على فراش تمدد عليه في احد المشافي سمع الصبي مارتن بيستوريوس والدته تقول له (عليك أن تموت.. يجب أن تموت!)
والدة مارتن لم تكن تعلم أن ابنها المصاب بمرض دماغي في الثانية عشر من عمره يسمعها فقد اكد لها الأطباء أنه فقد كل وسائل الاتصال بالعالم الخارجي حتى عيناه المفتوحتان كانتا ثابتتين في مكانهما دون حراك لكن.. مارتن سمع والدته!
لخص مارتن تلك اللحظة فيما بعد بقوله.. (تخيل أن لا تكون قادراً على قول.. أنا جائع.. أنا أتألم.. شكراً.. أو أحبك! .. أن تكون عالقاً داخل جسد لا يستجيب للأوامر ومحاط بالناس لكنك وحيد تماماً تتمنى لو تستطيع أن تتواصل أن تتصل أن تواسي، كان هذا واقعي طيلة ثلاث عشر عاما ! )
مرض مارتن افقده كل قدرة على التواصل مع العالم الخارجي عبر الحركة او النطق او حتى حركات العيون لكنه كان يدرك كل شيء من حوله دون ان يعلم الاخرون، كان يرى والديه ويسمع كلامهم، كان يرى الأشياء والطبيعة والناس ويتأثر ويفرح ويحزن لكن دون أي قدرة على التعبير ويقول مارتن .. ( كنت حبيسا داخل هذا الجسد ! )
ويكمل .. ( تمنيت أن يدركني الموت لأحرر نفسي واحررهم من قيدي لكن دائماً ما كان بداخلي جزء يدفعني للبكاء واخر يدفعني للقتال .. وقررت أن أراهن ! )
بعد 12 عام على هذه الحالة استغرب الأطباء عدم موت مارتن حيث انهم توقعوا أن يفارق الحياة بغضون سنوات بسيطة.. كان مارتن يقاتل لأجل الحياة .. وسنحت له فرصة في مركز تخصصي في هذه العلوم وصل لتجارب جديدة حول إمكانية تطوير التواصل الحسي عبر برنامج طويل الأمد وأخذت والدة مارتن ابنها لهذا المركز وكانت المعجزة وبدأ جسد مارتن يستجيب تباعا للحواس ابتداء من الشم وانتهاء بتحريك يديه وعينيه ولسانه .. لقد عاد للحياة !
يقول مارتن في مؤتمر ( تيد لذوي الاحتياجات الخاصة ) .. التواصل الحقيقي يرفع من الفهم ويخلق عالم أكثر عطف ورحمة ,في مرة كان ينظر لي ككائن جماد شبح أبله والان انا على كرسي متحرك لكني الان زوج ، إبن ، صديق، أخ، صاحب عمل، خريج جامعة مع مرتبة الشرف الأولى وكاتب مرموق وقد كرمت بجوائز كثيرة ,لقد جئت إليكم من الظلام الرهيب واستماعكم إلي اليوم يشدني قدماً نحو النور !
اذا هي إرادة الحياة التي جعلت مارتن يتغلب على هذا العجز وأن ينطلق في رحلة النجاح وبالتالي من البديهي ان تقسم إرادة الحياة إلى قسمين يترادفان في حياة أي إنسان.. إرادة النجاح وإرادة الفشل !
لن نناقش الموضوع ككل لأنه كبير وبحاجة الكثير من المقالات لكن سنأخذ فكرة واحدة فقط تهمنا في حياتنا كشعوب انعدمت بها هذه الثقافة التكوينية الهامة وسنطرح هذه الفكرة عبر الإجابة على السؤال التالي ..
هل نحن نفشل دوما لأننا لا نستطيع النجاح !؟
لعل الغريب أن كل الدراسات السيسولوجية تقول ان السبب الرئيسي للفشل ليس تفاوت الإمكانيات والقدرات والعجيب ان أكثر الناجحين هم من متوسطي القدرات أثناء مراحلهم الدراسية والجامعية اما المتفوقين اغلبهم يفشلون لأنهم يعيشون على العزاء والسلون بانهم كانوا الأوائل والمتفوقين والعباقرة ..الخ.
