استقل لويس لبرنس Louis Le Prince القطار المتجه إلى باريس في محطة قطار مدينة ديجون الفرنسية، يوم السادس عشر من أيلول/ سبتمبر عام 1890. وكان ذلك بداية لرحلة طويلة من المفروض أن تنتهي في مدينة نيويورك الأمريكية، حيث سيعرض اختراعه الذي استغرق عدة سنوات من البحث والعمل الشاق. ولم يكن ذلك الاختراع سوى أول آلة (كاميرا) لتصوير الأفلام السينمائية. وكان لويس يعلم جيدا أن اختراعه سيبدأ عالما جديدا في التاريخ، كما أنه كان يتطلع إلى لقاء زوجته وابنه اللذين سبقاه إلى نيويورك. غادر القطار المحطة، لكن لويس لم يصل باريس أبدا، إذ اختفى مع أمتعته. ولم يعثر له على أثر بعد ذلك، على الرغم من البحث الدقيق الذي قامت به الشرطة الفرنسية، حيث فتشت المناطق التي مرّ فيها القطار بين ديجون وباريس، وحققت مع الكثيرين من معارفه. وما تزال القضية مفتوحة حتى الآن. لكن الأمر لم يكن في هذه البساطة، حيث كان هناك الكثير من الظروف الغريبة والغامضة التي صاحبت حكاية هذا المخترع الفرنسي الذي نسيه التاريخ والإعلام العالمي.
البداية
لم يكن لويس لبرنس صاحب فكرة راودته في حلم ما، بل كان طالبا مجتهدا طوال حياته، وكان يجيد الفرنسية والألمانية والإنكليزية. وأنهى دراسته العليا في جامعة لايبزغ الألمانية في الكيمياء، كما عمل مع أحد أشهر رواد التصوير الفوتوغرافي في أوروبا في تلك الفترة. وابتكر كذلك طريقة لطباعة الصور الفوتوغرافية على المعادن والخزف، وكانت ملكة بريطانيا فكتوريا من زبائنه، حيث وضع صورتها على الأواني. لكن نقطة التحول في حياته حدثت عام 1881 عندما ذهب مع زوجته إلى الولايات المتحدة الأمريكية كممثل لشركة تملكها عائلتها. وهناك بدأ اهتمامه لاختراع آلة لتصوير أفلام متحركة، وعلى الرغم من أهمية الصور الفوتوغرافية العادية، أدرك لويس أهمية الفيلم الذي يبين حركة وحدثا متكاملين ليصبح ذاكرة أبدية يراها الناس في جميع أنحاء العالم. والغريب في الأمر أنه كان الوحيد الذي اهتم في هذا المجال. وكانت البداية عام 1886 حيث صنع آلة بدائية ذات ست عشرة عدسة لتصوير الفيلم السينمائي، وحصل على براءة اختراع بسببها، لكنها لم ترق له، حيث لم تكن الصورة واضحة ومستقرة. ولذلك قرر الاستمرار في أبحاثه للتوصل إلى الآلة المثالية ذات العدسة الواحدة. وكانت مشاكله التقنية كثيرة، حيث كان عليه العثور على المادة اللازمة لصناعة الفيلم داخل الآلة، التي من الممكن تسجيل الصورة عليها وتحمل الحرارة داخل الآلة الصادرة من مصباح غازي وقوية لتحمل التوتر الذي تسببه اسطوانات السحب داخل الآلة. وما زاد مشاكله اختطاف الموت لاثنين من أبنائه الثلاثة أثناء وجوده في الولايات المتحدة الأمريكية. وكأن ليس لديه ما يكفي من الفواجع، حيث أحس بتجسس البعض على عمله، لاسيما عملاء أشهر شخصية علمية في الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الفترة، توماس أديسن Thomas Edison. وجعلته محاولات التجسس هذه يقرر العودة إلى فرنسا عام 1887 مع عائلته للتفرغ للعمل بشكل هادئ لإنهاء تصميم وصناعة الآلة المثالية.
وفي رحلة إلى إنكلترا لزيارة عائلة زوجته قام في مدينة «ليدز» بتصوير أول فيلم سينمائي يوم الرابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1888، وظهر فيه ابنه مع بعض أقارب زوجته. واستمر في وضع التحسينات واستطاع في نهاية المطاف تحقيق غايته، إذ نجح عام 1889 في استعمال فيلم من مادة السيلولويد أدى الغرض المناسب. وشعر عام 1890 بأن في إمكانه أن يعرض اختراعه على الجمهور بنجاح. وكانت الآلة من الخشب وبوزن أكثر من ثمانية عشر كيلوغراما، وأطلق عليها اسم «المستلم» ولذلك أرسل زوجته وابنه إلى الولايات المتحدة الأمريكية طالبا منها العثور على المكان المناسب في مدينة نيويورك للقيام بأول عرض سينمائي في التاريخ. ونجحت زوجته في مسعاها وأخبرته أن كل شيء أصبح جاهزا وفي انتظار قدومه، حيث سيستطيع عرض اختراعه في مكان مرموق في منطقة مانهاتن في مدينة نيويورك.
