يوما ما كنت عضوا في لجنة القصة في المجلس الأعلي للثقافة. منذ سنوات وباختياري تركت كل اللجان باعتبار أن هناك أجيالا جديدة هي أولى بالعمل الثقافي. في تلك المناسبة كنا ندرس موضوعات مؤتمر الرواية الدولي، الذي كان يقيمه المجلس الأعلى في القاهرة، ويدعو إليه كتابا ونقادا ومفكرين ومترجمين من مصر وكل العالم. أذكر أني اقترحت عليهم أن يكون المؤتمر مخصصا لدراسة شكل الرواية عند الأجيال الجديدة من الكتاب، ما دامت الرواية تزدهر فهي أولى بالحديث في ما يخص شكلها وبناءها الفني.. هل المدارس الفنية غير أشكال جديدة من الإبداع. لقد حدث ذلك وقتها، لكن ليس بالاتساع الكافي.. لا أذكر السبب وهل كان عدم توفر الأعمال في أيدي النقاد، أم أن جوانب أخرى من الموضوعات كانت لها أهميتها مثل، شهادات الكتّاب على تجاربهم.
المهم أني اتذكر ذلك دائما، وأتذكره أكثر حين أرى الفيض الرهيب من الروايات يشغل إصدارات دور النشر، خاصة مع معارض الكتب. كلنا نعرف أن الرواية الآن تتصدر المشهد، ليس لأنها أهم من الشعر أو المسرح، لكن هذا ما جرى في العالم كله، فالناس تريد أن تحكي. كما أن الشعر صار أكثر ذاتية، وتقريبا تخلى أو تخلت عنه المحافل الأدبية، فقصيدة النثر أعمق من التلاوة الشفاهية تدفع القارئ إلى الاختلاء بنفسه وبالديوان، وتتسع مساحة التأمل، حتى لو لم يحفظ منها القارئ شيئا. أما المسرح فهو ليس ملك مؤلف المسرحية، بل تتدخل عناصر أخرى مثل وجود المسارح أو اتساع الرقابة، كذلك الأمر في السينما، فالمبدع هنا حر حقا، كما هو في كتابة الشعر أو الرواية، لكن خروج العمل إلى النور تتدخل فيه جوانب كثيرة ليست بيده.
أنظر حولي وأمامي فأرى هذا الفيض من الروايات كما قلت، ورأيته هذا العام لم يختلف عما قبله.. أرى الدعاية قائمة على صور للمؤلفين مع أعمالهم أو حفلات توقيع، أو صور لأصدقائهم مع نسخة من الكتاب تملأ السوشيال ميديا. يشعر الكاتب بالرضا من الصور، وهي في الحقيقة خادعة إلى حد كبير، فليس كل من اشتري كتابا يقرأه، وبصفة خاصة من معرض الكتاب لأن لا أحد يشتري كتابا واحدا، بل عادة كثيرا من الكتب، ولا يعرف متى سيقرأ ما اشتراه، وعلى أي نهج من القراءة. هل سيفضل كتب الإبداع من قصة وشعر، أم سيفضل كتبا فكرية عن قضايا مصيرية في البلاد؟ وهل كل الناس منتظمة في القراءة، خاصة أن من يتصورون مع الكتاب أو الكاتب، كثير منهم كتابا لديهم كتبهم التي ينتظرون الاهتمام الحقيقي بها، وليس مجرد الصور، حتى لو كانت خلفها المحبة ناهيك عن المجاملة.
أنا شخصيا ولست مقياسا لأحد، أنفق وقتي مع الكتب الفكرية أكثر من الإبداع، ربما لأنني في عزلة عما حولي بسبب العمر والصحة، وأريد أن اخترق العزلة بالإطلال على ما يؤرقنا.. مع الكتب الفكرية أضع علامات وأسئلة على الهوامش لأعود إليها ولا أهتم بشكل الكتاب في ما بعد، فكثيرا من الكتب يأتي لي ضيوف يستعيرونها، ولا أتردد في إعطائها لهم حتى لو لم يعيدوها. صرت احتفظ بحوالي ألف كتاب، بعد أن كان لديّ يوما خمسون ألفا، لكن حين زرت نجيب محفوظ في بيته، بعد أن فزت بجائزته من الجامعة الأمريكية في دورتها الأولى عام 1996 وجدت عنده مكتبة صغيرة. سألته فقال لي سيأتي يوم أرحل، ولا أعرف كيف سيكون مصير الكتب. فعلت مثله في ما بعد، وما زلت محافظا على ذلك، فكلما صار لديّ ألف كتاب آخر تبرعت بها لأحد الجمعيات الأهلية.
