على الرغم من ارتباط تاريخ الطبخ بالنساء على مدى قرون طويلة، إلا أنّ ما يلاحظ على مستوى تدوين هذه الخبرة في الفترة الأموية والعباسية وحتى العثمانية، عدم عثورنا على مخطوطات وكتب من إعداد نساء ذلك العصر، إذ أنّ غالب ما وصلنا من تحقيقات وكتب تراثية كتبها رجال، مثل «الطبيخ» للبغدادي أو «الوصلة للحبيب» لكاتب مجهول، ولعل ذلك يعود إلى أنّ مهنة الطبخ في الأسواق وفي القصور وفي المناسبات العامة غالبا ما ارتبطت بالرجال، بينما بقي الطبخ في المنزل من مهام النساء، ويبدو أنّ غياب هذا التراث النسوي على صعيد الكتابات حول الطعام بقي سائدا حتى القرن العشرين.
صحيح أنّ هناك بعض الكتب التي صدرت لنقل بعض الوصفات، مثل كتاب لمياء الجابري (زوجة مصطفى طلاس) صاحبة الكبة الشهيرة، لكن على صعيد مدينة مثل دمشق أو حلب لا نعثر على أسماء مشهورة مثلا، أو لها كتابات في هذا الحقل مقارنة مثلا بالأسدي أو فخري البارودي أو فاروق مردم بك. ونلاحظ في حالة دمشق أنّ الرجال في الغالب هم من تكفّلوا بهذه المهمة، وربما يعود ذلك إلى كونهم كانوا يرون في الطعام مدخلا للحفاظ على ذاكرة وهوية المدينة، وإن كان هذا السبب لوحده غير كاف لتفسير هذه الهيمنة الذكورية على صعيد الكتابة حول تاريخ الطعام. ولذلك يشكّل مشروع الأديبة والباحثة السورية نادية الغزي (تولد 1935) حالة فريدة في هذا الجانب، فبعد العمل لسنوات في التلفزيون، توجّهت في نهاية التسعينيات لإعداد خمس مجلدات عن الطعام بعنوان «حضارة الطعام في بلاد الرافدين وبلاد الشام» وهو بذلك يعتبر أول عمل نسوي عن تاريخ الطعام، وأطول سيرة عن الطعام أيضا في البلاد، وقد صدر هذا الكتاب في عام 2001 لكنه لم يحظ بالاهتمام الكافي، ربما لأن الثقافة العالمة (النخبوية) آنذاك لم تكن تولي لهذا التاريخ اليومي اهتماما كافيا مقارنة بفترة ما بعد الحرب في سوريا. ولا تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه طبخ بأيادي امرأة وحسب، وإنما أيضا كون المؤلفة ستقرّر في هذا المؤلف تقديم رواية أخرى عن الطعام السوري بالأخص، مغايرة للصورة التي رسمها بعض الرجال في القرن العشرين من خلال استخدام الطعام مدخلا للدفاع عن هوية المدن في مقابل التغيرات السياسية، ففي السيرة التي ترسمها لنا نتعرّف على رواية أخرى لجذور بعض الأكلات وأيضا على دمشق أخرى، لا بوصفها مدينة ذات إرث تقليدي قديم على مستوى الطعام، وإنما مدينة حيوية على صعيد استقبال المؤثرات الثقافية وبالأخص الهجرات التي جاءت لها من الخارج مع الأرمن والشركس والأكراد وغيرهم من الجماعات الأخرى في بدايات القرن العشرين، ولذلك منذ البداية نشعر وكأننا أمام خطة كتابية أخرى عن سوريا وبلاد الشام أكثر تصالحا مع بعض القصص والجذور التاريخية، وأكثر إظهارا لدور الجماعات الأخرى التي سكنت البلاد في القرن العشرين وساهمت في ثقافتها العامة.
الأصول
وكما تذكر الغزي، فإنّ مشروعها يقوم على كتابة تاريخ طويل للطعام في بلاد الشام بالأخص، ولذلك نراها في الجزء الأول تقرر البدء من فترة ما قبل الميلاد، ما جعلها تعتمد على الأركيولوجيا وبعض الدراسات الأنثروبولوجية الأثرية (وفي الغالب من مصادر فرنسية) وهذا ليس غريبا عن الغزي وجيلها الذي أتقن الفرنسية، مقارنة بالجيل اللاحق (جيل الستينيات وما بعد) ولذلك تناولت كل ما جمع من معلومات ومقتطفات حول الطعام منذ أيام السومريين والبابليين والآراميين، ومن خلال هذا المنهج التطوري نكتشف مثلا أنّ بعض الأطباق اليوم ذات تواريخ قديمة؛ مثل التين المجفف الذي عرف في بلاد الشام منذ حضارة إيبلا، وخبز القمح وخبز الشعير والطعام المطهو بالزيت منذ أيام حضارة ماري، والكبة الصاجية التي اشتهر بها الآشوريون في نينوى.
