لطالما دعا الكاتب السوداني محمد عثمان إبراهيم بسن قانون يمنع السودانيين من صناعة النكتة، مرة واحدة وإلى الأبد، ولا سيما السياسية إذا فهمت دعوته جيدا. والحق أنني وجدت في بعضها وجاهة وإن كانت غير واقعية، فهذا أمر لا يحسنه السودانيون كفاية. هل تذكرون جماعات النكتة ونجومها؟ إنها ليست دليلا وحيدا على هذا المذهب، بقدر ما هي أكثر الأمثلة وضوحا على رداءة صناعة الإضحاك عندنا وسطحيتها.
السودانيون لا يحسنون هذا الضرب من الفكاهة، وما يمارسونه منه إنما هو استنساخ وانعكاس بارد للظُرف المصري الذي هو شيء أصيل وقديم في طبع إخواننا المصريين، أما طبع السودانيين عموما فيميل إلى التجهم، وهذا تعميم غير مخل، فقد خلق السودان في كبَد. كان الطيب صالح يقول «نحن قوم نخاف الفرح. إذا ضحكنا نستغفر، نخاف البهجة ونتمسك بالقتامة في كل شيء!» غفر الله لأديبنا الكبير، هل كان محقا؟ تقول حكمة خليجية غير مؤكدة «إذا أردت أن تضحك السوداني وتضاحكه، فانتظر حتى يغضب أو أغضبه إن شئت، ستضحك»، وإذا اتبعت هذه الحكمة – وهي غير مضمونة النتائج – قد تحصل على نكتة سودانية غير مصطنعة. الكثيرون منهم استنتجوا ذلك وجربوه، فصنعوا من تجهم السودانيين وضيق صدورهم بالمزاح مواقف مرحة أفضل مما صنعته الكوميديا السودانية.
تمتلئ صفحات الخليجيين بهذا النوع من المشاغبات، يستفزونهم ويمازحونهم ويصنعون من المقالب الصغيرة بهجة عابرة، تنم في أغلبها عن المحبة، وليس التنميط أو السخرية، كما يظن البعض، وإذا تأملتها جيدا تدرك أن وراءها شيئا من الإشفاق على السودانيين من حالة الحزن التي تتبدى في محياهم، ويحاولون التسرية عنهم وعن أنفسهم في مثل هذه المواقف المسلية. يحكي الفنان عادل إمام عن رحلة يتيمة إلى السودان لعرض المسرحية الشهيرة «مدرسة المشاغبين» وفي انطباعاته السريعة عن تلك الرحلة تعجب الزعيم أشد العجب من أن الجمهور لم يكن يضحك إطلاقا طوال المسرحية، إلا في المشاهد التي يظهر فيها الفنان المرحوم يونس شلبي، حتى لو لم يقل شيئا. مجرد ظهوره على الخشبة كان يشعل الصالة بالضحك ثم تعود إلى انطفائها في بقية المشاهد، وكان شلبي بارعا في التعبيرات الجسدية والإيماءات، لكن هذا ليس هو المهم. المهم هو الحيرة التي تركها هذا الموقف في عقل الزعيم إمام الذي أضحك الملايين، ما الذي يضحك السودانيين حقا؟
في عام 2010 أصيب نحو 80 شخصا بنوبة ضحك فجائية في منطقة الخوي في شمال كردفان، وسرعان ما انتشر الخبر، وراح الجميع يبحث عن السبب. الصحافة وعلماء النفس والفضوليون وحتى وزارة الصحة. لماذا يضحك ثمانون شخصا من أصل 40 مليون؟ هذه مصيبة بلا شك. قال البعض واثقا إنه «بسبب قمح فاسد أو ماء ملوث» وقال رئيس اللجنة الإدارية في المنطقة: إن الاصابة بالمرض بدأت في 28 يناير/كانون الثاني ووصلت الحالات إلى 101 إصابة كان اخرها ثلاث إصابات في 10 فبراير/شباط 2010. أما الأعجب فكان ما قاله والي الولاية في ذلك الوقت محمد أحمد أبو كلابيش «إن بعض الظواهر قد تخرج من حيز التفسير المنطقي، فهو مرض غامض تسببه قوى غامضة، وإن حياً واحدا فقط من أحياء بلدة الخوي هو الذي أصابه المرض، ولم ينتشر خارجه»، الحمد لله أن الضحك لم ينتقل إلى بلدات أخرى وإلا أصبح وباء! من حسن الحظ أننا لا نملك صحافة ساخرة طويلة العمر، والقليل الذي نجده في فن الكاريكاتير، والذي نقرأه في الأعمدة والمنشورات التي تتصنع السخرية محتمل، وأرجو أن يبقى في هذا الهامش الضئيل ولا يتعداه، وينتهي إلى ما انتهت إليه تجربة «حلمنتيش» الغابرة، وصحيفتها وبرنامجها، وشخصياتها، من «المتجهجه الأممي» إلى «المتجبجب الودكي» و«المتشعلق المنبرش» وبقية الأسماء المتحذلقة التي احتملها السودانيون بعض الوقت.
أخيرا، لا تأخذوا هذه الانطباعات على محمل الجد، فقد تكون لوثة أخرى من تلك القوى الغامضة التي يعرفها أبو كلابيش، وربما هي التي أصابت الحكام الجدد فاختلط الأمر على محمد عثمان. على أي حال، كان الناس في أزمنة مضت، وحين يعطل بهم قطار في الصحراء ويتأخر إصلاحه فإنهم لا يجدون بداً من أن يكونوا عائلة واحدة ولو لساعات قليلة. وبعد أن يتشاركوا كل ما لديهم من الطعام والأغنيات والحكايات والشجارات التي تقوم وتنطفئ، بلا سبب مثل أعاصير الصحراء، فإنهم يلجأون أخيرا إلى اجترار المواقف الطريفة والنكات مهما بدت سخيفة ومستعادة لقتل ساعات الانتظار التي تبدو أبدية، فلا سبيل إلى تجنب ذلك بأي حال. سارعوا إلى إصلاح القطار لكي تنتهي هذه الرحلة.