شغلت الحروب وآثارها على الأفراد والشعوب الكثير من الروايات عربيا وعالميا، ويأتي في طليعة هذه الروايات "الحرب والسلام" لـ ليو تولستوي، و"الكارثة" لإميل زولا، و"كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" لإريك ماريا ريمارك، و"المريض الإنكليزي" لمايكل أونداتجي.. وغيرها الكثير، ولاشك أن الحرب شغلت أيضا مساحة واسعة من الروايات العربية، لاسيما في دول عانت من ويلات الحروب طويلا مثل العراق ولبنان وسوريا.
وقد كان للحروب في السودان أثرها الكبير على عدد من الروايات أيضا، ذلك الشعب الذي نكتشف من خلال الرواية أنه يحتوي على أعراق وأجناس وديانات مختلفة، وأن تاريخه مع الحروب طويل، تتعدد فيه الأسباب، ويبقى أثر الحرب وما تخلفه من دمار وويلات، ولا شيء مثل الأدب قادر على توثيق ذلك الدمار والشتات الذي تحدثه الحروب في البلاد وفي نفوس الأجيال.
من أهم وأبرز الروائيين السودانيين الذين اهتموا بتوثيق ما مر به السودان من حروب، وما عاناه شعبه من صراعات وأزمات وويلات كان الروائي "عبد العزيز بركة ساكن"، عبر مسيرة روائية طويلة، نسج فيها باقتدار جوانب مختلفة من حياة السودانيين وآلامهم، بل وأصبح واحدا من المعبرين بصدق عن هؤلاء البسطاء المغلوبين على أمرهم.
رماد الماء
يخطف الكاتب عبد العزيز بركة ساكن القارئ مباشرة منذ الصفحات الأولى للرواية الصادرة عام 2011 بصورة سينمائية شديدة البراعة والبشاعة لآثار الحرب وتحديدا في جنوب السودان، وما خلفته من صور شديدة القسوة، وما تركته من دمار وجثث وحرائق، وبعد تلك المقدمة السوداوية والمعقدة ينقلنا تدريجيا إلى أسباب وبواعث تلك الحرب، من خلال التعرف على شخصيات الرواية وعالمهم وما فيه من ثراء وحياة، ما يحلمون به ويتطلعون إليه، وكيف تتحوّل كل تلك الحياة بسبب الحرب إلى مجرد رماد، ليس الرماد المعروف من اضطرام النيران، وإنما حتى الماء الذي كان يطفئ تلك النيران أصبح له رماد هو الباقي.
نتعرف في الرواية على "سلطان تيه" البطل الإشكالي المتذبذب بين هويات قومية مختلفة، والذي يسعى جاهدا إلى أن يجد له مكانا وسط كل الدمار والحروب التي تحيط بعالمه، فهو ينتمي للنوبة في الشمال فيما يعيش ويعاني من الصراعات التي تدور في الجنوب مسقط رأس أمه وتحديدا قبيلة "الإنكا" التي هُجّرت من مكانها قسرا (حيث نقلت مائة قرية من الدغل الشمالي إلى تخوم المدن الحضارية في الشرق) وذلك بدعوى حمايتهم من التماسيح، في حين أن السبب الحقيقي هو محاولة دمج هؤلاء المغلوبين على أمرهم من الأقلية إلى عالم الأغلبية الحاكمة وثقافتهم، وهكذا تفرض السياسة حضورها على هؤلاء البسطاء وتنزع عنهم حياتهم وتضعهم في أتون حربٍ لا قبل لهم بها!
يناجي سلطان حبيبته، ويحكي لها عن الحرب والليل:
"أما في الليل بعد أن يختفي آخر شعاع خصه الله بالشمس، وهو خير الخاصِّين، عندها يا حبيبتي عندها يحيا الموتى.يتمطَّوْن... تطقطق عظامهم الجافة العطشى موقظة البنادق والآلات الحربية المعطوبة، فيرعون الألغام، يبنون الحواجز الترابية والأسلاك الشائكة، يطلقون قذائف الهاون والراجمات في الهواء فيحيلون الليل الساكن الساكت الشجي، ليلك الجميل، ليل عينيك السِّنجابيتين، فيحيلون ليلك جمرة كبيرة مستعرة، يقتلون بعضهم البعض، ينشدون ممجدِّين الظلام والكلاب الضالة، لاعنين مِثْقاب الداعرات بمنهاتن ومومباي ومدينة ود مدني وتسني، حتى إذا بزغ الفجر بلياليه العشر عادوا إلى موتهم، ماتوا فيه موتا أشد سكوتا وسكونا من موتهم الأول".
