تخطي إلى المحتوى
أوراق مشاقة المجهولة: طوشة 1860 في دمشق بعيون يوجين روغان أوراق مشاقة المجهولة: طوشة 1860 في دمشق بعيون يوجين روغان > أوراق مشاقة المجهولة: طوشة 1860 في دمشق بعيون يوجين روغان

أوراق مشاقة المجهولة: طوشة 1860 في دمشق بعيون يوجين روغان

عمل المؤرخ البريطاني يوجين روغان، في العقود الثلاثة الأخيرة، على إصدار عدد من الكتب والدراسات المهمة حول تاريخ المشرق العربي، والشرق الأوسط عموما. ولعل ما ميز كتابات روغان في هذا السياق، أنها غالبا ما ترافقت مع الكشف عن مصادر وأوراق جديدة، لم يسبق للباحثين الاطلاع عليها، أو قراءتها بالشكل الكافي. فقبل سنوات قليلة، كان روغان، قد سافر إلى إسطنبول لزيارة قبر جده، الذي قتل في معركة جناق قلعة على سواحل إسطنبول، وهناك وبالصدفة وجد نفسه أمام قبر ضابط عثماني قتل خلال الحرب العالمية الأولى. هذه المصادفة الغريبة دفعته يومها إلى إعادة كتابة الحرب العالمية الأولى بعيون الجنود العثمانيين، الذين بدوا حسب روغان، عاكفين على تدوين يومياتهم القاسية خلال الحرب.
الشيء ذاته وجدناه مع صدور دراسة روغان (نشرت في كتاب بالعربية) عن مدارس العشائر في إسطنبول، إذ استطاع الحفر في تاريخ هذه المدرسة، توفير معلومات غنية عن الطلاب الذين درسوا في تلك الفترة فيها. واللافت هنا أن هذا العمل ساعد الباحثين لاحقا على تطوير طروحاتهم حول تشكل المخيال القومي في المنطقة، بعيد الحرب العالمية الأولى، إذ لاحظ المؤرخ الأمريكي مايكل برفنس في كتابه «الثورة السورية الكبرى وتنامي القومية العربية» أن بعض الذين شاركوا في احتجاجات 1925 داخل سوريا، كانوا قد تعرفوا على بعضهم وهم صغار في مدرسة العشائر، أو غيرها من المدارس الأخرى، وعادوا والتقوا لاحقا وساهموا في تشكيل مخيال قومي آخر بعيد الحرب العالمية الأولى. وهو ما يظهر دور الصداقات والقرابات أحيانا في تشكل الوعي السياسي في المنطقة، وهو دور ظل يلعب دورا محوريا إلى أيامنا هذه.

أوراق ميخائيل مشاقة

نشر روغان في الأيام الأخيرة كتابا بعنوان «أحداث دمشق: مذبحة 1860 وتدمير العالم العثماني القديم». والجديد في هذا الكتاب، كما تعودنا من روغان، هو الإتيان بمصادر جديدة عن تلك الفترة. كان مؤرخون كثر قد حاولوا قراءة أحداث 1860 داخل دمشق، التي سماها بعض الدمشقيين بـ»الطوشة» ونشير هنا إلى جهود المؤرخة ليندا شيلشر، التي حاولت قراءة هذا الحدث بوصفه فاصلا بين عالمين من النخب داخل دمشق، وربما ما ميز عمل شيلشر هو أنها حاولت أن تركز على قراءة ما جرى يومها، والدوافع المحلية، وبالأخص على صعيد الأرقام والروايات التي ذكرت عن المذبحة، وعاد بعد ذلك بسنوات المؤرخ السوري زهير غزال لقراءة هذا الحدث، لكنه لم يركز على الحدث نفسه، وإنما على تداعياته، إذ وجد زهير في كتابه «الاقتصاد السياسي لدمشق في القرن التاسع عشر» أن هذه المذبحة كانت بمثابة المدخل لتمكن العثمانيين من فرض قوانينهم الاصلاحية على المدينة، خلافا لفترة ما قبل المذبحة، التي حاولت فيها النخب المحلية الدمشقية مقاومة الإصلاحات، وبذلك شكّل تدخل العثمانيين ما اعتبره غزال لاحقا بمثابة الأرضية الممهدة لتدخل دولة ما بعد الحرب العالمية الأولى بشكل أوسع في المجال العام.
ما يميز عمل روغان الجديد، أنه خلافا لنظرتي شيلشر وغزال، ينظر إلى ما بعد الأحداث بعيون أكثر إيجابية، إن صح التعبير. فهو يعتقد أن هذا الحدث جاء ليعلن عن تدمير عالم دمشق القديم، ويشكل فضاء دمشقيا أكثر انفتاحا وحيوية.

