تقول الأكاديمية والروائية التونسية الفائزة بجائزة كتارا 2022 إنها ألّفت المجموعة الأولى "لو يتكلم الصمت" عام 2012 في المجال الاجتماعي وتتحدث عن الفئات الهشة المهمشة التي تعيش في هامش المجتمع والتي يمكن أن تُغرق يوما ما المدينة بأكملها "وهذا ما بدا لي في الثورة، أعرتُها لسانا وقلتُ لو تكلمتْ ماذا كانت تقول؟"
تونس – فازت الروائية التونسية نبيهة العيسي بجائزة كتارا للرواية العربية لسنة 2022 عن روايتها "أحلام متقاطعة".
والعيسي حاصلة على الأستاذية في الآداب والحضارة العربية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمحافظة سوسة سنة 1995، وهي أستاذة أولى في اللغة العربية بمعهد بورقيبة بالمنستير وعضو في اتحاد الكُتّاب التونسيين وعضو في جمعية المبدعات العربيات وعضو مؤسس في جمعية "البديل الثقافي" التي تعنى بتشجيع الإنتاج الأدبي التونسي ونشر ثقافة الكتاب.
نشرت بعض الدراسات النقدية في مجلة الحياة الثقافية ومجلة المسار، ومن إنتاجاتها مجموعتان قصصيتان هما: "لو يتكلم الصمت" (عام 2012) و"إيقاع الحياة" (عام 2015).
كما ألفت روايتيْن اثنتيْن: "مرايا الغياب" (سنة 2016) وحصلت بها على جائزة الكومار الذهبي للرواية التونسية، ورواية "أحلام متقاطعة" وهي من 214 صفحة من الحجم المتوسط، وصدرت عن دار زينب للنشر والتوزيع سنة 2021.
و"أحلام متقاطعة" هي عبارة عن مذكرات ترويها البطلة "زهرة" في خريف 2040 وتعود بالقارئ إلى سنة 2010، لتصبح فيما بعد المذكرات بين راوييْن اثنيْن وهما البطلان الرئيسيان يتداولان على السرد.
وفي حوار مع الجزيرة نت، تحدثت الروائية نبيهة العيسي عن أهمية الجوائز في مسيرة الأديب وعن علاقتها بالكتابة وعن واقع الأدب والأدباء في تونس.
- في البداية، ماذا يعني لك فوزكِ بجائزة كتارا للرواية العربية؟
الفوز بجائزة مثل كتارا فرحة كبيرة لأنها عززت الجائزة السابقة التي حصلت عليها عن رواية "مرايا الغياب"، وهي حافز وفرصة للتعريف بالكتاب لأنه صدر منذ سنة ولم يحظ باطلاع كاف من قبل القرّاء. وبالنسبة لي، يبقى الفوز والخسارة دائما عبارة عن لعبة ونوع من التحدي للذات
- لمن لم يكتشف بعد رواية "أحلام متقاطعة"، ماذا تحكين له عنها حتى يقرأها؟
هي رواية تستعيد واقع الثورة التونسية وما رافقها من هزات اجتماعية وسياسية وتطرح عدة إشكاليات كالبطالة وواقع شهداء الثورة وعائلات السجناء السياسيين زمن الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
وتطرح إشكالية أعتبرها مسكوتا عنها، وهي الحب، لأنه ملتبس بالمشاعر ولا يُفسَّر، وشخصياته دائما ترمي للأمام، ويلتبس أيضا في حالات كثيرة بالعنف، فأحيانا يُعنَّف الإنسان جراء الحب وبالتملك والملكية، إضافة إلى إشكالية علاقة الحب بالحرية.
كما تتحدث الرواية عن العنف الذي أصبح اليوم غير مرئي ويتخذ أشكالا مختلفة جدا، ونراه في اللغة والنظرات والحركات، ولكن له تأثيرات وارتدادات عظيمة على الشخصية.
- ما مدى تقاطع الواقع التونسي مع الخيال في هذه الرواية؟
يتقاطعان لأن الرواية هي نتاج أرضية تونسية بحتة، حيث إن البطلة "زهرة بالعيد" ابنة مدينة تالة بمحافظة القصرين والبطل "جمال السايحي" ابن محافظة سوسة، وفي فترة الثورة تحديدا.
وعندما كتبَت زهرة هذه الرواية (لأنها الراوية) باعتبارها سيرة ذاتية عادت فيها إلى الفترة الممتدة بين سنتي 2010 و2011 إلى مرحلة الثورة، كما أن الإشكالية المعالَجة هي نتاج واقع تونسي والأسئلة المطروحة هي نتاج ذاكرة جماعية.
- ما مدى حضور نبيهة الأم والمرأة في شخصية البطلة "زهرة"؟
نبيهة حاضرة باعتبارها امرأة كاتبة وموضوع الكتابة لأن هنالك أسئلة كثيرة تُطرح حول المرأة، وبالنسبة لي لم آت بها من خيال خصب بل من الواقع الذي أعيشه.