تتناول الرواية عالم سلطان تيه، وتجعلنا نتعرف من خلالها على العديد من العادات والتقاليد الخاصة بمجتمعه، وما طرأ ويطرأ عليها من تغيرات لاسيما بعد ذلك الانتقال القسري الذي حدث لهم، مع أصوات الحرب وما تذيقه لهم من ويلات، ثم حرب أخرى خفية تتعلق بالهوية التي تُغيّر بشكل مباشر وغير مباشر، وتُستبدل بهويات أخرى لا ينتمي لها هو وقبيلته، ويتنقل السرد بنا إلى عرض حياة ومعيشة قبائل أخرى مثل (لالا) التي تبدو قبيلة بدائية يمشون حفاة عراة ويدافعون عن الحيوانات التي تعيش معهم، وكيف يقع سلطان (الذي لا يملك أي سلطة) أسيرا بين أيديهم، وبعيد تفكيره في أصوله وحياته ويبدو في الوقت نفسه مذبذبا بين هويات مختلفة، حتى يأتي ذلك المستعمر الغربي (مستر جين) وزوجته اللذين يدعوان الناس والبسطاء للتمسك بحياتهم البدائية فيما تختلف تفاصيل حياتهما عن ذلك تماما، ويرصد الراوي بشكلٍ ذكي طريقة رصد أهل القرية لحياة الغرباء وكيف تحوّلت نظرتهم إليهم من اعتبارهم ملائكة رحمة هبطت لتغير لهم نمط حياتهم إلى شياطين يستحلون كل شيءٍ لصالحهم ولخدمة أهدافهم!
هكذا رصد بركة ساكن في "رماد الماء" آثار الحرب والصراعات الداخلية بين القبائل والسلطة الحاكمة من جهة، والحروب الأخرى الباردة التي يقوم بها الآخر/الغربي/ الغريب ويستغل فيها تلك الظروف والصراعات لفرض السيطرة والهيمنة والاستفادة من خيرات البلاد، وكيف تضيع بين هذا وذاك هويات المواطنين البسطاء وحياتهم .
زهور تأكلها النار
كتب الروائي السوداني أمير تاج السر روايته "توترات القبطي" وصدرت عام 2009، ورصد فيها حكاية "ميخائيل القبطي" الذي يقع أسيرا لقائد كتيبة حربية تستولي على مدينته، ويضطر إلى أن يعتنق الإسلام ويتحول اسمه إلى سعد، ويبقى في المدينة لكي يبحث عن خطيبته وحبيبته "خميلة" التي فرقت الحرب بينه وبينها، وبين رحلة البطل في البحث عن حبيبته ورحلة المدينة التي يأكلها دمار الحرب والصراع تدور أحداث الرواية.
بعد أعوام من صدور الرواية يصل للكاتب أمير تاج السر تساؤل من قارئة مهتمة بخلفيات وكواليس تلك الحروب، وآثارها على الناس، لتسأله عن "خميلة" بطلة الرواية الغائبة، ماذا جرى لها؟ وكيف كانت معاناتها وسط تلك الحالة القاسية التي خلفها "جيش المتقي" في المدينة، ويعود أمير تاج السر لبطلة روايته، ويستعيد تفاصيل الرواية، وتلك الأحداث المؤلمة الدامية لينسج أحداث روايته "زهور تأكلها النار"
تمسك "خميلة" بزمام السرد، لتحكي لنا آثار ما تركه جيش "المتقي" في المدينة التي وضع لها تاج السر اسما افتراضيا هو "مدينة السور" تحكي الرواية قصة متخيّلة عن ثورةٍ سمّاها الكاتب «ثورة المتقي» تلك التي استباحت قتل المخالفين لها سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهودا، فإنها ولا شك تشير بطرفٍ خفي إلى ثورةٍ سودانية مثيلة وشهيرة هي «ثورة المهدي» التي يبدو أن الكاتب (وللمرة الثانية على التوالي) أراد أن يسير بروايته وحكاياته بعيدا عن أن تكون تأريخا مباشرا لأحداثٍ معروفة، ولعل ذلك ما جعلها صالحة لأن تكون قياسا لما يحدث اليوم على أرض الواقع من خلال جماعات وتنظيمات عسكرية مسلحة، يزعم كل واحدٍ منهم أن له الحق في السلطة والحكم ، بينما يملا الدنيا بالخراب والدمار والقتل!
