"لم استطع الكلام ولكني استطعت التفكير، أولى ملاحظاتي بدأت في بداية 1984 وتواصلت لمدة خمسة أعوام، كانت تلك أيام ينتظرني فيها ما يقارب ثلاثة عشر عامًا من السجن، وعندما كان الموت هو الأمل الوحيد، أخفيت هذا الأمل بداخلي مثل سر كبير لا يعرفه أحد غيري، ولا يستطيعون هم تجريدي منه". هكذا يقول الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيجوفيتش ، جاءت هذه الكلمات ليصف بها كتابه "هروبي إلى الحرية" الصادر عن دار الفكر بدمشق ترجمة إسماعيل أبو البندورة، وراجعه دكتور محمد الأرناؤوط.
كتب بيجوفيتش كتابه في سجن "فوتشا"، حيث مكث أعواماً طويلة، ساعدته على الخلود إلى أفكاره ومناجاة خواطره ثم تسجيلها، وجاء الكتاب كما يقول المؤلف وليد تفكير بالحياة والمصير والناس والأحداث، تفكير بكل ما يخطر على بال سجين خلال ألفي يوم وليلة.
حر بفكره
يقول بيجوفيتش: قيمة الأفكار التي يتضمنها الكتاب لا تكمن في ذاتها، بل للظروف التي كتبت فيها، ففي داخل السجن كان هناك هدوء، لكن في الخارج كان نذير الإعصار الذي سيتحول عام 1988 إلى عاصفة تدمر حائط برلين، وتزيح عن المسرح "هونيكر وشاوشيسكو" وتبعثر حلف وارسو، وتزلزل الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا.
شهد العالم تحولاً فريداً، العالم الذي كان ثنائي القطب لفترة طويلة أصبح أحادي القطب، وطوال ما يقارب الألفي يوم، جاءت هذه الأوراق تعليقاً على أحداث مصيرية من إنسان كان ممنوعاً من المشاركة بها، ولكنه امتلك وقتاً كافياً لمتابعتها، وإصدار أحكامه الصحيحة أو الخاطئة عليها.
ويشير إلى أنه كان يودع دفاتره لدى أحد زملائه السجناء، والذي كان مداناً بسبب جريمة قتل، حتى إذا قامت إدارة السجن بتفتيش خزائنه كانت تصادر دفتراً واحداً وليس جميع ما كتب، وساعده أحد السجناء في توصيل تلك المخطوطات إلى أبنائه رافضاً أن يتسلم مكافأة نقدية، ليعلق المؤلف قائلاً أن الناس الذين نسميهم مجرمين، يكون لهم أحياناً شعبية وجاذبية معينة في محيطهم، ذلك أنهم يعرفون عادة الصداقة ومستعدون للمخاطرة، وبعض من نسميهم الناس "الطيبين" يكونون غالباً مجردين من هذه الفضائل.
يقول المترجم أن البوسنة والهرسك عرفها العالم منذ عام 1992 باعتبارها دولة تبحث عن استقلالها وحريتها بعد انهيار يوغسلافيا السابقة وانشطارها إلى مجموعة دول، وكان الشعب البوشناقي المسلم طليعة هذه القوى المدافعة عن الاستقلال والحرية، وكان دائماً وجه علي عزت بيجوفيتش يطل من بين هذه الآلام ليقول سياسياً وثقافياً إن البوسنة لابد أن تنال حريتها يوماً، وستعود كما كانت من قبل عنواناً للإخاء والترابط والتسامح بين الشعوب.
وكان بيجوفيتش السياسي الإنسان والمثقف هو من عبر سابقاً ولاحقاً عن هذه الطموحات، ولذلك تعرّض للسجن في عهد الرئيس تيتو، ونجح علي عزت في تحويل قراءاته وتأملاته في السجن منذ (1983-1988م) إلى لوحات ثقافية وحضارية.
الناس والأخلاق
عن الناس والحرية كتب بيجوفيتش عبارات هامة للغاية بكتابه منها " عندما أفقد أسباب العيش سأموت" ، " لا كراهية لدي ولكن لدي مرارة" ، "وحده الذي يسأل يحصل على الجواب" .
وقال : "الجميع يبحثون عن انقلاب كبير، الأمر يتعلق بزلزال يصل إلى أعماق عالمنا..إلى جذوره" .
عن السجن يقول : " عندما تكون في السجن تكون لك أمنية واحدة: الحرية، وعندما تمرض في السجن لا تفكر بالحرية، وإنما بالصحة. الصحة إذاً تسبق الحرية" . وقال أيضا "عندما كنت في السجن وفي لحظات الإكتئاب التي تحيط بالإنسان في مثل هذه الأوضاع كنت أشعر بأن حالتي تسوء عندما أتغذى جيدا، والجوع يساعدني دائما أفضل من أي هدية تأتيني من البيت لأن الفراغ في الروح وامتلاء المعدة هي من أسوأ الاختلاطات " .
عن الحياة : " هي لعبة لا يربح فيها أحد، إلا أولئك الذين يؤمنون ويعملون صالحاً" .
وقال أيضا : "بالرفض لا يمكن الانتصار على العالم. فذلك غير ممكن إلا بالقبول. في الحقيقة قبول العالم هو شرط لكي يتغير وينتصر" ، كما كتب بيجوفيتش : "الحب الحقيقي يختار لسكنه القلب النبيل، القلوب الأنانية لا تستطيع أن تحب" .