هذه كلها أفكار جاءت مع معرض الكتاب وحركة النشر الرهيبة للروايات، خاصة روايات البوب، أو الروايات الشعبية والتسلية، سواء روايات الرعب أو الخيال العلمي. هذا النوع من الروايات هو الأكثر رواجا في المعارض العربية، خاصة بعد ظهور فئة جديدة هي اليوتيوبر، أو صانعو المحتوى والقليل منهم جادون، وكثير منهم يقدمون تسلية للأجيال الشابة تحت العشرين، الذين يروقهم هذا النوع من الأحاديث. لقد زرت معرض الكتاب مرتين فقط أصابني التعب من الزحام، لأني اخترت يوم الجمعة في كل مرة. في المرتين وجدت أن أفضل شيء هو الجلوس في المقهى لأقابل صدفة الأصدقاء من الكتاب المصريين والعرب. زرت سريعا بعض دور النشر التي أنشر فيها كتبي مثل، دار الشروق المصرية والدار المصرية اللبنانية ودار المتوسط، التي تأتي من نابولي، وفازت هذا العام بأفضل دار نشر من الخارج في المعرض. الحقيقة جوائز المعرض كل عام عمل جميل، لأنها تشمل كل أشكال الكتابة من فكر وإبداع، فضلا عن اختيار بعض دور النشر للجوائز. هذه كلها جوائز لا يتقدم إليها الكتاب، بل دور النشر وهذا جميل، فلا يكون انتظارها مقلقا لأحد.
في الجمعة الأولى التي ذهبت فيها وجدت زحاما رهيبا من الشباب الصغير، وأمامهم فتاة تكاد تجري فسألت من هي. قيل لي إنها صانعة محتوى على اليوتيوب اسمها كنزي مدبولي انتهت من حفل توقيع رواية لها. هي لم تكتب الروايات من قبل، لكن شجعها الاقبال الشديد على ما تقدمه في اليوتيوب، خاصة للبنات والسيدات من نصائح في الحياة. لم اندهش فهذا حال اليوتيوبر، وحال القراء الصغار في كل الدنيا، لكن الصدفة جعلتني أغادر المكان إلى موقف السيارات مع أصدقائي لنعود، فإذا برجال الأمن يمنعوننا من العبور إلى الجراج حتى تأخذ كنزي مدبولي سيارتها وتمضي. ابتسمت وقدمت نفسي لهم ففتحوا لي الطريق ومن معي ووقفوا حائط صد أمام الشباب الصغير، حتى تنصرف كنزي مدبولي. لا يدهشني ذلك ولا يسبب لي أي توتر، ولا انتقده مثل كثيرين، فهذا كما قلت حال القارئ في كل الدنيا، واليوتيوب الآن صار أيضا أسهل من القراءة، فأنت تسمعه وأنت في الطريق أو في البيت أو المقهى، ولا تشتري نسخا منه، فيكفي الاشتراك فيه، وكثيرا ما يكون مفتوحا للجميع دون اشتراك. صار اليوتيوب مصدر ثقافة لكثيرين فهناك محتويات جيدة أدرك جودتها حين أسمعها أحيانا، وكثيرا ما يتناقش معي سائقو التاكسي في الأحوال، فاسألهم عن مصدر معرفتهم فيخبروني أنهم يتابعون اسماء مهمة على اليوتيوب، ويذكرون لي بعضها، خاصة ممن يعيشون خارج مصر. كل أحاديث سائقي التاكسيات ووسائل النقل الآن في مصر سياسة واقتصاد!
طبعا زحام المعرض لا يخدعني فهذا الزحام قياسا إلى عدد السكان يعد أقل منه حين بدأ المعرض عام 1969 وكان تعداد مصر ثلاثين مليونا. طبعا أسعار الكتب صارت مصدر شكوى الكثيرين ولديهم الحق، ويبدو أن لا أمل في أن تستمع لنا الدولة فترفع الضرائب عن الورق أو أدوات الطباعة. ولا أمل في أن تشتري الدولة من كل كتاب ألف نسخة توزعها على مكتباتها في الجامعات والمدارس والنوادي. هذا كله كتبنا فيه كثيرا ولا أحد يستمع. من ألطف ما قرأت من تعليقات، تعليق للروائي أحمد الفخراني على تويتر «بكام الكتاب دا؟ بخمسمئة جنيه. طيب أوزن لي مئة صفحة»!
أترك المعرض وأعود إلى ما ذكرني به فيض الروايات، وأكرر ما فعلته يوما في الإعداد لمؤتمر الرواية الذي أتمنى أن يعود ولا يكون تأجيله بداية لإلغائه، وكذلك مؤتمر الشعر العربي. أتمنى أن يتم الاستعداد لمؤتمر الرواية بلقاء مع بعض النقاد يضعون أسسا للنقاش قائمة على شكل الرواية التي صارت تعم الأسواق، وهل يمكن منها أن نجد طرقا جديدة في الكتابة يقدمها الكتاب الجدد، أم هي مجرد حكايات لا معنى لها عند الكثيرين ممن فضلوا أن يحكوا، وتعوضهم الصور في المعرض عن أي اهتمام نقدي حقيقي.