استعد لويس للسفر، لكنه اضطر لأن يهتم ببعض الأمور قبل سفره، فقد توفيت والدته الثرية، وكان عليه التباحث مع شقيقه ألبرت في مدينة ديجون للتباحث معه حول كيفية الحصول على ميراثه البالغ ما يعادل مئة وأربعين ألف دولار، لاسيما وأنه كان يعاني من ضائقة مالية.
الاختفاء
بعد قضاء عطلة نهاية الأسبوع في ديجون اصطحبه شقيقه إلى محطة القطار كي يستقل القطار المغادر إلى باريس. ولم يكن أحد يتوقع أن تلك المناسبة ستكون المرة الأخيرة التي شوهد فيها لويس، حيث لم يصل باريس واختفى إلى الأبد.
أثار اختفاء لويس ضجة كبيرة، فقامت الشرطة الفرنسية بتفتيش المنطقة التي مرّ بها القطار، واستطاعت أن تستجوب شقيقه وبعض المسافرين الذي كانوا على القطار نفسه ذلك اليوم، دون أن يتذكر أحد وجوده، لاسيما أنه كان طويل القامة بشكل غير عادي (1.93 م) بمعايير تلك الفترة. وقد اختفت معه أمتعته خاصة الحقيبة التي احتوت على الوثائق المتعلقة بتفاصيل اختراعه. وكان لويس» في السادسة والخمسين من عمره عند اختفائه.
اتهامات ونظريات
اتهمت زوجة لويس الشخصية العلمية الأمريكية والشهيرة توماس أديسن وذكرت جواسيسه الذين حاولوا جهدهم معرفة طبيعة أبحاث زوجها. ومما زاد الطين بلة اكتشاف الزوجة أن المحامي الذي كان يقدم المشورة لزوجها في شؤون تسجيل براءة الاختراع كان على صلة بأديسن. ومع ذلك لم تعثر الشرطة على أي دليل يمكن أن يبين وجود علاقة بين أديسن واختفاء لويس.
من الجدير بالذكر أن عائلة لويس لم تستطع الاستفادة تجاريا من اختراعه المهم، على الرغم من امتلاكها آلته الأصلية، إذ كان القانون يمنع ذلك إلا إذا اعتبر صاحب الاختراع ميتا من قبل المحكمة. ولم تستطع العائلة الحصول على ذلك القرار حتى عام 1897. قدّم بعض المهتمين والمؤرخين بعد الحادثة بعقود نظريات أخرى حول أسباب اختفاء لويس، ومنها أنه قتل على يد شقيقه كي يستولي على ميراثه، أو أن لويس انتحر بسبب خيبة أمله في مستوى اختراعه، أو مشاكله المالية. وهناك من اقترح أنه قرر الاختفاء لأنه كان يائسا من الحياة. ولم تعتمد هذه النظريات على أي أساس حقيقي، فمشاكل لويس المالية كانت ستنتهي مع استلامه لميراثه وعرضه لاختراعه في نيويورك الذي كان سيحوله إلى رجل ثري جدا. وأكدت زوجته أن علاقاته العائلية وبها كانت على أفضل ما يرام.
في نهاية المطاف من الممكن الاستنتاج بأنه مهما تعددت النظريات حول هذا الاختفاء الغامض، وكثر المتهمون، فإنه من المستحيل في الوقت الحاضر الكشف عن خفايا حادثة وقعت عام 1890.
مع اختفاء لويس اختفى اختراعه. لكن عام 1895 نجح الفرنسيان لوميير في صناعة آلة تصوير سينمائي وقاما بعرض فيلم سينمائي في فرنسا، ثم قام أديسن بتقديم آلته، التي كانت شبيهة بآلة لويس، رسميا عام 1896، واعتبر مخترع الكاميرا السينمائية من قبل مكتب براءة الاختراع في الولايات المتحدة الأمريكية وجعله الإعلام الرائد في هذا المجال. وأعلن أديسن أنه كان قد بدأ بالعمل على تلك الآلة عام 1890، أي السنة التي اختفى فيها لويس، وجربها لأول مرة عام 1891.