مراسلات مشاقة المجهولة

اعتمد روغان على أوراق ميخائيل مشاقة، وهي مراسلات كتبها أثناء عمله قنصلا للولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 1959 ـ 1970، وتحتوي على ثلاثة دفاتر مكتوبة باللغة العربية مع عدم وجود أي شي باللغة الإنكليزية. كان مشاقة قد كتب مراسلاته حول ما جرى في دمشق بعد أيام من مذبحة 1860، حيث صاغ ما حدث لرئيسه القنصل ج. أوغسطس جوسون المقيم في بيروت. ويعتقد روغان أن هذه الأوراق قد تكون أقدم رواية عربية عن مذبحة المسيحيين التي استمرت ثمانية أيام. عاش مشاقة في منزل كبير في الربع الشمالي الشرقي من مدينة دمشق المسورة. ويعود تاريخ أجزاء منه إلى القرن السابع عشر، وتم بناؤه حول سلسلة من الأفنية الداخلية مع أشجار الفاكهة ونوافير المياه.

إبراهيم باشا في دمشق

يعتقد روغان أن الوجود المصري في سوريا 1831ـ1840 فتح سلسلة من التغييرات كان أهمها إدخال القناصل الأوروبيين، وفتح أسواق دمشق أمام التجارة المتوسطية، وظهور الملاحة البخارية. وقد تطور هذا الأمر مع إدخال إبراهيم باشا مفاهيم المساواة القانونية بين المسلمين وغير المسلمين، التي تم تنفيذها بالفعل في مصر لكنها كانت غريبة على دمشق. كان محمد علي باشا قد أدخل التغييرات في مصر لفرض المسؤوليات المالية والعسكرية على الأقليات. وبحلول عام 1850 كانت فرنسا والنمسا قد دخلتا كشريكتين تجاريتين رئيسيتين في سوريا، ما أدى إلى تضاعف إجمالي الواردات الأوروبية عبر مرفأ بيروت تقريبا بين عامي 1853ـ1857. وكان للتدفق المفاجئ للأقمشة القطنية والصوفية الرخيصة في سوق دمشق تأثير فوري على صناعة النسيج المحلية. وفي مواجهة هذا السيل من الأقمشة الأوروبية الرخيصة، أجبر النساجون (النويلاتية) على التوقف عن العمل. ترافق هذا التوسع في الحقوق القانونية للمسيحيين واليهود السوريين من خلال الفرص الاقتصادية المتنامية التي تمتعت بها مجتمعات الأقليات.
نرى دمشق في هذه الفترة وهي تعيش صراعا بين النخب والناس العاديين والسلطة المركزية حول هذه الإصلاحات، كما نرى النخب المحلية الدمشقية المسلمة وهي تندد بالإصلاحات العثمانية، كونها أتاحت مساواة أكثر بين المسلمين والمسيحيين. ويبدو أن العثمانيين ساروا في هذا الطريق في ظل تدخل القوى الأوروبية بحقوق الأقليات لمنع المزيد من التدخلات الأوروبية.

شرارة المذبحة

في بداية عام 1860 نشأت خلافات بين المسيحيين والدروز في منطقة الشوف في لبنان، وشن الدروز هجوما على قرى جبل لبنان المسيحية الشمالية، أحرقوا فيها كل قرية، وقتلوا أي رجل وجدوه هناك. وقد تركت الأحداث في جبل لبنان انطباعا خطيرا على السياسة والمجتمع في دمشق. وكانت هناك قناعة لدى القنصليات الأجنبية، كما كتب مشاقة، أن العثمانيين يساعدون الدروز في عملياتهم ضد المسيحيين في جبل لبنان وزحلة ودير القمر، بينما لم يقم المسؤولون العثمانيون بأي محاولة للتدخل. اللافت هنا أن الأهالي في دمشق احتفلوا وزينوا الأسواق فرحا لما جرى، وانتشرت شائعات في المدينة تتحدث عن وجود نية لدى المسيحيين للهجوم على بيوت المسلمين. في هذه الأثناء حاول الأمير عبد القادر الجزائري، الذي اختبر الحرب لسنوات في بلاده، محاولا إيقاف التوتر في المدينة، ولذلك عاجل للقاء الدروز محذرا إياهم من مسؤولية ما يحدث ضد مسيحيي دمشق، وأخذ يحشد قواته ويمدهم بالسلاح، لكن يبدو أن هذه المحاولات لن تتمكن من تهدئة الأوضاع، خاصة في ظل انتشار شائعات أخرى تحدثت عن قيام المسيحيين في حمص بذبح مسلمين خلال تأديتهم للصلاة في مساجد المدينة.