كما نتعرّف في ماري على أنّ الفواكه شكّلت مجالا لتبادل الهدايا والتحيات، مثل الفواكه الشامية التي كان يتهادى بها أصحابها في القرنين الماضيين وحتى بدايات القرن العشرين، إذ يذكر تاجر الخضروات بدر الدين الشلاح في مذكراته مثلا ، أنّ الرئيس شكري القوتلي كان يطلب منه إرسال خمسة صناديق أسبوعيا من المشمش الدمشقي إلى الملك السعودي عبد العزيز آل سعود.
ومع بدايات الإسلام نرى أنّ الأرز قد انتقل إلى بلاد الشام وإلى العراق، بعد احتكاك العباسيين بالفرس، لكن بلاد الشام غيرت طريقة إعداده واعتمدت على طريقة تهويس الأرز بالسمن قبل غمره بالماء المغلي، كما عرفوا من خلالهم (البرازق) والدولما (والتي غالبا ما ربطت بالأتراك) بينما تقول الغزي إنّ الأتراك أخذوها عن الفرس، ثم انتقلت وسميت في بلاد الشام ب ـ»المحاشي». وهنا نرى أنّ المنهج الذي تتبعه في قراءة تاريخ الطعام خلال هذه الفترة، قائم على البحث عن الجذور وليس عن علاقات السلطات أو الجماعات التي تقف وراءه، لكن في المقابل فإنّ في إشارتها المتعددة لدور الفرس والترك وغيرهم في نقل بعض أنواع الطعام ووصفاته خلال فترة القرن الثالث عشر إلى السادس عشر، يشير إلى ما تنبه له بعض المؤرخين (ميشيل مزاوي) من أنّ العالم الإسلامي في هذه الفترة قد تقاسمته أربع قوى: العثمانيون والصفويون والأوزبك والمغول وأن هذه الفترة لم تعرف فقط انزلاقا أرضيا في شبكات تجارة العبيد (جوليان لوازو مؤلف كتاب المماليك) بل أيضا انفتاحا على صعيد النكهات والأذواق، قبل أن يأتي العثمانيون بزمنهم الطويل ليطمسوا هذه التواريخ ويصبحوا هم أصل الأشياء، كما هو دارج اليوم في تواريخ الطعام الشفوية. فمثلا، نرى قدوم البرغل مع حملة جنكيز، كما أحضر المغول معهم الأرز من الصين والكباب الذي عادة ما يقال أنه تركي، وبالتالي تجري الغزي هنا تعديلات على بعض المرويات التراثية المرافقة للطعام، كما تتحدّث في هذا السياق عن الشيش برك، العجين المصنوع من الدقيق والماء والملح والمحشو باللحم المقلي والبصل، الذي قدم مع الأوزبك، ولعل ما يدعم هذا السرد هو مذاق الشيش برك اليوم الذي يختص بها أهالي أوزبكستان مقارنة مثلا بالشيش برك في دمشق أو إسطنبول (في دمشق يضاف للشيش برك قطع كبة ويصبح اسمها الباشا وعساكره، في إشارة إلى الشيش برك الذي يشبه الأذن ويرمز إلى الباشا لأنه يسمع الشكاوى، بينما ترمز الكبة الكروية إلى قذائف العساكر).
نادية الغزي
وبالتالي حملت الحروب والهجرات معها روائح ووصفات جديدة، وستتعزّز هذه الرؤية في المجلدات الأخرى من هذا المشروع عندما تقترب صاحبته من تاريخ الطعام السوري مع بدايات القرن العشرين ودور الجماعات المهاجرة في إدخال أطعمة جديدة مثل، البسطرمة والسجق الذي أدخله الأرمن، وهذا ما يفسر كون أشهر محل لسندويش السجق في حي الصالحية في دمشق يعود لشخص أرمني (سيروب). ونرى من خلال سرد الغزي عن الطعام السوري في بدايات القرن العشرين، أنّ ذاكرة الطعام في دمشق تعكس في بعض تفاصليها ذاكرة الجماعات المهاجرة الذين استوطنوا فيها (نجاة قصاب تحدث قليلا عن ذلك) وبالتالي تكشف ذاكرة الطعام السوري أنّ سوريا المعاصرة هي «دولة مهاجرين» وفق ما تذهب لذلك دان تشاتي في كتابها الأخير حول «سوريا: صناعة وتفكيك دولة اللجوء» وهي سردية غابت مع الستينيات لصالح الرؤية القومية العروبية، التي أزاحت دور الجماعات الأخرى وثقافتها. كما لا تنسى الأكراد إذ ترى أنهم عرفوا بحبهم للفليفلة الحارة ونقلوا هذا الحب للحلبيين.