أديسن
كان أديسن الشخصية العلمية الأشهر في الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك ومن أصحاب الثروات الهائلة والنفوذ الكبير، كما امتلك مجموعة من المحامين الأكفاء وعلاقات بأشخاص على استعداد لاستخدام أي وسيلة لتحقيق أهدافه. وحوله الإعلام إلى أسطورة وعبقري لا مثيل له، بينما كان في الواقع أقرب إلى رجل الأعمال منه إلى الباحث العلمي. ويعتبر اختراع المصباح الكهربائي التجاري أشهر اختراعات أديسن، لكن جوانب أخرى من حياة أديسن جعلته أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل، فقد كان من المعروف أنه كان دائم التجسس على أعمال الآخرين، وأن العدد الهائل من الاختراعات المنسوبة إليه ليست في الواقع من أبحاث له، بل من مخترعين آخرين استطاع الحصول على اختراعاتهم بطرق ملتوية أحيانا، أو بشرائها في أحيانا أخرى، أو بنسب ما يخترعه مساعدوه إلى نفسه. ومن الواضح أنه كان يظن أن كل اختراع في الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن ينسب إليه. ومن أعماله الشهيرة الأخرى الصراع الذي أقحم نفسه فيه لاحتكار صناعة توليد الكهرباء في الولايات المتحدة، حيث أراد اعتماد نظام التيار المستمر، بينما فضّل منافسوه، وعلى رأسهم العالم الشهير نيكولا تيسلا استعمال نظام التيار المتردد، ولذلك قام أديسن بإقناع السلطات باستعمال التيار المتردد في إعدام أحد المحكومين بالإعدام لبرهنة خطورة التيار المتردد. ومن المؤكد أن المحكوم تعرض إلى عذاب مرعب في عملية الإعدام.
توسع أديسن في عمله السينمائي، حيث أسس مجموعة من دور العرض وأعلن أنه لن يسمح لأحد باستعمال أجهزة تصوير أو عرض الأفلام السينمائية، دون إذنه. لكن البعض استخدم تلك الأجهزة في صناعة أفلام أكثر إثارة من الأفلام التي عرضتها دوره وعرضوها في دور عرض رخيصة جدا، إذ كانت تكلفة الدخول خمسة سنتات. واستشاط أديسن غضبا، فقام باستئجار مجرمين قاموا بحملة عنيفة ضد منافسيه، شملت ضرب المخرجين والممثلين وإجبار رواد دور العرض على مغادرتها. وقاموا كذلك بتخريب مداخل تلك الدور وحتى افتعال حرائق في الشوارع التي تكثر فيها تلك الدور. ولم يكن رد فعل المنافسين أقل شراسة، حيث اتفقوا مع أشهر العصابات المحلية لحماية مصالحهم، وكان بعض أعضاء هذه العصابات من النساء، فتمت سرقة مخازن لأديسن وحرق مخازنه في منطقة البرونكس في نيويورك، بالإضافة إلى تبادل إطلاق النار مع المجرمين الذين استأجرهم أديسن. وفي نهاية المطاف قرر المنافسون إنهاء المشكلة عن طريق الانتقال إلى مدينة لوس أنجلس، حيث أسسوا استوديوهات في ضاحية تدعى هوليوود، حيث بدأت صناعة السينما الأمريكية التي غزت العالم.
لم تنتهِ جهود أديسن عند هذا الحد، فالذي صنع آلة التصوير التي نسبها إلى نفسه كان في الحقيقة مساعده الأسكتلندي دكسن Dickson. وبعد نجاح هذه الآلة قام المساعد بترك شركة أديسن، وتأسيس شركته الخاصة لإنتاج هذه الآلة. وأثار هذا جنون أديسن، فقدم دعوى ضد المساعد السابق عام 1898 متهما إياه بالسرقة وانتهاك قوانين براءة الاختراع. وفي المحاكمة أقر المساعد بأن المخترع الحقيقي لم يكن سوى الفرنسي المفقود لويس لبرنس، ولإثبات ذلك أاستدعِيَ ابن لويس الوحيد للشهادة. وعلى الرغم من قيام القاضي لسبب غريب بمنع الابن من عرض آلة والده الأصلية، حيث لم تكن مع لويس عند اختفائه، فإن الأبن نجح في عرض الأفلام التي صورها والده. ومع ذلك نجح أديسن في الفوز في القضية، لكنه خسر الاستئناف بعد أكثر من سنة. وقد استمر ابن لويس في الدفاع عن حقوق والده المادية والمعنوية حتى وجد مقتولا في ظروف غامضة في مدينة نيويورك عام 1900.