والكتابة عن المرأة بالنسبة لي تعتبر متعة، وأظن أنه يجب الكتابة عن قضايا المرأة بقلم المرأة، ويفترض أن تسهم بألوانها الشخصية في لوحة الحياة، لأنها تُرى دائما بعيون ذكورية، فلمَ لا تقف في الطرف الآخر من المرآة وتُحدّث عن إشكالياتها الخاصة؟
كذلك الكتابة عن المرأة بالنسبة لي مشروع تحرري، فعندما نكتب يكون انطلاقا من ذواتنا العميقة، وعندما أكتب أحاول أن أكتشف نفسي بدرجة أولى وأراجع ذاتي وأواجه بعض المسلمات التي أعيشها يوميا، وربما لا أفكر فيها ولكن في لحظة الكتابة تُطرح على الطاولة.
- ما سرّ بروز نبيهة العيسي وتميزها كروائية بعد الثورة التونسية التي تحضر في خلفيات الرواية ضمن خيبات وأحلام مجهضة؟
بعد الثورة كتبتُ مجموعات قصصية وروايتيْن اثنتيْن، لأن ما كنت أشعر به بعد الثورة هو أساسا رغبة في الصراخ، ولا يمكن لهذه الرغبة أن تتجلى إلا في قصة قصيرة حادة كالسكين.
ألّفت المجموعة الأولى "لو يتكلم الصمت" عام 2012، وتتناول المجال الاجتماعي وتتحدث عن الفئات الهشة المهمشة التي تعيش في قنوات التصريف في هامش المجتمع، والتي يمكن أن تُغرق يوما ما المدينة بأكملها، وهذا ما بدا لي في الثورة، أعرتُها لسانا وقلتُ لو تكلمتْ ماذا كانت ستقول؟
وكتبتُ سنة 2015 المجموعة الثانية "إيقاع الحياة"، حيث هناك نوع من الخيبات شعرت بها بعد الثورة، واعتبرت أن الإنسان لم يستطع أن يعبر فعلا عن أوجاعه فأسندت اللغة بأكملها للأشياء.
والمتكلم في "إيقاع الحياة" هي مجموعة من الحيوانات والأشياء والنباتات، واعتبرت أنها قد تكون الأصدق في التعبير عنا في ظل هذا الصمت الذي نعيشه، ثم مجموعة "المفترق"، التي عدتُ فيها إلى كافة الشخصيات الإنسانية بكل هشاشتها، وهي تحكي عن لحظة اتخاذ القرارات في حياتنا.
وبالنسبة للروايتيْن "مرايا الغياب" و"أحلام متقاطعة"، فموضوعهما الرئيسي هو المرأة باعتبارها الفئة الهشة وحمالة المسؤولية والذاكرة واليومي والحلم، وأعتبر أن المرأة جديرة بأن تكون موضوع نقاش.
- ما قيمة اللغة العربية لديكِ، وهل لديك أسلوبكِ السردي الخاص الذي شد القارئ لكتاباتكِ؟
أنا أستاذة لغة عربية، وبالنسبة لي اللغة وطن أسكنه. لكن بأي لغة عربية نكتب؟ فالنُّحاتون ليسوا بالضرورة قصاصين ولا روائيين، ونحن نعم نلتزم بقواعد اللغة، ولكن على هذه اللغة أن تنحت النص ونفسها من خلال ذلك.
ونحاول أن نجعل هذه اللغة أكثر شاعرية وأقرب إلى روح القارئ حتى يتقبلها ويستسيغها وربما أن تخون اللغة نفسها.
أما الأسلوب بالنسبة لي فهو كالقالب، فلا يمكن أن أختار قالبا وأضع داخله الأفكار، أنا أكتفي بأن أُرجع دائما منبه الوقت إلى لحظة إشكالية أو قضية كبرى أهتم بها، كأن ترمي بحجر في بركة مياه والتموجات التي تحصل على السطح هي بالضبط ذلك التخطيط الذي سأختاره.
يعني أن أزرع الشخصية في وضع إشكالي وأحاول أن أسقيها بماء حيرتها ما أمكن وأجعلها تتخذ لنفسها الفضاء أو الطريق الذي تختاره، وأنا أتتبع خطواتها، فليس لدي تخطيط مسبق وطبيعة الشخصية هي من تصنع النص.
- لماذا اخترتِ تقنية المذكرات لبناء السرد، ولماذا تناوب راويان على الرواية؟
في "أحلام متقاطعة" اختارت "زهرة بالعيد" أن تكتب جزءا من سيرتها الذاتية على شكل مذكرات في 2040، وبالنسبة للقارئ هذا الزمن الاستشرافي لم يأت بعد، ولكن بالنسبة لزهرة هو زمن استرجاعي.