كان المسيحيون في دمشق لا يتجاوز عددهم 15% من مجموع سكان المدينة، لكن أهالي دمشق كانوا قد استسلموا لهيستيريا جماعية وفق تعبير روغان، لا مكان فيها للعقلانية. في هذه الأثناء حاول العثمانيون اتخاذ بعض الاحتياطات، ودعوا أهالي المدينة إلى العودة لأعمالهم ومنع حمل السلاح، مع ذلك ظل المسيحيون قلقون. في 7 يوليو/تموز 1860، مرّ عدة شبان مسلمين في أحياء المسيحيين، وأخذوا رسم الصلبان في الشوارع ، وأجبروا بعض المسيحيين على الدوس عليها. وعلى أثر ذلك تم اعتقالهم، ووضعوا في السجن ورفضت كل الوساطات لإخراجهم. في اليوم الثاني 8 يوليو امر الوالي بوضع سلاسل في أرجل الشبان، وطلب منهم تكنيس أحياء المسيحيين كعقوبة على ما فعلوه، وهنا ثارت المدينة، واندفع المسلمون نحو الأحياء المسيحية (حي باب توما) لتقع واحدة من أكبر المجازر التي عرفتها مدينة دمشق في القرن التاسع عشر، وأسفرت عن مقتل 5000 شخص.

تدخل إسطنبول

وهنا حاول روغان تتبع السياسات العثمانية، إذ يرى أن القوانين التي سنها العثمانيون لاحقا أثر الحادثة ساهمت في تشكيل دمشق الجديدة، كما ساهمت في إعادة المسيحيين للمدينة، بعد أن هربوا منها إلى بيروت. كان مهندس هذه السياسات الجديدة هو فؤاد باشا، الذي عمل طبيبا في فترة شبابه، ومن ثم التحق للعمل في وزارة الخارجية العثمانية ليعين لاحقا وهو في سن السابعة والثلاثين وزيرا للخارجية. دخل دمشق برفقة جيش كبير ومنضبط، وعندما لاحظ الدمشقيون هذا الجيش بدوا قلقين، إذ رفض اللقاء بالوجهاء المحليين، باستثناء الأمير عبد القادر، محملا إياهم مسؤولية ما جرى، وسرعان ما أصدر قرارا بإعدام العشرات من المسلمين ممن شاركوا في المذبحة، وقام بإرسال قرابة ألف دمشقي للقتال مع الجيش العثماني خارج دمشق، كانوا في معظمهم ممن شاركوا في المذبحة، وبذلك ضمن إخراجهم من دمشق. لكن التطور الأهم الذي أحدثه فؤاد باشا تمثل في عمله على تحويل دمشق لاحقا إلى مركز لولاية سوريا، فقد وجد أنه من الضروري إعادة إعمار المدينة من أجل الوصول إلى مصالحة اجتماعية، كما وجد أن فرض ضرائب على أهالي المدينة لن يكون ناجعا. ولذلك أعلن العثمانيون في أبريل 1965 إنشاء ولاية جديدة تضم دمشق وصيدا والقدس، وبذلك تمكنت دمشق من تحصيل إيرادات وضرائب كبيرة من بيروت وباقي المدن إلى خزينتها، ما سمح بتطوير المدينة بشكل غير مسبوق من شأنها تنشيط المجتمع والاقتصاد وبناء أسواق جديدة، وإنشاء مدارس. أظهرت هذه التطورات لاحقا توافقا بين المسيحيين والمسلمين قائم على ضرورة الحد من التوترات لصالح مستقبل مدينتهم، وبعد عشرين سنة تقريبا بدت دمشق قوية بما يكفي للوقوف بمفردها، دون الحاجة إلى الاعتماد على عائدات بيروت للبقاء على قيد الحياة والازدهار. هذا التطور يمكن لمسه من خلال رسائل مشاقة، الذي أدرك أن مستقبل دمشق للمسيحيين والمسلمين واليهود على حد سواء، ويبدو أن هذا الرأي تشكل في ظل إعادة الإعمار التي عرفتها المدينة، والتي خلقت قناعات وأفكارا جديدة لما يسميه أسامة مقدسي بـ»الإطار المسكوني» القائم على لغة تعايش بين المسلمين وباقي الطوائف، وهو ما سمح بتعايش كل الطوائف في دمشق بعد عام 1860.

المصدر: 
القدس العربي