يقسّم أمير تاج السر روايته أربعة فصول، كل فصلٍ منها يحوي عددا من المقاطع المرقمّة، يأتي الفصل الأول بعنوان "شغفٌ ومدينة" يعرض فيه الحياة الهادئة التي كانت تنعم بها بطلة الرواية "خميلة" وصويحباتها وما تحلم به من علاقةٍ حبٍ مع خطيبها "ميخائيل" عارضا أحلامها وأفكارها وعلاقتها بمجتمع تلك المدينة من حولها، ثم يأتي الفصل الثاني "ليل" الذي تختلف فيه الأحداث وتتصاعد بدءا بالخبر الذي ينقله "ميخائيل" إلى "خميلة" عن تلك الثورة التي بدأت في مدن قريبة من مدينتهم والحرب التي نشأت عنها وتوشك أن تصل إليهم :
"لم يكن حكي ميخائيل حكي خطيبٍ لخطيبة، ولكنه حكي مذعور لواحدةٍ أشد ذعرا منه، كانت ثمة ثورة كبيرة قد اندلعت في مكانٍ قريبٍ من السور، وجياعٌ سموا جهاديين أججهم من سمي "المتقي" قائد الثورة، كانوا ينتهكون القرى بيوتا وحقولا ومساحات رعي، ثمّة قتل وذبح وشهوات مراقة هنا وهناك، وثمة معسكران لا ثالث لهما، معسكر الإيمان، ويمثله المتقي وجماعته التي تأتمر بأمره، وتفتك حتى بآفات الأرض، ومعسكر الكفر الذي نمثله كلنا مسلمون وأقباط ويهود وبوذيون.. ما دمنا خارج جنون الثورة ومشروعها العنيف..".
يأتي الفصلان الأخيران بعنوان "النار"، ثم "النار أيضا" ليعرضا الحال الذي آلت إليه المدينة وأفرادها بعد هجوم جيش "المتقي" على المدينة التي كانت آمنة مطمئنة، يعيش فيها الناس على اختلاف جنسياتهم ودياناتهم في أمان وسلام، ليحولوا كل شيءٍ فيها إلى الدمار ويزهقوا أرواحا برئية ويجهضوا أحلاما كادت أن ترى النور.
تحكي الرواية عن التحوّل المأساوي الذي تعرضت له "خميلة" وزميلاتها اللائي أصبحن مجرد محظيات لأفراد جيش "المتقي" يمتثلن لأوامر "أم الطيبات" التي تسعى لتطهيرهن من الكفر على حد زعمها، فتتغيّر أسماؤهنّ، وتتحوّل "خميلة" إلى "نعناعة"، ورغم استسلامهن للحال التي أصبحن عليها إلا أنهن لا ينجون من المعاملة الوحشية التي تصل إلى قطع رقبة إحدى الهاربات أمامهن حتى لا تفكّر إحداهن في الهرب!
وهكذا يدين أمير تاج السر تلك الحروب التي تقضّ أحلام البسطاء، وتشعل الدمار في بلادٍ تحلم منذ فترة طويلة بأن تنعم بالأمن والسلام، وهو إن كان يتكئ في حكايته على التاريخ إلا أنه ينسج من حولها عالما خاصا به، مستعيدا موروثا من الحكايات والأساطير الخاصة بالمدن والقرى السودانية التي عاش فيها وخبر عالمها جيدا، وهو في هذه الرواية كما في غيرها يجمع باقتدار بين الحكي الشعبي والسرد الروائي، وتبدو روايته رغم قتامة عالمها قادرة على المزج بين الواقعية السحرية وخصوصيتها وبين حكاية الواقع والتعبير عنه وتمثله تماما .