وهي كتبت بعد أن فقدت كل من تعرف، يعني كتبت في الزمن الضائع، وأرادت أن تحاور أناسا شعرت بالكراهية والظلم تجاههم، ولم تستطع أن تواجههم في حياتهم فأرادت مواجهتهم بعد مماتهم وأرادت أن تكتب.
وكتبت "زهرة" عن فترة اتُّهمت فيها بقتل "جمال السايحي"، الرجل الذي أحبته في تلك السنة، وما يحصل أن "جمال الشبح" يتسرب إلى أوراق "زهرة"، ويقرر أن يأخذ هو أيضا بسلطة الحكي، وأن يروي من منظوره موقفه من نفس الحدث الذي تُحدّث عنه "زهرة"، وبهذه الطريقة يصبح لنا صوتان للنص.
- ما تقييمكِ لأدباء تونس اليوم مقارنة بأدبائها القدامى مثل الدوعاجي والمسعدي والبشير خريف وغيرهم؟
الأدباء موجودون قديما وحديثا، وإنما الإشكال في المشهد الثقافي اليوم، الذي يفترض أن يكون قطاعا مربكا للمجتمع وللمسلَّمات الاجتماعية وللسلطة، ومعارضا ولكن هذا المشهد تغير وأصبحنا نتحدث عن ثقافة الاستهلاك والسوق وهذا هو المزعج.
والكاتب الحُرّ موجود قبل الثورة وبعدها، ولا أتصور أن الفارق الزمني هو الذي سيخلق فارقا حضاريا، فالإشكال في أن المشهد الثقافي عِوَض أن يقف مخلخلا للثوابت ولهذه السلطات، أصبح يسايرها ومرآة تعكس ثقافة الاستهلاك.
- أين تريْن الأدب التونسي، خاصة خلال العشرية الأخيرة، وهل ما زال لديه قراء؟
الإشكالية إشكالية أدب وقارئ ودور نشر، فالأدباء ربما يستسهلون الكتابة والنشر، والدور تقبل هذه المنتجات دون قراءتها أو مراجعتها، بمعنى أنه عمل تجاري، ولكنه لا يحترم قواعد التجارة الحقة.
وأعتبر أن القارئ غير واع بقيمة الكتاب لسبب بسيط هو كونه يعتقد أن الكتاب أصبح باهظ الثمن، وربما لا يقدم له حلولا سريعة ومباشرة، وأصبحنا مع ثقافة الصورة نريد حلا وتسلية مباشريْن وترفيها سريعا.
بينما الكتب لا ترسم صورا واقعية بل ذهنية، وعلى القارئ ألا يكون عجولا بل صبورا، وأن يفكر في تلك الصور، وهذا الصبر لم يعد موجودا لدى القراء، والقراءة سفر يجعلك ترتاح من نفسك وتضع وجهك جانبا وتسافر في الوجوه الأخرى.
وقارئ اليوم استهلاكي بدرجة أولى، ولا أتصور أن المسألة مسألة ثمن، لأن القارئ نفسه يستطيع شراء ثوب بـ100 دينار (33 دولارا) دون تفكير، وقد لا يشتري كتابا بـ20 دينارا (6 دولارات)، فهي مشكلة وعي قبل كل شيء.
ويفترض أن تُبلور ثقافة الصورة الإنسان، والإشكال أننا دائما نأخذ القشور وأصبحنا سجناء هذه الصور الاستهلاكية.
- ماذا تعني الكتابة بالنسبة لنبيهة العيسي؟
تعني الكثير لي، وفي الكتابة أتحدى ذاتي وأحاول أن أكتشفها وأن أتصالح معها، وربما أكتب كي لا يقتلني الصمت، ويقول البعض "نحن لا نموت بما نحن به مرضى، نحن نموت بما نحن به أحياء"، فالمرض قد لا يقتل ولكن ما نعيشه اليوم ربما قد يكون قاتلا.
والكتابة أيضا طريقة لاختراع الفرح، لأنه هو محرك الرغبة والفعل، وما نعيشه في مجتمعاتنا اليوم لا يولد إلا الكراهية، وهي سلوك سلبي مقيت يمنعك من الفعل، ويجعلك كائنا سالبا مفعولا به إذا ما تحررت وأعلنت غضبك ورفضك وفكرت في هذه الوضعيات واخترعت لنفسك حلا.
والكتابة هي أن تجعل الآخر يخترع الحل لنفسه بنفسه، فهي لا تقدم حلولا جاهزة وستقلّ هذه المخاوف التي يعيش معها يوميا هذا الآخر مهما كان الموضوع تعيسا.
والبعض يلوم تعاسة الكتابة، ولكن الحزن هو طريق للفرح وأن أعترف بمشاكلي وأنبش الأشياء التي تعيش كالعناكب في أعماقي، فهذا هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن يجعلني أرقى ويكسبني جرأة على التفكير.
المصدر : الجزيرة