وفي زمن الصراعات المذهبية والإثنية، يبدو تاريخ الطعام مع الغزي قادرا على تأسيس ذاكرة وجسور أخرى للتواصل، وهذا ما نراه اليوم في شارع تقسيم في إسطنبول، حيث نعثر على عشرات السوريين (ميسوري الحال بالأغلب) يقبلون على تذوق الطعام الإيراني، على الرغم من الخلاف السياسي. كما تأتي على ذكر الجراكسة والداغستان والأرناؤوط وإدخالهم لأنواع مختلفة من الطعام، ومع هذا السرد تبدو الهوية الدمشقية منفتحة ومتجاوزة للصورة المحلية الضيقة التي سعت بعض الكتابات لطرحها في سياق التنافس مع السلطة على المجال العام. ويبدو أنّ الطعام السوري قد تأثر أيضا بثقافات الدول المحيطة، ولذلك تخصص فصولا للحديث عن الجبن النابلسي والكنافة النابلسية واللبن الجميد والمسخن، ورصاص ابليس (كبة حيلة تحشى بالبيض المقلي والبصل ثم تلقى باللبن المغلي). وفي لبنان نتعرف على الرشوشية وكعك بالزعتر والفتوش الجبلي والتبولة التي انتشرت من هناك وصارت وجبة الصبايا وخليلة الأصدقاء. كما تتناول الطعام المغربي، للتأكيد على أنّ دمشق مدينة احتضنت عشرات المغاربة، مثل الطاجن والليمون الحامض المحفوظ واستعمال البرتقال في الطهي.
سيرة الطعام المهمش
في العادة عند الحديث عن الطعام السوري، يجري التركيز على الأطباق الشامية، أو الحلبية، وهذا أمر مفهوم في ظل نشاط هذه المدن وثقافتها الغنية في المطبخ، لكن الغزي ستقرر في مشروعها عدم الاقتصار على هذا الجانب، وإنما عبور الأسوار القديمة للتعرّف على أهم الطبخات ووصفاتها في المدن السورية الأخرى، وما يلفت النظر هنا أنّها لن تعتمد على مراجع أو نصوص مدونة، وإنما ستستعين بالمرويات الشفوية، وهي مرويات بدت أحيانا غارقة في المحلية والدقة. وفي هذه الرحلة نتعرف في جبل العرب على المبصلية (بصل أخضر وبيض) واللزاقيات وفي القلمون نعثر على الهريسة النبكية (قمح ولحم) وفي حمص هناك السختورة والحلاوة الخبزية والبلغجية (لب الكوسا المطبوخ) وفي معرة النعمان نتعرف على الزقزوقة (كعك وزبيب) وفي مصياف نتعرف على العفيسة وبرغل بقرط (برغل مع بقدونس وبصل وسمن) وفي حماة هناك الباطرش والشعيبيبات والمغطوط (خبز وقشطة) وفي خان شيخون الكبة النيئة مع دبس الفليفلة وفي إدلب (الكبة الملقصة) وفي حارم هناك الماوي (اللحم بعجين) وفي طرطوس نتعرف على البحتيرة (بصل يابس مع ثوم وكشك مجفف) والمسليوقات (كبب برغل تحشى باللحم والجوز) وفي دير الزور هناك المشحمية وثرود الباميا والملضوم وفي القامشلي نتعرّف على الكبيبات (شبيهة قليلا بالكبة) والقبرغاية (ضلع محشو) وعلى أكلة البلوع (عدس يطحن مع البرغل) والتي أصبحت أكلة منقرضة وغير معروفة للأجيال الشابة، واستخدمت أحيانا في سياق التمايز الاجتماعي، إذ كانت نساء العائلات المردلية (تجار وصناع مدينة القامشلي، الذين قدموا من ماردين في بدايات القرن العشرين) عندما يرغبن بالإساءة إلى طعام سيدة يذكرن عبارة « أكلها مثل البلوع» في إشارة لعدم إجادتها للطعام وتقاليده وبالتالي يسقطن عنها التقاليد الحضرية، أو أن يقال إنّ هذه العائلة لا تأكل سوى البلوع في إشارة لفقرها، وهناك الفريكة بعجور تركي في سراقب.
الدجاج الخائن
تبدو الفصول في الجزء الرابع غير متناسقة أحيانا، إذ تنتقل المؤلفة من مكان إلى آخر، من الطعام الدمشقي إلى القصص الطريفة عن محبى الطعام والذواقين، وهذا أسلوب وإن بدا لا يمتثل لقواعد الكتابة العلمية ومناهجها، لكنه في المقابل يعكس تقاليد شفوية حاولت الغزي الدفاع عنها. ففي السير الشفوية لا يستوي الحديث عن الطعام دون أن ترافقه قصص عن البخلاء وبعض الطرائف والأمثال مثل «أبوك البصل وأمك الثوم منين اجتك الريحة الطيبة يا منظوم» في إشارة لعدم الوفاء وقلة الأصل، وعن الكسل يقال «ست وجاريتين على قلي بيضتين» ويقال للزوج الخائن «مثل الجاج (الدجاج) الهندي ببيض برا.. وبوسخ عندي» كما تأتي في هذا السياق على قصص النهامين في سوريا القرن العشرين دون أن تأتي على ذكر أسمائهم (فقط على ذكر أول حرف من أسمائهم وكناهم) وهذا يعني أنّ المدينة كانت تتبادل أخبارهم بكثرة وأنّ حديث الطعام كان جزءا من تفاصيل الحياة اليومية وطرائفه؛ فالمواطن (ر. ح) يأكل ثلاثين كوساية محشية و(ر.ع) يأكل خمسين قرصا من الصفيحة. وتبدو أحيانا هذه القصص ذات طابع رمزي تعكس رؤية المدينة للطعام الصحي وضرورة التقيّد بقواعد ومقادير معينة ولذلك تلجأ إلى ذكر قصص النهامين من باب الضحك وأيضا الاستنكار حيال تناول الطعام بكثرة.
المحشي والفن
في تعريفها للطهي، ترى الغزي أنه فن وعلم تحضير الطعام باستخدام الحرارة، وبالعودة للمجلد الثالث، فإنّ ما يلاحظ في عناوين فصوله استخدامها وربطها المتكرر بين الطهو والفن. فهي وإن بدت في المجلد الأول والثاني ميالة إلى الرؤية التطورية لتاريخ الطعام وجذوره لكنها تعود لتعديل رؤيتها من خلال التركيز على الأبعاد الجمالية في الطهي، الذي يغدو ليس وليد وصفات جيدة وحسب، بل هو ناجم عن نفس طيب كما يقال وهو نفس (تراث) يتكوّن من خلال الملاحظة والممارسة المتكررة ومن خلال استشارة الآخرين، وبالتالي فهو يمثل حدثا اجتماعيا. ويمكن ملاحظة هذه الرؤية (الطعام بوصفه فن) لدى الغزي بشكل واضح أثناء تدوينها لطريقة إعداد المحاشي، ففي البداية تذكر أنه في السابق وعند الدخول لعالم طبخ المحشي غالبا ما تستمع الفتاة إلى قصص عن بعض النساء اللواتي لا يجدن الحفر ولذلك يصبحن مدعاة للسخرية، وبالتالي تترافق عملية تعليم الحفر مع قصص وسير شفوية، وليس مجرد إملاء وتعريف بالوصفات، كما أنّ سيدة المنزل تدخل خنصرها داخل كل واحدة من الخضر التي تحشى لتقييم عيار الأرز (حركات وطقوس). ولا يقف البعد الجمالي في هذا العالم على أداء الطقوس، وإنما على تناوله أيضا، إذ تدون لنا الغزي ما ذكره الدمشقيون عن طريقة تناوله، ففي البداية يجب أن تمسك باليد وتقضم قضما صغيرة أو متوسطة، ولذلك يعيب أهالي دمشق على كل من لا يأكل بهذه الطريقة ويعتبرونه من خارج جمهوريتهم. وبالتالي يصبح طبخ المحشي وتناوله جزءا من عملية أكبر يدعوها بعض الأنثروبولوجيين بـ»مجتمع الطهي» تمييزا عن «مجتمع الفاست فود» الذي يكون إعداد الطعام فيه سريعا، وغالبا ما يترافق تناوله مع حركة فم كبيرة، دون أن يتيح لنا أحيانا تكوين أي ذاكرة.