شكلت القيم والمبادئ الكبرى، التي مثَّلت غطاءً أخلاقيًا وموجهًا فكريًا للتنوير والحداثة، أحد المقومات التي أسهمت في انتشار مقولاتها على مستوى العالم، فأصبحت بذلك عنصر جذب وإغراء للنخب والمجتمعات.
وقد كان النموذج الحضاري الحديث، بخلفيته الفلسفية والثقافية والقانونية، يقدم نفسه باعتباره مشروعًا كونيًا، يحمل في جانب منه قيمًا إنسانية للانتقال بالإنسان والمجتمعات من وضعية التقليد، وما ظلت تحكمه من أنساق ثقافية واجتماعية إلى وضعية ترتقي بالإنسان، في أنساق ونظم تعترف بكينونته وتمنحه رتبة القداسة في التاريخ، من خلال مرتكزات العقلانيّة والحرية والفردانية والديمقراطية والمساواة، وغيرها من القيم الرئيسية التي يرتكز عليها مشروع الحداثة بالنسبة للإنسان الفرد والمجتمعات الحديثة أساسًا.
لكن هذا المشروع الذي بشّر الإنسان الحديث بجملة من التطلعات، تتكشّف مخرجاته منذ عقود، في نزعات تدميرية للإنسان والمجتمعات التي تختلف مرتكزاتها الثقافية والقيمية وإراداتها السياسية عن المنحى الذي ترسمه بعض القوى المهيمنة على أدوات إنتاج الحضارة إلى حدود اليوم، والتي تقود العالم اقتصاديًا وقانونيًا وسياسيًا وثقافيًا.
لعلّ الصراعات والحروب والنزاعات- في عالم المسلمين ورعاية الاستعمار والاستيطان في العالم الثالث برمته- كاشفةٌ عن مدى التناقضات التي حملها مشروع التحديث طوال القرون التي مضت، وهي ليست أعراضًا ترتبط بصراع المصالح والنزاعات السياسية والعسكرية، وإنما تعبّر عن "بَراديغم" يحمل أزمته داخله، وبصيغة أخرى؛ يحمل المشروع معه خطيئة الولادة على مُستوى الجينات التي يتشكل منها.
أين يتجلّى ذلك؟ وما هي تمظهراته على مستوى التاريخ الحديث والواقع؟ وكيف تؤثر نظرته المعادية للآخر والرافضة له في بعض تجلياته مع الاستعمار ومناهضة تحرّر الشعوب واستقلالها وسيادتها على العلاقة بين الثقافات والشعوب والحضارات.. وبشكل أدقّ على العلاقة بين الشرق والغرب؟
لا يهم كثيرًا الوقوف على الدلالات اللغوية والاصطلاحية لمفاهيم من قبيل التنوير والحداثة، فقد أصبحت شائعة الاستعمال، كما لا يهم الدخول في توصيف أكاديمي للانتقالات المعرفية التي مرت منها نماذج الحداثة وإرادة التنوير.
إنما تهمنا هنا الجوانب التأسيسية التي تستبطن تناقضات جوهرية في مشروع الحداثة برمته، وهي الجوانب التي يتفاعل معها العالم العربي والإسلامي، وظلت موضع احتفاء ثقافي وفكري من طرف لفيف من النخبة والمثقفين، باعتبار أن وسيلة التقدم هي خوض تجربة النقد المتعدد، والانخراط في العصر من خلال التخلص من التراث وكل ما تكتنزه الثقافة العربية، ذلك أن هذه الأخيرة تستبطن أزمة ذاتية، ومن ثم ينبغي أن نسلك الطريق السهل لتحقيق التقدم.
لقد انتبه النقاد جيدًا- عقب هزيمة يونيو/ حزيران مع الرعيل الثاني من رواد الفكر النهضوي العربي- إلى التراث كعامل ينبغي الاشتغال عليه، والعودة إليه لنقده في أفق تجاوزه، ومن ثم يمكن إحصاء عدد من الدراسات الفكرية والثقافية في المجال التداولي العربي التي انشغلت بنقد التراث، وهو نقد يتأرجح بين التطرف في النقد بأدوات أيديولوجية وليست علمية في الأغلب، ما يؤدي إلى إلغائه؛ نظرًا للموقف السلبي المسبق منه، أو النقد المعتدل الذي يعمل على التوليف بين روح العصر، وما يكتنفه التراث من جوانب مستنيرة.
لكن ما ينبغي التأكيد عليه أن أغلب هذه الدراسات لم تنشغل نقديًا بالحداثة كثيرًا، أو أن الانشغال بها كان من موقع التبني المطلق، دون حوار نقدي حقيقي لها؛ إلا في بعض الأطروحات الفكرية والفلسفية المعدودة.
أو العكس تمامًا، حيث كان الانشغال بها من منطلق الرفض الكامل لها، بخلفية تحكَّمَ فيها بعدٌ عاطفي على الأغلب، أو خاضعة للسياق المقاوم للغرب المستعمر وقيمه الثقافية، بافتراض الرفض المطلق والتناقض الحاد بين الإسلام والحداثة، وأن الإسلام لا يحتاج إلى تنوير أو تجديد، وأن طريق التقدم في العودة للإسلام.
