حين نتحدث عن الرواية الجزائرية، لا نقصد بالضرورة تلك المكتوبة باللغة العربية، فهذه لم تظهر إلا في سبعينات القرن الماضي على يد الروائي عبد الحميد بن هدوقة (1925- 1996) بفضل روايته "ريح الجنوب" (1970)، أول رواية جزائرية تكتب بالعربيةحسب مؤرخي الأدب ودارسيه، بل نقصد أيضا الرواية المكتوبة بالفرنسية الأقدم في الوجود والأكثر تأثيرا وتكرّسا بفضل نصوص بلغ بعض أصحابها مصاف العالمية على غرار مولود معمري ومولود فرعون ومحمد ديب وأسيا جبار ورشيد بوجدرة ومالك حداد وكاتب ياسين ورشيد ميموني وبوعلام صنصال ويسمينة خضرا، وغيرهم ممن أسسوا لرواية جزائرية يُشهد لها بالتميز والأصالة، سمحت بظهور مدرسة سردية حقيقية، عكس ما هو حاصل بالنسبة إلى الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية، التي وإن تميزت ببعض النصوص العالية الجودة وتمكنت من تصدير أسماء مهمة حققت بعض النجومية والنجاح إلى العالم العربي، لم تستطع الوصول إلى الآخر على الرغم من ترجمة أهم نصوصها إلى مختلف اللغات، على غرار أعمال أحلام مستغانمي وواسيني الأعرج وأمين الزاوي وبشير مفتي وعمارة لخوص، وهي أعمال على الرغم من أهميتها جزائريا وعربيا لم تستطع التكرّس في المشهد السردي العالمي، باستثناء أعمال رشيد بوجدرة المكتوبة بالعربية التي فرضت وجودها لدى الآخر تماما كما فعلت أعماله المكتوبة مباشرة باللغة الفرنسية والتي جعلته مرشحا مهما لنيل جائزة نوبل لأكثر من مرة على غرار الجزائرية أسيا جبار ابتداء من عام 2004.
كما أن الرواية المكتوبة بالعربية لم تؤسّس لكيان سردي مستقل وأصيل يسمح بوصفها رواية جزائرية صرفة، بل هي مجرد رواية اختارت العربية لغة لها يكتبها روائي يحمل الجنسية الجزائرية فحسب، ولعل هذا ما يدفع البعض إلى التمييز بين مفهومي "الرواية الجزائرية" و"الرواية في الجزائر"، كما يدفع بلا شك الى الحديث عن الهوية اللغوية للجزائري المتميّزة بالتعدد من جهة والاضطراب من جهة أخرى، لاضطراره إلى التعامل مع أربع لغات متعايشة بتناقض في بعض الأحيان، والمتمثلة في العربية الفصحى والأمازيغية والعربية الجزائرية (العامية) والفرنسية، مما خلق نوعا من الصراع اللغوي الذي لا يجد له أي مبرر تاريخي أو اجتماعي، بل كل مبرراته وأسبابه سياسية، فرضت حدودا وهمية على المشتغلين في الحقل الأدبي بهذه اللغات، بحيث يصعب تفاعل بعضهم مع بعض، بل وفي أحيان كثيرة، خلقت هذه الحدود نوعا خطيرا من الجفاء الثقافي والاجتماعي، ظهرت بعض علاماته في الخصومات الشهيرة التي حدثت بين الطاهر وطار من جهة والطاهر جاووت ورشيد بوجدرة من جهة أخرى، أو حتى في القرار الانتحاري الذي اتخذه الروائي الكبير مالك حداد عرّاب أحلام مستغانمي، في التوقف عن الكتابة باللغة الفرنسية لأنها لغة العدوّ، وما نجم عن ذلك من تضييع لموهبة خارقة في كتابة الرواية.
رفض كاتب ياسين أي تشكيك في وطنيّته وهويته بسبب أنه يكتب بالفرنسية، بل رأى تعبيره بهذه اللغة واقعا شخصيا فرضه استعمار ثقافي، وليس ثمة بالنسبة إليه من طريقة للتعبير عن هواجسه الإبداعية إلا باستعمال هذه اللغة
لحسن الحظ لم يتبنّ الكتاب الجزائريون الموقف نفسه لمالك حداد في خصوص اللغة الفرنسية، بل تعاملوا معها في البداية بمرونة على غرار كاتب ياسين الذي رفض أي تشكيك في وطنيّته وهويته بسبب أنه يكتب بالفرنسية، بل رأى تعبيره بهذه اللغة واقعا شخصيا فرضه استعمار ثقافي، وليس ثمة بالنسبة إليه من طريقة للتعبير عن هواجسه الإبداعية إلا باستعمال هذه اللغة: "أكتب بالفرنسية لأن فرنسا اجتاحت بلدي وثبّتت نفسها بقوة بها، إلى درجة أنه كان يتعيّن الكتابة بالفرنسية للبقاء على قيد الحياة، فأنا حين أكتب بالفرنسية فإن جذوري العربية والبربرية لا تزال حية، وبالتالي فإن جميع الأحكام التي سيتم إصدارها في حقي في ما يتعلق باللغة الفرنسية قد تكون خاطئة، إذا تم نسيان أنني أعبّر بالفرنسية عن شيء ليس فرنسيا".
