذا المنبر الذي يقف فيه الشيخ ساحة مقدسة ينبغي أن يدخلها الناس كما يدخلون الحرم، وأعلن هنا أنني لم أر ولم أسمع في حياتي من هو أفصح وأبلغ من الشيخ البشير، وإني أدعو العلماء والأدباء في الوطن العربي إلى أن يلقوا إليه بمقاليد اللغة والبيان) وكان بعض المثقفين يرى أنه هو أمير البيان العربي بدل شكيب أرسلان.
ولتفنيد وجهة نظر من يزعم بأن الإبراهيمي لم يكن سوى شيخ تقليدي بدليل لباسه العربي، وأن جمعية العلماء لم تكن إلا جمعية شيوخ تقليديين يكفي التطرق إلى لقاء جمع بين الشيخ البشير الإبراهيمي والعراقي محمد حافظ الجمالي رئيس الوفد العراقي إلى جمعية الأمم فقد التقاه في فندق «كريون» في باريس عام 1951 وطلب منه إدراج قضية الجزائر في جمعية الأمم وتحدث الشيخ حديثا مسهبا عن حق الجزائر في الحرية والاستقلال، وإن الجزائر ستفاجئ العالم العربي والإسلامي بثورة عارمة. وليس بخاف على كثيرين أن المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون كان يكن عداوة كبيرة للشيخ الإبراهيمي، كما أكنها لحمودة بن ساعي ومالك بن نبي، لأنهما كانا يفضحان علاقته بالخارجية الفرنسية، وقد سجل ذلك مالك بن نبي في «مذكرات شاهد للقرن» وفي ألفية ابن سينا في العراق، جلس البشير الإبراهيمي في المقدمة مع كبار السياسيين تقديرا له، في حين جلس المستشرقون في الصف الثاني والثالث واحتج ماسينيون على ذلك وأعلن لأحدهم أن البشير الإبراهيمي من ألد أعدائه.
ومن الجوانب التي ينبغي إثارتها في حياة الإبراهيمي هي صراحته فما دام يعد في طليعة المثقفين الذين حاربوا الاستعمار بالكلمة والخطبة والمحاضرة، فاضحا خططه وألاعيبه جامعا للشمل على العكس من مواطنه شيخ مسجد باريس قدور بن غبريط، الذي حمد الله على نعمة فرنسا.
وعلى العكس من ماسينيون احتفظ روجيه غارودي بمودة للبشير الإبراهيمي وكتب في مذكراته (عندما أطلق سراحي بقيت في الجزائر مدة عام، وخلاله التقيت برجل عظيم كان له أكبر الأثر في نفسي هو الزعيم الإسلامي البشير الإبراهيمي وقد قمت بزيارته في مقر الشيخ البشير الإبراهيمي، ولاحظت صورة كبيرة لرجل مهيب ولأول مرة أتعرف على صاحبها، عندما شرح لي الشيخ البشير جوانب من حياة الأمير عبد القادر الجزائري عدو فرنسا، كبطل محارب وعابد ناسك بل كواحد من أبطال القرن التاسع عشر).
ومن الجوانب التي ينبغي إثارتها في حياة الإبراهيمي هي صراحته فما دام يعد في طليعة المثقفين الذين حاربوا الاستعمار بالكلمة والخطبة والمحاضرة، فاضحا خططه وألاعيبه جامعا للشمل على العكس من مواطنه شيخ مسجد باريس قدور بن غبريط، الذي حمد الله على نعمة فرنسا، كما كتب الزيات في إحدى مقالاته في وحي الرسالة وقد حضر صلاة الجمعة في مسجد باريس فاتسخت أذناه مما سمع من تزلف ونفاق. ومن صراحته دفاعه عن سيد قطب لما حكم عليه بالإعدام وطلب تخفيف العقوبة في حين سكت الكثير من المثقفين خوفا من عبد الناصر وزبانيته، فلو تم تصنيف الإبراهيمي لصنف في زمرة المثقف العضوي الذي ينتدب نفسه لتنوير وتثقيف الناس والدفاع عن حق الجماعة في إطار مبادئ وقيم الجماعة التي خرج من صلبها.
ولم يكن انتخاب الشيخ الإبراهيمي في المجامع اللغوية العربية كمجمع القاهرة ودمشق وبغداد، إلا عرفانا بفضله وعلو كعبه في اللغة، وهو صاحب المقالات الكبيرة في «عيون البصائر» ودراساته اللغوية «كأسرار الضمائر العربية» و»التسمية بالمصدر» و»فصيح العربية من العامية الجزائرية» وأرجوزته في الثقافة الشعبية في 36 ألف بيتا عن تقاليد وعادات الشعب الجزائري، وهي التفاتة منه إلى الثقافة الشعبية، كما مارس التعريف بالأدباء الشباب وإليه يرجع الفضل في التعريف بالشاعر الرومانسي مبارك جلواح، ولو أن نقد الشيخ الإبراهيمي كان نقدا فقهيا لا يتجاوز العروض والنحو والبلاغة شأن النقاد القدامى (النقد الفقهي).
أثناء الاستقلال كان قد عاد إلى الجزائر، لكنه اعترض على السياسة العامة للبلد والخط الذي انتهجه ورآه بعيدا عن قيم وثوابت الأمة وخصوصياتها الجغرافية والتاريخية، وكتب في بيانه الشهير (إن الأسس التي يقيمون عليها أعمالهم يجب أن تنبعث من جذورنا العربية الإسلامية، لا من مذاهب أجنبية). فوضع قيد الإقامة الجبرية حتى وافاه أجله عام 1965. وقد كتب نجله أحمد طالب الإبراهيمي المناضل في جبهة التحرير، ووزير الخارجية السابق ومؤسس حركة «الوفاء» المغتالة في مهدها، في مذكراته أن والده كان يملي عليه رسالتين أو أكثر في اليوم إلى شخصيات كثيرة في القارات الخمس، ومن الأسماء التي يذكرها الشاعر اللبناني المغترب في البرازيل شفيق المعلوف والمستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس وطه حسين وغيرهم، ويأسف لضياع الرسائل التي تبادلها مع طه حسين يحثه فيها على إنشاء مركز ثقافي مصري في باريس، تعريفا للغربيين بالثقافة العربية الإسلامية ولعلها النواة لمعهد العالم العربي في باريس اليوم.
ظل الإبراهيمي علامة لغة وفارس كلمة ورجل معارف وجهاد ورجل مواقف، صال وجال وفضح مخططات الاستعمار ودافع عن لم الشمل العربي والإسلامي وصاحب جسارة لا يهاب ولا ينكص ولا يتزعزع أمام أي زعيم سياسي أو عسكري، ومواقفه شاهدة عليه وهو امتداد لتلك الشجرة المباركة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومن أفنانها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وشكيب أرسلان وعبد الحميد بن باديس وعلال الفاسي، وغيرهم الذين كان لهم سبق التنوير والتثوير في العالم العربي والإسلامي، والعجيب أن أحمد أمين في كتابه «زعماء الإصلاح في العصر الحديث» أسقط الجزائر من حسابه، وليس لنا أن نقول سوى ما يقوله إخواننا المصريون في مثلهم الذائع في مثل هذه الحالة «العتب على النظر».