وهذا فيه غربة عن العصر في واقع الأمر، كما أن جانبًا من دعاة فرضية الرفض الكامل لم تتأسس على جوانب معرفيّة تقدم قراءة نقدية واعية لأزمة الحداثة، ومن ثم تمنح البعد الحضاري الإسلامي إمكانية الاستئناف بما يقوم بعملية وصل خلاقة بين التراث الحضاري الإسلامي المشرق وقيمه، والعصر الراهن.
لقد كان الاستعمار للعالم الإسلامي أهمَ العوامل التي غذّت الرفض، وحجبت عملية النقد الواعية لمشروع الحداثة، ومن ثم شكّل القرن العشرون مقاومة مباشرة للاستعمار، فكانت الثقافة واحدة من أوجه المقاومة والرفض لكل ما يأتي من الضفة الأخرى، بما يعني أن الاستعمار يعد عائقًا من العوائق التي تمنع عملية التثقيف القائمة على الحوار المتبادل بين ثقافات الشعوب وخصوصياتها الحضارية.
وبالمثل مثّلت الرؤية- التي تشكلت عقب إدخال العالم الغربي لسياقات الحداثة إلى العالم العربي والإسلامي- نظرة دونية وإقصائية، وغطاء للاستعمار وتبريرًا له؛ بدعوى الفصل بين العالم المتحضر وغير المتحضر، والحقيقة أن التحضر أبعد من الاستعمال السطحي السائد اليوم، بل إن خطاب التحضر منذ استعمالاته الأولى حمل في طياته على الأغلب نزعة همجية في حق الإنسان والحضارة، وظل يفتقر إلى النوازع الأخلاقية والإنسانية.
لعلّ الخطاب الرائج على أرض فلسطين المحتلة اليوم، هو العودة إلى هذه السرديات القديمة، والحشد الجماعي بلغة قائمة على المفاصلة التامة، ما يضع الغرب أمام اختبار تناقضات في الفلسفة والنموذج الذي يحكم رؤيته للعلاقات بين الشعوب والثقافات، والنظرة إلى الآخر.
عند تأمل هذه النظرة من قبل الغرب، يتجلى لنا الوجه الحقيقي له وكيف ينظر به للشرق، إذ يعتبر الاستعمار والرغبة في الهيمنة بأدوات العنف المميت أحد أكثر الأوجه بشاعة التي رافقت مشروع التقدم الحديث. كما أنّ السيطرة بالأدوات الناعمة والتحكم في مصائر الشعوب وخياراتها وتذويب مقدراتها الثقافية والرمزية، تشكل عنفًا معنويًا ورفضًا للآخر وما يستبطنه، بل هي رفض للتنوع والتعددية والاختلاف والسعي لفرض رؤية عالمية واحدة، هي رؤية الغرب بكل تأكيد.
هنا يمكن القول حسب حتميات التاريخ: إن القوة العارية من الأخلاق والمتجردة من القيم، تصل ذروتها مع معاداة الإنسان والحياة والطبيعة، ثم تبدأ بالتحلل والانهيار، إذ إن التحولات الكبرى وفي مسار الحضارات والثقافات والشعوب، كان الوازع فيها أخلاقيًا، ومهما امتلكت الدول أدوات التقنية والتقدم، فإن التجرد من الوازع الأخلاقي يعد مؤشرًا لبداية الانحدار.
أما ما يخص الشرق؛ فإن ما يستبطنه في واقع الأمر على مستوى قيمه الرمزية والثقافية، يشكل باعثًا خلاقًا على الاستئناف النهضوي والحضاري، مستندًا إلى العودة إلى ذاته الحقيقية وهُويته مع التحلي بروح العصر.
لذا يكون هذا مخرجًا للإنسانية برمتها من نزعة التدمير من خلال العدوان المادي على الإنسان والحياة، والتفكيك المعنوي للقيم الثقافية؛ قيم الفطرة التي تنتصر للإنسان وتصون كرامته وحريته وتحقق آدميته، وبذلك يُنشئ الغرب نموذجًا جديدًا، يمكن أن تسهم الأحداث الكبرى في تعزيزه، والسماح له بالتخلّق على أنقاض التصورات القديمة الحادة للغرب.
قد كانت القدس وقضية فلسطين باستمرار ملهمة للوعي الحضاري العربي والإسلامي على مدى التاريخ باستئناف دورةِ الحضارة والإشراق من جديدٍ، وتحريرٍ جديد للعمران والإنسان في المنطقة برمتها. لكن هذه المرة تحمل معها مرآة كاشفة لمأزق الحداثة والتنوير والتقدم المسنود بالقوة المتحللة من الأخلاق، أي فيما هو أبعد من عالم العرب والمسلمين.
منذ القرن الـ17 حتى هذه اللحظة الراهنة، كان العقل هو الذي يحكم طريقة التفكير في أنساق الحداثة والمشروعات التي قام عليها، هذه المشروعات تُنتج نمطًا من طريقة التفكير والعيش، ولكن في الوقت ذاته وضعت هذه المشروعات الدين جانبًا بما يحمله من وازع أخلاقي دون أن يكون له أي دور حقيقي في تشكيل تلك التصورات والفلسفات.
كانت العقلانية بالفعل تحريرًا من قيد القهر الذي كان مضروبًا على الفكر الحر والنقد، لكن في الوقت ذاته لم تكن هناك الرقابة والحماية الكافية التي تضمن عدم الوقوع في تطرّفات حادة، حملت معها مشكلات للمستقبل؛ هي ما تعيشه الإنسانية اليوم من آلام لا حصر لها.
هذه الآلام ناتجة عن الوقوع في المحذور الأخلاقي، حيث خضع الإنسان لهاجس التقدم والسيادة على الإنسان والطبيعة من خلال التوظيف المفرط للعقل دون وقاية أو بواعث أخلاقية، تحكم وتضبط هذه القوة التي يمتلكها، بحيث لا تكون مدمرة للإنسان والطبيعة والعالم الذي نعيش فيه.
وعليه فليس هناك مشكلة في العقل، بل هو أعدل قسمة بين الناس، ومن المقدسات التي يحوزها المرء، وهو عنصر من عناصر التي التفرد التي خُص بها عما دونه من الكائنات. لكن الاعتماد عليه وحده وتدمير باقي العناصر الفاعلة في إنتاج المعنى وتفسير العلاقات ووضع النظم، جعل الإنسان أسير هذه الرغبات، خاضعًا لها، يُنفذ ما تمليه عليه دون رادع.
ومن ثم فإن العقل الذي حرّر جملة من المجتمعات في حقبة زمنية، أدى توظيفه السيئ- وما أنتجه في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد وتبرير حيازة القوة المدمرة وغياب الأخلاق- إلى وقوع المجتمعات البشرية تحت الهيمنة والتحكم مع نسق السوق وقيمه التي لا رحمة فيها ولا أخلاق.
من هذا المنطلق أصبح عاديًا الحروب وإبادة الإنسان والمجتمعات، مع القدرة على تبرير ذلك. وهذا كان منذ هجرة البيوريتان إلى أميركا وإبادة الهنود الحمر بها، ثم استمرار المد الاستعماري والإمبريالي، التي تعد فلسطين آخر الظواهر الاستعمارية المعمرة والتجليات البارزة منذ تلك الحقبة.
وطبعًا قبل ذلك مع الحربين العالميتين اللتين أودتا بحياة ملايين البشر، وهما معًا يمكن عدهما تعبيرًا أصيلًا عن أزمة ناجمة عن بشع في منظومة التنوير والحداثة، التي جعلت التقدم غايتها دون أن تضع له ضوابط وقيمًا أخلاقية، تجعل "الإنسان المكرّم" في صلب هذا التقدم.
ختامًا: إن ما يقع في السياق العربي والإسلامي منذ ثلاثة قرون مستمرة من الاستعمار- منذ أن وطِئت خيول نابليون الجامع الأزهر إلى حدود اللحظة الراهنة- هو في واقع الأمر صراع على أرضيتَين ونموذَجين، يجسد فيهما الاستعمار القوة الخشنة، يقابله رفض مستمر وممانعة للتطويع والخضوع بمختلف أشكال المقاومة.
من ناحية أخرى، يحاول الغرب التحكم بالأدوات الناعمة، من خلال تفكيك المركب الثقافي الحضاري وإحداث انقسام على مستوى الوعي. وكان دائمًا السياق العربي في اشتباك مستمر مع تجليات التنوير والحداثة، التي تأتي أحيانًا على ظهر دبابة، وأحيانًا أخرى من خلال وسائط ثقافية.
هذه التناقضات الكامنة في النموذج الغربي- بين رغبته في الهيمنة واستخدام عنصر القوة والسيطرة من ناحية، وبين رغبته في الحفاظ على صورته ومقولاته المستنيرة في حقوق الإنسان والحريات من ناحية أخرى- تجعل فلسفة التقدم الحديثة بعيدة كل البعد عن البواعث الأخلاقية والقيمية وتجعله يواجه أزمة حقيقية.
هذه الأزمة التي يواجهها تمنحنا قوة في نقد هذا النموذج وتشكك في شرعيته بالكامل وفي صدقه حين يتعلق الأمر بالشرق الحضاري، الذي يسعى للاستئناف منذ ثلاثة قرون.
السياق الراهن، والمشهد الحالي الذي نواجهه، وهو سياق انهيارات أخلاقية وفلسفية وقيمية كبرى، يجعلنا ذلك أمام ضرورة العودة إلى الذات العربية والإسلامية..عودة بنقد مزدوج واستلهام من مختلف التجارب والمنطلقات من أجل المستقبل؛ مستقبل الإنسانية برمتها في حِضْن الأخلاق، وليست خارجة عنها أو متنصلة منها.