نظرة كاتب ياسين ومعظم مجايليه إلى الفرنسية لم تقف عند حقيقة الواقع اللغوي الاضطراري للجزائريين، بل تعدّتها إلى اعتبار الفرنسية نوعا من التراث المشترك على حد تعبير الناقدة كريستيان شولي عاشور في كتابها "الفرنكوفونيات الأدبية"، أو غنيمة حرب من حق المنتصر التمتع بها، مثلما جاء في أحد حوارات كاتب ياسين المنشورة غداة استقلال الجزائر وظهور بوادر الصراع اللغوي بين العربية الفصحى والفرنسية: "تظل اللغة الفرنسية غنيمة حرب، فما الفائدة منها إذا كان يجب أن نلقيها أو نعيدها إلى صاحبها فور انتهاء العداء؟". لعل هذه النظرة هي التي خلقت أدبا رفيعا من مستوى رواية ما بعد الاستعمار، الذي أعطى الفرصة لقراءة جديدة للتاريخ، وفتح المجال لتعدّد الرؤى في خصوص علاقة الجزائريين بماضيهم، ليس فقط في ما يتعلق بالمستعمر (فرنسا) بل أيضا علاقة الجزائريين بعضهم ببعض، على غرار أعمال سمير تومي خاصة في روايته "الإمّحاء" الصادرة عام 2016 أو مجموع روايات أمين الزاوي بالفرنسية، ولكن بنحوٍ أكثر مباشرة في روايته "موجة جليد" الصادرة عام 2020 المكرّسة للمحظور تاريخيا ولتأثير المرحلة الكولونيالية في حاضر المجتمع الجزائري الذي تفصله عن الذاكرة الاستعمارية أكثر من ستين سنة، مما يجعل هذا النوع من الكتابة يدخل في نطاق ما يسميه النقد "أدب ما بعد الذاكرة". فالمشتغلون في مثل هذا الأدب لم يعيشوا، لحداثة سنهم، فترة الاستعمار وما أحدثه من صدمة فكرية ونفسية لدى معاصريه، مثلما كان الوضع بالنسبة إلى كاتب ياسين وبوجدرة ومولود فرعون وأسيا جبار ومولود معمري ومالك حداد، لكنهم في المقابل يعيشون في حاضرهم النتائج المترتبة على تلك الحقبة على المستويات النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية.
رواية ما بعد الذاكرة
يشعر الجيل الحالي من الروائيين أن النتائج المترتبة على الحقبة الاستعمارية، أكثر وطأة عليهم من تلك التي عرفها الجيل السابق، ولعل هذا ما يبرّر أسلوب تعاملهم مع هذه "الذاكرة اللاحقة" مثلما تصفها الباحثة الأميركية ماريان هيرش، فقد يكون حياديا يتعامل مع الظاهرة الاستعمارية بعيدا عن المشاعر الشخصية مثلما نجده في أعمال أمين الزاوي وياسمينة خضرا وبوعلام صنصالمثلا، أو عدائيا مضطربا يخضع للموقف الرسمي السياسي المتعارف عليهكما في أعمال نور الدين سعدي، أو حتى متعاطفا مع الفترة الاستعمارية على غرار ما هو معتمد في روايات كوثر عظيمي وكمال داوود ونادية غالي.
اختلاف التعامل مع الذاكرة اللاحقة في الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية، لا علاقة له بوطنية الكاتب أو قوة مشاعره تجاه وطنه وتاريخه ولغته الأم سواء أكانت العربية أم الأمازيغية، بل هو نتيجة مباشرة لسعي روائيي "ما بعد الذاكرة" إلى اكتشاف هوياتهم
اختلاف التعامل مع الذاكرة اللاحقة في الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية، لا علاقة له بوطنية الكاتب أو قوة مشاعره تجاه وطنه وتاريخه ولغته الأم سواء أكانت العربية أم الأمازيغية، بل هو نتيجة مباشرة لسعي روائيي "ما بعد الذاكرة" إلى اكتشاف هوياتهم من طريق استجواب ذاكرة نُقلت إليهم عبر أكثر من جيل، وبالتالي مُرّرت إليهم بناء على وجهات نظر مختلفة ومتناقضة أحيانا، وهو اختلاف، على الرغم من حساسيته وخطورته أيضا، ساهم بشكل مباشر في بعث جيل روائي جديد، تمكن من نقل اللغة الفرنسية من وضع "غنيمة الحرب" إلى وضع "الحق المكتسب"، لكنها نقلة لم تسمح له بعد بالاشتغال على رواية قطيعة مثلما فعل كاتب ياسين في "نجمة" التي شكلت قطيعة حقيقية في الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية وأيضا بالنسبة الى الأدب الفرنكوفوني بشكل عام، بل نجدها تحاول الاندماج في الأدب الفرنسي الذي يرفض اعتبار الكتاب الفرنكوفونيين كتابا متكاملين وإن اعتبرهم متميّزين ومستحقين للتكريم المادي والمعنوي، عبر ما يجنونه من استحقاقات وجوائز أدبية رفيعة، وما تحققه أعمالهم من انتشار واعتراف على المستويين الشعبي والنقدي.
سعيٌ يناقض تماما ما ذهب إليه روّاد الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية، الذين عوض الاندماج في رواية لا تمثلهم ثقافيا واجتماعيا، ابتكروا أدبا مؤثرا غيّر حتى في لغة الرواية الفرنسية وأسلوبها.