وعن الدين والأخلاق كتب عبارات بينها : "ليسامحني الله إذا أخطأت، ولكنني أقدر المسيحي الجيد أكثر من المسلم السيئ. ولا أستطيع أن أدافع عن شئ فقط لأنه يخص المسلمين وأن أتجاهل شيئاً حسناً فقط، لأنه يخص الآخرين" .
وواجه الغرب الملحد : "أنتم شكاكون فيصعب عليكم الإيمان، ولكنكم تبحثون عن الله. تمعنوا في الوردة وفكروا فيها، أليست هي من آيات الله وأثر عابر من الجنة على الأرض؟ " .
كما كتب يقول : "كل دين بوصفه ظاهرة تاريخية له جانبان: تعاليم هي وحي إلهي، وتجربة من عمل الإنسان، وفي هذا الاختلاط بين التعاليم والتطبيق يحدث الانحراف والخطأ" ، كما قال بكتابه " يعتقد بعض الناس أن انتماءهم الديني يعفيهم من مسئولية التفكير" ..
ملاحظات سياسية
كتب بيجوفيتش عبارات سياسية عن أوضاع العالم من بينها : "الاختلافات الحقيقية بين الناس والمجتمعات والأنظمة السياسية ليست في الغايات، وإنما في الوسائل، ولذلك لا تسألوا كثيراً عن الغايات، لأن الغايات المعلنة ستكون دوماً رفيعة وحسنة، اسألوا عن الوسائل، أو تأملوا بها فهذا لا يخدع أبداً" .
كما قال عن عقوبة الإعدام " المطالبة بإلغائها جزء أساسي من النزاعات في القانون الجنائي، والتي تحسب حسابا للمجرم، أكثر من ضحيته. والمعطيات هنا إشكالية. هكذا على سبيل المثال يصفون لكم تفاصيل عملية الإعدام، ويسألونكم هل أنتم معها؟ ويمكنهم أن يصفوا تفاصيل ارتكاب الجريمة، والدمار الذي ألحقه بالضحية وعائلته، ويطرح السؤال نفسه. لكن ذلك يوضع على الهامش، كما لو أنه لا توجد جريمتان وإنما واحدة - عقوبة الإعدام التي تنفذ بحق القاتل" .
وقال بيجوفيتش عن تجارب الشعوب : "تدخل الشعوب التاريخ أغنياء في الأخلاق وفقراء ماديا، وعندما تخرج من التاريخ، فإن الوضع عادة يكون معكوسا" .
وعن الدكتاتورية قال : "الدكتاتورية غير أخلاقية، وحتى عندما تمنع الحرام، والديموقراطية أخلاقية حتى عندما تسمح به، الأخلاق غير منفصلة عن الحرية، وحده السلوك الحر هو السلوك الأخلاقي" ، وقال : "إذا كان من الممكن استلام السلطة بالوعود، فإن المحافظة عليها لا تكون إلا بالنتائج" .
بخصوص الوطنية كتب المؤلف : " الوطني الأصيل ليس ذلك الذي يرفع وطنه فوق الآخرين، وإنما ذلك الذي يعمل من أن يكون وطنه مستحقا لهذا الفخر، وأن يكون هدفه كرامة وطنه أكثر من الفخر به " ، وقال " لو قدر لي، سأدخل في جميع مدارس الشرق الإسلامي دروسا عن الفكر النقدي، فالشرق على خلاف الغرب، لم يمر بهذه المدرسة القاسية، وهذا هو مصدر معظم ظواهر قصوره" .
وعن الأنظمة الشمولية قال : "تفهم الأنظمة الشمولية بسرعة أن الأغبياء وغير المؤهلين والخائفين لا يشكلون خطرا، ولذلك يساندونهم ويشجعونهم" ، وفي عبارة فلسفية قال بيجوفيتش : "تسأل أنثى الثعلب والدتها: هل يوجد يا أمي من هو أذكى منا في هذا العالم؟ نعم يا ابنتي، أولئك الذين يرتدون فراءنا.. تجيب الأم" .
وعن ثورات العالم كتب يقول : " دعت الثورة الفرنسية إلى العقل، وباسم هذا العقل قطعت بالمقصلة رؤوس الآلاف من العقلاء" ، كما كتب يقول : "إذا كان العالم لا يناسبكم، فغيروه لكي يناسبكم.. العقلاء يفعلون ذلك".
ملاحظات عن الإسلام
يقول بيجوفيتش بكتابه الهام : "لماذا لا تكون الشعوب التي تقوم صلاتها على النظافة والوقت، مثالا للنظافة والدقة ؟!!" ، وعن الحاكم : "يجب طاعة الحاكم المخطئ طالما لم يصدر أوامر خاطئة" ، وقال : " من الضروري إبراز أهمية الدين للحداثيين، وأهمية العلم للمحافظين" .
وعن تاريخ الشعوب نقل المؤلف قول الجزائري عبد القادر محداد: عندما لا يكتب شعب تاريخه الخاص، فسيفعل ذلك الآخرون ولكن بطريقتهم الخاصة.
أخيرا قال مؤلف هذه المذكرات : "عقيدة الطاعة المطلقة للحاكم قادت تدريجيا إلى انهيار الحضارة الإسلامية" .
ولد علي عزت بيجوفيتش عام 1925، وسجن بين عامي 1946 و1949، ثم حكم عليه بالسجن عام 1983 لمدة 14 عاما، ولكنه أفرج عنه عام 1988، وأنشأ عام 1989 حزب العمل الديمقراطي وكافح لأجل استقلال بلاده وكان أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك.