هذه الحرب لم تدمّر فقط الحجر ولا الآثار الموجودة في غزة، التي تعود إلى آلاف السنين، وإنما استهدفت أيضاً الجيل الجديد الذي سيحافظ على الهوية والإرث التاريخي والثقافي، وتاريخ القضية الفلسطينية التي بدأت منذ ما يصل الى 76 عاماً، إذ عمد الجيش الإسرائيلي إلى قصف المدارس والجامعات وأي شيء يحمل التاريخ، مخلفاً فتات الحجر وبقايا الورق، وذاكرة تحفظ وحشية ما يعيشونه أبناء القطاع الآن.
“محاربة الهوية الغزية العريقة”، هكذا يمكن أن يوصف المشهد الحالي الذي يعيشه قطاع غزة. فكل شيء يحدث يصبّ في مصب دمار الهوية الأصلية والإرث الثقافي وهوية المنطقة أو ما يمكن وصفه بـ”الإبادة الثقافيّة”، التي تستهدف تاريخاً وقضية وحتى آثار من عاش في القطاع، ما يخلّف آثاراً ستصبح بعد قرون تاريخاً شاهداً على الدمار الذي تركته حرب 2023 في جذور غزة وأرضها.
هذه الحرب لم تدمّر فقط الحجر ولا الآثار الموجودة في غزة، التي تعود إلى آلاف السنين، وإنما استهدفت أيضاً الجيل الجديد الذي سيحافظ على الهوية والإرث التاريخي والثقافي، وتاريخ القضية الفلسطينية التي بدأت منذ ما يصل الى 76 عاماً، إذ عمد الجيش الإسرائيلي إلى قصف المدارس والجامعات وأي شيء يحمل التاريخ، مخلفاً فتات الحجر وبقايا الورق، وذاكرة تحفظ وحشية ما يعيشونه أبناء القطاع الآن.
تعتبر مدينة غزة من أقدم المدن في العالم، وتحوي معالم أثرية تاريخية من العصور القديمة والبيزنطية والإغريقية واليونانية والإسلامية، يمتاز كل منها بخصوصية تاريخيّة، إلا أن الجيش الإسرائيلي دمّر حتى الآن 200 معلم تراثي.
يكشف تأمّل المشهد القائم، أن الجيش الإسرائيلي قصف دمّر عدداً من تلك المعالم الأثرية، ومن أهمها المسجد العمري الذي يعد أقدم مسجد في القطاع، وتحتوي مكتبته على 132 مخطوطة ما بين مصنف كبير ورسالة صغيرة، ويعود تاريخ أقدم مخطوط إلى سنة 920هـ. لم تنج أيضاً المعالم الأثرية الدينية المسيحية، إذ استُهدف عدد من الكنائس التي تعد إرثاً تاريخياً على عراقة المدينة ورسالة النبي عيسى بن مريم في غزة.
غزة في الأدب
يقول الأديب والكاتب الدكتور جمال أبو نحل، مؤسس ورئيس المركز القومي لعلماء فلسطين، لـ”درج”، إن أسوأ التأثيرات هي ذات البعد الثقافي والتاريخي نتيجة حجم الدمار الهائل الذي تسبب به الجيش الإسرائيلي، الذي “قصف بشكل همجي وحشي قرابة مائتي معلم أثري في قطاع غزة، كانت منها دور عبادة أثرية من مساجد،وكنائس أثرية، ومسح تقريباً جميع الجامعات الفلسطينية في غزة عن وجه الأرض، وصارت أثراً بعد عين، ودمر القصف كل ما في الجامعات من آلاف الكُتب القيمة، وآلاف رسائل الماجستير والدكتوراه، إضافة الى تدمير غالبية مدارس قطاع غزة عن بكرة أبيها”.
يتابع أبو نحل قائلاً، “نحن لا نقول إنّ الحرب في غزة أو العدوان عسكري فقط… وإنما هي حرب طاولت البشر والحجر وأكلت الأخضر واليابس، واستهدفت حرب الإبادة الإنسان الفلسطيني الغزي، الذي يحمل عقلية ثقافية منفتحة”.
يؤكد أبو نحل أن الحرب على قطاع غزة ستكون لها نتائج كارثية على الجيل القادم، إذ مضى على الحرب زهاء خمسة شهور، وبذلك ذهبت نصف السنة (أو الفصل الدراسي ) أدراج الرياح على الطلاب، فلا علم ولا تعليم. ويضيف: “اليوم، هنالك الكثير من تلك المعالم تضررت بشكل جسيم، ما يجعل من مسؤولية كل فلسطيني العمل بجدية للحفاظ على ما تبقى منها والعمل على ترميمها ما بعد الحرب، لجعل ذلك الإرث الحضاري والثقافي حاضراً حتى الأجيال القادمة، وإرسال رسالة واضحة للاحتلال بأن تاريخ فلسطين باقٍ على رغم كل المحاولات لطمسه”.
“نحن لا نقول إنّ الحرب في غزة أو العدوان عسكري فقط… وإنما هي حرب طاولت البشر والحجر وأكلت الأخضر واليابس، واستهدفت حرب الإبادة الإنسان الفلسطيني الغزي، الذي يحمل عقلية ثقافية منفتحة”.
تاريخ لن يندثر
عميد كلية العلوم الإدارية في جامعة الأزهر في غزة، الدكتور رياض العيلة، يقول لـ”درج”، إن الدمار لحق بالمباني الأثرية كافة في قطاع غزة، منها ما يعود الى قبل الميلاد ومنها الى ما بعده، وخصوصاً المسجد العمري ومسجد سيد هاشم بن عبد مناف وغيرهما.
يؤكد العيلة أن استهداف هذه المعالم هو جزء من سياسة إسرائيليّة لإلغاء كل إرث حضاري ثقافي في قطاع غزة بهدف الوصول إلى نتيجة مفادها أنهم هم وحدهم ملّاك الأرض، مشيراً الى أن لهذه الحرب تأثيراً على مستقبل الجيل القادم، فلغاية الآن تم تدمير أكثر من 80 في المئة من مباني قطاع غزة، وتقريباً جميع الجامعات، وأكثر من 200 مدرسة، علماً أن المدارس هي مأوى للنازحين. وسيمر أكثر من خمسة أعوام حسب التقديرات، حتى خروج أصحاب البيوت المدمرة من المدارس وبقايا مباني الجامعات.
يضيف العيلة أنه حتى الطرق تم تجريفها وتدميرها، وعليه سيكون هناك أثر كبير على أكثر من جيل، فلن يستطيعوا الالتحاق بالمدارس والجامعات، والهدف الإسرائيلي ربما هو “نشأة جيل _ربما يعتقدون_ أنّه سيفكر في حياته وينسى قضيته. وأعتقد أنه في ظل تجربة فلسطينية غنية خلال 75 عاماً، سيكون من الصعب دمج الجيل الجديد بالواقع وربطه بالقضية بالمفهوم التاريخي والثقافي والمستقبلي، ولكن ما من شيء مستحيل وسيتم تخطي كل الصعاب”.
يلفت العيلة إلى أن ما تقدم سيقع على عاتق أساتذة الجامعات وخبراتهم في الحفاظ على ذلك الإرث، بخاصة أن الكثير منهم بحث في تلك العلوم والثقافة والتاريخ. والأثر الذي يتركه ذلك التدمير على مستقبل هذه المعالم وتاريخها، هو أن الرحلات التي ستنظم للطلاب الى المواقع سيتم شرحها على موقع أصبح مدمراً، مضيفاً: “تدمير الآثار القديمة لن تنسي أجيال فلسطين القضية وستستمر على الرغم من المجازر اليومية بحق أطفال فسطين ونسائها وشيوخها”.
المنظومة التعليميّة والإرث الثقافي
يشير الدليل الإحصائي السنوي لمؤسسات التعليم العالي الفلسطينية، الى أنّ عدد الجامعات في قطاع غزة 6، وعدد الكليات الجامعية 5، إضافة الى 6 كليات للمجتمع المتوسط، وجلها تعرّض لضرر كلي أو جزئي، وأخرى نسفها الاحتلال بشكل كلي.
الدكتور حسن دوحان، أستاذ الإعلام في جامعة فلسطين، يقول لـ”درج”: “نحن شعب نعشق العلم والتعلم والتعليم، ولذلك سيُبنى جيل من المتعلمين والمثقفين القادرين على إعادة القضية الفلسطينية الى الواجهة، نحو التحرر والاستقلال، وسنعمل على إعادة بناء الجامعات والمدارس”. ويضيف: “سبق أن درست شخصياً في قاعات من النايلون والبلاستيك والزينكو في الجامعة الإسلامية”.
يشير دوحان إلى أن في غزة 45 موقعاً أثرياً أو تاريخياً، بالإضافة إلى مئات المراكز الثقافية والمواقع التعليمية والدينية، وعلى مدار سنوات الاحتلال الاسرائيلي لغزة بين عامي 1967 وحتى عام 2005 تم تدمير المواقع الأثرية والتاريخية وإقامة مستوطنات ومواقع عسكرية، ناهيك بتدمير موقع تل زعرب في رفح وتحويله إلى موقع عسكريّ.
سبق أن أقرت محكمة العدل الدولية في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، مجموعة من التدابير التي على إسرائيل الالتزام بها للحد من التحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية. ومنحت إسرائيل شهراً للالتزام بها، لكن مضى الشهر، وما زال الجيش الإسرائيلي مستمراً في ارتكاب الانتهاكات في قطاع غزة، والتي تندرج “الإبادة الثقافية” ضمنها، إلى جانب “إبادة المنازل”، المصطلح الذي استُخدم أخيراً لوصف ما يتعرض له القطاع من تدمير يجعله غير صالح للحياة.