إذا يمكننا الان تفكيك عناصر ارادة النجاح وتعدادها..
أولاً.. الإصرار وعدم الاستكانة للفشل.
ثانياً.. النظر بإيجابية لكل الأمور وتسخير الفشل للوصول للنجاح .
ثالثاً.. عدم الاستغراق بتحليل مكونات النجاح ومفرداته ومكوناته .
.
سأستلهم تجربة توماس اديسون لتوضيح الفكرة من البند الأول في الإصرار وعدم الاستكانة للفشل ..
اديسون عندما كان صغيرا تم طرده من المدرسة وعندما ذهبت والدته للاستعلام عن السبب قال لها الأستاذ ان ابنك فاشل ولا يستوعب الدروس ولا جدوى من بقاءه في المدرسة .. كان رد الام مزلزلا على الطاقم التدريسي .. قالت ( ابني سيغير وجه العالم ! )
حرصت والدة توماس ان تنقله لمدرسة أخرى وبدأت معها حياة جديدة لاديسون نجم عنها ولادة أعظم مخترع بالقرن العشرين ,لقد امنت الوالدة بقدرات ابنها ولم تستسلم للتقييم المدرسي مما عكس على حياة طفلها الذي استمد إرادة الحياة والنجاح من موقف والدته وتعلم الإصرار على النجاح ولعل المثير للدهشة ونجهله ان توماس اقدم على عشرة آلاف محاولة في سعيه لاختراع المصباح الكهربائي وعندما وصل للتجربة رقم خمسة الاف سأله أحد الصحفيين بطريقة تهكمية .. خمسة آلاف تجربة فاشلة الا تكفي ان تترك هذه التجربة نهائيا وتعترف بالفشل !؟ .. فأجاب اديسون .. اين الفشل !!؟ الان اصبح لدي قناعة ان 5000 تجربة لا تكفي لخلق مصباح كهربائي !
كل العلماء عاشوا تجربة أديسون و امضوا حياتهم في تكرار تجاربهم ولو ان هؤلاء يأسوا بالفعل لما كنا على هذا الحال الان !
والان ما المقصود بالبند الثاني بمفهوم النظر بإيجابية لكل الأمور وتسخير الفشل للوصول للنجاح !؟
إن الفشل يعد الوقود الحقيقي لتغذية إرادة النجاح ولعلها من المفارقات العجيبة التي يحيا بها الإنسان كما قال الصحفي والكاتب الأمريكي ترومان كابوتي ( الفشل هو البهار الذي يعطي النجاح نكهته المميزة ! )
اديسون نفسه قال في نهاية حياته رغم فشله في العديد من الاختراعات ( لن أقول انني فشلت مرة ولكن أقول انني اكتشفت ان هناك طرق تؤدي للفشل ! ) .. ربما هي إرادة استنباط الامر الإيجابي في رؤية الأمور حتى الفاشل منها ما يميز العقل المزود بغريزة النجاح عن العقل الذي طمسه ظلام الفشل ! فهو لا ينظر للجانب السلبي بل يراه بمفهوم إيجابي ونفس الشيء عند النظر للجوانب إيجابية فإن نظرت لها بشكل سلبي أصبحت سلبية حتما وهذا ما دفع علماء النفس على الإقرار بالقاعدة الذهبية التي تقول إن الصحة النفسية تتواجد عند الإنسان القادر على النظر لكافة الأمور بشكل إيجابي !
ونشرح مفهوم البند الثالث في عدم الاستغراق بتحليل مكونات النجاح ومفرداته ومكوناته ..
