تخطي إلى المحتوى
الخط العربي..فن في مواجهة التحديات 2/3 الخط العربي..فن في مواجهة التحديات 2/3 > الخط العربي..فن في مواجهة التحديات 2/3

الخط العربي..فن في مواجهة التحديات 2/3

الخط العربي.. قابل للتشكيل في صور لا نهائية 

تاج السر حسن/فنان خط سوداني

قصتي مع فن الخط طويلة عمرها ستة عقود.. بدايتها كانت في طفولتي. بداية تعلم الهجاء والكتابة في (الخلوة)، التي هي المدرسة التقليدية للتعليم حيث الكتابة بقلم القصب على لوح من الخشب. قلم القصب هذا الذي يُعدّ بسيطًا، هو أداة الخطاط المحترف، فقد ظل رفيقي ومعيني في التعبير برسوم الحروف والكتابة وتجميلها في لوحات الخط وفنونه إلى يومي هذا.

وقد مثلت (الخلوة) لجيلنا في النصف الثاني من القرن العشرين، نموذجًا للتعليم الناجز، تعليم ما قبل المدرسة، أي قبل أن تتمدد «الروضة» الحديثة بالقمصان والياقات الأنيقة. والخلاوي في السودان التي يعود أوائلها إلى فترة حكم الشيخ عجيب المانجلك ١٥٧٠-١٦١١م، ولا تزال موجودة وملحقة بالمساجد، غير أنها الآن مقتصرة على التعليم القرآني. وبذكر التعليم الناجز للخلوة، تجدني أؤكد أن تحقق المهارات الأولى: الكتابة والقراءة، والجمع والطرح في الحساب، وحسن الخط، كان من الشروط المؤهلة لدخول الأطفال إلى المدرسة النظامية وهم بعمر السابعة.

في «الخلوة» تأسست مهارتي الأولى في الإمساك بقلم الخط، ثم اكتشفت في قلم الرصاص خاصية الرأس المربع عند إحسان بريه وقطه. وفي الصف الثالث من المدرسة الأولية كانت الريشة المعدنية، (السلاية nip pen) إلزامية للكتابة على الورق والاستمداد من المحبرة المثبتة على طاولة الفصل. عرفت التمييز بين أنواع الخطوط وهندستها وجمالياتها البديعة. هكذا استمر بي الحال في استكشاف فن الخط من المحبة والهواية، إلى الاحتراف والتخصص الأكاديمي في الخط والتصميم والفنون الجميلة.

التعاون المؤسسي

نعرف أن الأبجدية العربية مع مطلع الإسلام لم تكن معجمة ولا مشكولة، وقد كان هذا هو التحدي الأول إلى أن أجريت الإصلاحات المتدرجة على يد فقهاء اللغة الأوائل؛ أبي الأسود الدؤلي، ونصر بن عاصم، والخليل بن أحمد الفراهيدي. وبازدياد الاحتياج لِنَسْخ القرآن الكريم، تزايد الاشتغال بالخط والمخطوطات. فتطورت أدوات ومواد الخط، وتحسنت الحروف العربية، من أشكالها البسيطة المحدودة في الخط المكي والخط المدني، إلى أنواع عدة صنفها الباحثون تحت مصطلح الخطوط الموزونة، ومن بينها أساليب الخط الكوفي المتعددة. فالتحديات في السابق كانت في مقابلة احتياجات كل مرحلة حضارية. وجاء ابن مقلة (ت: ٣٢٨هـ)، وابتدع قاعدة الخط المنسوب التي مكنت لظهور الخطوط اللينة، ومنها ما عرف بالأقلام الستة، واستمر منوال الإضافة والإبداع عبر القرون، في رحلة نجاح مشهودة، إلى أن أصبح الخط العربي بمرجعيات فنية، وأدبية، وعلمية ضخمة، ومتحفًا فنيًّا عظيمًا.

كان لا بد من سوق هذه المقدمة للتمهيد للحديث عن التحديات الراهنة، ففن الخط العربي عنوان لموضوع كبير، تندرج تحته تفرعات واختصاصات متعددة، ومنها: الخط الأصيل، ويمثل المرجعية التراثية الهندسية والجمالية الملهمة لحاضر ومستقبل الإبداع. التجارب المعاصرة التي تستلهم الخط والفنون العالمية من تصوير وتجسيم، إلخ. الخط العربي في الاتصال الرقمي. والخط العربي في تحسين الكتابة في تعليم الأساس، وفي البرامج الجامعية في كليات التربية، والفنون والتصميم والطباعة. كل هذه الاختصاصات تواجه تحديات في تطوير وتحديث مناهجها في التعليم وفي التدريب العملي والفني على صعيد التلمذة والاحتراف، وفي التصميم الطباعي والبرمجة الرقمية، وتجاوز هذه التحديات يكون بالعمل المؤسسي بين مؤسسات التعليم والبحث العربية، وبتنشيط التعاون بين المتخصصين من الخطاطين والمبرمجين.

نظام مفتوح

الخط العربي نظام مفتوح، قابل للتشكيل في صور لا نهائية، ويجب ألّا يحصر في تصورات فنية مغلقة. فالحروف العربية، معروف عنها الطواعية والمرونة التي تجعلها مميزة عن حروف الأبجديات الأخرى، وهذا ناتج من عاملين: الأول هو خاصية الوصل والفصل، والثاني هو أن هذا الوصل يكون بطريقتين، أفقية ورأسية، والأخيرة الرأسية، تمكن من الالتفاتات النسيجية للحروف بعضها حول بعض. والشاهد أن الخطاطين المعاصرين استفادوا من هذه الخواص، ومن التقنيات والمواد المختلفة في إنتاج أعمال حديثة ومعاصرة لقيت التقدير والاعتراف العالمييْنِ.

 

فنٌّ يطور الزمن ويتطور
حسن آل رضوان/ خطاط سعودي

من وجهة نظري كخطاط سعودي أرى أن فن الخط العربي -بالمقارنة مع بقية الفنون البصرية الأخرى كالفن التشكيلي والتصوير الضوئي وكذلك التصميم والنحت- خاضع للمتغيرات الثقافية والمعرفية، مثل التقنية وتطبيقاتها من برامج التصميم مثلًا؛ ولذلك فتطور الخط العربي سابق لعصره بمراحل. والآن هناك عودة لما كان الخط العربي عليه؛ إذ عاد ليستخدم من جديد في مناحي الحياة، مثل تزيين القصور والڤلل، وكذلك استخدام الحروفيات والكتابات بالخط العربي في بعض الدور الثقافية، كما يُستعمل في بعض مناحي الحياة الاعتيادية، مثل: الإكسسوارات والملابس والأثاث والجداريات، وكذلك في الأنفاق والجسور وواجهات المباني والبوابات الضخمة.

وبين فينة وأخرى يُتداوَل كثير من التجارب الفنية والموضوعات الخطية، حتى على مستوى الوسائل الاعتيادية البسيطة، وكذلك بعض وسائل التواصل العامة. والملحوظ أن هناك وجودًا وإن لم يكن بالكمية المُرضية إلا أنه لو قُورن بالخمسة عشر عامًا الماضية لوجدنا أن الخط العربي يعيش في ازدهار الآن، إلى درجة أن هناك برامج للخط العربي للكتابة بالأقلام والألواح الرقمية أو الهواتف الذكية العادية، وهذا ما يسر الخاطر ويفرح المهتمين.

ولعل ذلك ما جعل الخط العربي ملكًا للزخارف حتى في ظل ثورة الأشكال التي تنتجها المصانع الآن. فمنذ بدايات بزوغ الخط العربي وهو ملاصق للعمارة الإسلامية ومتوائم معها، ومع الزخرفة الإسلامية، والمنمنمات والمقرنصات، وهذه كلها بقيت مقترنة فيما بينها بالعمارة الإسلامية.

أعتقد أن أكثر المخاوف التي تواجه كل الفنانين، وليس الخطاطين فقط، هي قلة الاقتناء، وقلة اهتمام الجمهور العام بالخط العربي. هناك حفاوة جميلة بالخط العربي واهتمام به من الناحية الثقافية بشكل عام على المستوى الشعبي، ولكن الخط العربي لن ينتشر إلا بوسائل ملموسة، كأن يجد الفنانون من يقتني أعمالهم. وهذا الأمر سوف يصنع التنافس بين الخطاطين، وهو ما يؤدي إلى تطور المستويات؛ لأن التنافس يصنع التميز والتطور. ومن المخاوف أيضًا هي غياب سوق لفن الخط العربي للاقتناء على المستوى التجاري، وهو ما يؤدي إلى تكدس أعمال الخطاطين، ويؤدي إلى النفور عند بعض الخطاطين الممارسين للخط العربي، وهذا سيجعل من الخط العربي موجة عابرة لا تُستثمَر على المستوى الشعبي عامة.

مفاتيح لتعلم الخط

من خلال عشرات التجارب التي خضتها في مجال تدريس الخط العربي، لحظت أن المشكلة هي في سوء تحصيل المعلومة. فبعض من درس الخط العربي أخذ المعلومات بطريقة خاطئة أو غير علمية، أو بمعنى أدق: بطريقة غير أكاديمية، فلكل فن ولكل علم طريقة لدراسته، ومنه الخط العربي، تكون بالاعتماد على أستاذ. وبطبيعة الحال فإن الأستاذ يتبع منهجًا وكذلك يضع جدولًا يوميًّا للتدريب وتنفيذ دروس الخط العربي وهذا ما يحفظ لليد والخط حرفيتهما في ذهنية الخطاط. وعلى المتدرب عدم الانشغال بمتابعة كل ما هو موجود في وسائل التواصل الاجتماعي؛ لأن الموجود في وسائل التواصل ما بين الغث والسمين قد يضر المتدرب أو الجيل الصاعد من الخطاطين؛ لأنه قد لا يفرق ما بين القوي والضعيف من الكتابات، وهذا الأمر سوف يسبب للخطاط الناشئ خللًا في الذوق. فمن المهم للخطاط المتدرب أن يتميز ذهنيًّا وفنيًّا، فلا يطالع إلا الجميل من الكتابات.