يقول الفريد جورج وايت ويل حول إرادة النجاح .. ( ليست المسألة في كثرة المعلومات انما في بعض المبادئ التي تمت تجربتها عبر العصور وتكللت بالنجاح ! ) .. ولذلك يظن البعض أن إرادة النجاح صعبة ومستحيلة وبحاجة مفردات ومكونات كثيرة لكن هذا غير صحيح واغلب الناجحين استمدوا إرادة النجاح من مبادئ بسيطة جدا
ويبدو ان طرف الخيط اصبح بيدنا وهو بسيط وليس بحاجة قراءة آلاف الكتب وتوفير أفضل أجواء ومناخات النجاح بل إن النجاح لا يتطلب التحليل بل يعتمد على التجربة الإنسانية البسيطة ولعل نابليون بونابرت يفيدنا بهذا الخصوص عندما سئل عن سر قوة أفراد جيشه الذي غزا أوروبا بالكامل فقال ( اجبتهم فقط عن ثلاثة أمور .. من قال لي لا أعرف قلت له تعلم .. من قال لي لا أستطيع قلت له حاول .. من قال لي مستحيل قلت له جرب ! )
لعل التجربة الممزوجة بالإصرار والتحدي هي من دفعت السباح المصري العاجز مصطفى خليل الذي فقد ساقيه وجزء من كتفه لعبور بحر المانش في انجاز مذهل .. لعلها هي نفسها التي قادت اليكس فان ماير الإنسان الضرير في مايو 2001 ليتحدى عجزه ويتسلق اعلى قمة بالعالم قمة ايفرست 8888 متر !! .. ولعلها هي ذاتها التي تجردت من كل العلوم والكتب الروحية والوضعية وقادت سو أوستن المشلولة شلل جزئي لان تسجل رقم قياسي بالغوص رفقة كرسيها المتحرك مئات الأمتار في المحيط الأطلسي وقد قالت .. ( بعد حصولي على الكرسي المتحرك تغيرت ردة فعل الناس نحوي كانوا دائما ينظرون إليّ بعين الشفقة وذلك أثّر بي داخليا وغيرني من الصميم كما لو أن جزء مني أصبح غريبا عني ونتيجة لذلك أدركت أنني في تلك اللحظة وأنا أرى مياه المحيط أنني على وشك إعادة كتابة قصة حياتي من جديد، لأستعيد هويّتي المفقودة ! )
جواب السؤال الان اصبح جليا فنحن لا نفشل لأننا لا نستطيع النجاح بل اننا نفشل لأننا نمتلك إرادة الفشل كما قال فرويد .. وهذه الإرادة لها مفعول سلبي يتعدانا ليصل بنا الى ان نجعل من الاخرين فاشلين مثلنا لنرضي أنفسنا ويبدو ان الانسان فعلا فيلسوف كبير وماهر في خلق أسباب التبرير لفشله !
لعل ثقافة إرادة النجاح ليست الثقافة الوحيدة التي نجهلها ونحتاجها في مجتمعاتنا النامية فكريا للتخلص عبرها من متلازمة إرادة الفشل التي ترافقنا بل اننا بحاجة ما هو أكثر من ذلك عبر الوعي بمفهوم النجاح نفسه .. مفهوم النهوض نفسه .. مفهوم الأمل نفسه .. وبالتالي مفهوم الحياة نفسها !
هذا يقودني للتوضيح عبر مثال حي اختم به مقالي عن النحات الشهير مايكل أنجلو الذي نحت أروع تمثال له وهو تمثال يجسد شخصية موسى عليه السلام وعندما فرغ من هذه التحفة المعمارية وقف بجوار التمثال وطلب منه أن يتكلم .. وبعدها هوى بالإزميل على أنفه فكسره وعندما سأل عن سبب تشويهه للتمثال قال.. ( لا أريد لشيء ان يكون اعظم انجازاتي فأقف عنده ! ) .. وكأنه يوجه رسالة تربوية عالية القيمة مفادها .. أن الانسان ما زال يطلب النجاح دوما فإن هو ظن أنه امتلكه.. فشل !
واختم ..
إن مد أحدهم يداه إليك ليساعدك على النهوض.. فإياك أن تخذله و تخسر دفء هاتين اليدين .. أنها أيادي الله وقد مدت لتساعدك.. وما أكثر جنود الله ولا تعلمونهم.. هي مدت لتمنحك الأمل لتسير إلى الضوء فأمسك بهما جيدا.. وانهض!
.
هيا .. أنهض ! .. بقلمي انا هادي بازغلان
شكرا لكل من قرأ وشارك ودعم المقال .. نلتقي