 

من توصيل المعنى إلى القيمة الجمالية
حسن زكي/فنان مصري

أعمل على فكرة العدد الذري للحرف، أو ما يعرف بالقيمة العددية للحروف، التي تكلم عنها كثير من المتصوفة القدامى وغيرهم. وفيها أرى أن الألفي بيت تتكون من ثمانية وعشرين حرفًا. وهذا له علاقة بأوكتاف الموسيقا المكون من رقم سبعة. ورقم سبعة، كما هو معروف، رقم سحري، أو له حضوره في كثير من الأمور. فالأوكتاف الواحد يتكون من سبعة منازل، والأكتافان أربع عشرة منزلة أو حركة. وهو العدد نفسه لمنازل القمر. يقول القرآن: «والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم». ومن ثم فالأوكتافان يساويان العدد 14، وفيه يكون القمر بدرًا، أو بدر التمام. ثم ما يلبث أن يأخذ في منازل النزول حتى يختفي تمامًا، ومن ثم فالعدد 28 هو مجموع أحرف اللغة العربية، وهو مجمل منازل القمر، ويساوي 4 أوكتاف. ويمكن القول: إن أول نظرية موسيقية عرفها التاريخ كانت فرعونية بالأساس. كانت الموسيقا تعزف على آلات فرعونية، من بينها آلة الهارب التي ما زالت موجودة حتى الآن.

في الكتب القديمة، لدى أهل التصوف، نجد محيي الدين بن عربي يقول: «الحرف أمة من الأمم». ويمكننا أن نستدل على ذلك من المساحة الإضافية التي تقابلها الحروف بصوتياتها. ويقال: إن الرقم مهم في علم الحروف؛ لأن الكون مبني على هندسة رقمية في الأساس. ومن ثم فالقيمة الرقمية في «الخط المنسوب» دقيقة جدًّا. وقد قال الإمام علي، رضي الله عنه: «عليكم بحسن الخط فإنه من مفاتيح الرزق».

خط المنسوب

الخط الذي قدمه ابن مقلة اسمه «المنسوب»؛ بسبب دقة النسب التي ينطوي عليها، وعدد النقاط التي يوزن بها الحرف فيه. وكل خط له نسبته المميزة له، وكل خط يشبه البيئة التي ظهر فيها. فالخط الفارسي، وهو في الأصل قادم من لغات وثقافات أخرى، النسب فيه تشبه إيقاع حياتهم. ولنا أن نتصور أن خط كل إنسان يشبه حياته والبيئة التي نشأ فيها. ففي مرحلة التعليم الأولي تتكون لدى المتعلم ما يسمونه بالنسب الخاصة. وهي تدريب العين على الأحجام والأبعاد. أما النسبة الذهبية أو المربع الفاضل، ففي كل لوحة يوجد مربع مثالي يوضع فيه الجزء البطل في البورتريه أو اللوحة أو التكوين الخطي.

والخط العربي يسمى بالخط الحنيف أو الوحيد في العالم؛ لأنه لا يوجد خط ياباني أو إسباني أو غيره مبنى على قواعد كالتي بني عليها الخط العربي. لكن يوجد شخص لديه خط جميل، أما الخط نفسه فليس محققًا ولا مدققًا ولا منسوبًا أو صاحب نسب محددة. وحده الخط العربي هو الذي لديه منسوب، وهو ما يتيح له أن ينتقل من خانة توصيل معنى الكلمة أو الفكرة إلى خانة القيمة الجمالية في حد ذاتها. ومن ثم فأجهزة الحاسوب، التي أحدثت طفرة في كل شيء، كانت ضد كل شيء يدوي، وفي مقدمة ذلك الخط العربي، فمنذ ظهورها تجاهلنا القيمة الجمالية للخط. ونسبة كبيرة ممن لديهم خط جميل ليسوا على ثقافة عالية به؛ لذا يرسمون الكلمات حسب دلالاتها المكانية، فكلمة «أسفل» توضع أسفل كتلة التشكيل، أما كلمة «أعلى» فإنها توضع في أعلى التشكيل، وهكذا؛ لأنهم لا يدركون تشريح الحرف العربي ولا منسوبه. فالخط العربي نسبته في ذاتها مثالية، وهو أحد قنوات التشكيل. فمثلًا، من الممكن أن يكون البورتريه جميلًا، لكن نسبته صغيرة، أو أنه غير متوافق مع الخلفية التي حوله، أو أن لونه غير مناسب. أما الحرف فليست به هذه المشكلات؛ لأن نسبته في ذاتها متزنة ومثالية.

قال بيكاسو في مديح توازن هذه النسب: «إن الحرف العربي أعلى نقطة يمكن أن يصل إليها الفن التشكيلي». ولأن بيكاسو شخص استثنائي فقد وصل بعبارته هذه إلى ما لم تستطع بلاغتنا الوصول إليه. فالحرف في ذاته مثالي النسب، وله علاقة واضحة بالبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها.

المصدر: 
مجلة الفيصل