تعاني الصحافة التقليدية وفي القلب منها الصحافة الثقافية من تحديات ضخمة، أولها تخلي رأس المال في كثير من البلدان العربية عنها، ما جعل أبرز الملاحق الأدبية والثقافية يُغلق، بعد أن ساهم لسنوات طويلة في إنعاش الحركة الأدبية على مستوى العالم العربي، والتبشير بكتب وكتابات أدبية وفكرية وفلسفية، وتقديم أسماء لأدباء صاروا مع مرور الوقت نجوما لامعة.
واحد من التحديات كذلك هو التطور التكنولوجي الذي فرض أشكالا جديدة من الصحافة مثل البودكاست وبرامج اليوتيوب والسوشيال ميديا، ومع تخلي كثير من المنصات عن الأشكال التقليدية والاتجاه إلى المحتوى الجديد هجر الصحفيون الموضوعات الكلاسيكية ليلتحقوا بالعالم الجديد، لكن بعضهم - وهم قلة - استمروا في الحفر داخل الأراشيف بحثا عن محتوى لائق، مؤمنين بأن قارئ الصحافة القديمة لن يموت بشرط أن يجد المادة التي تمتعه وتروي عطشه إلى القيمة وتجعله منتبها وسط ضوضاء المحتوى الجديد.
الكاتب الصحفي المصري عزت القمحاوي له تجارب مهمة في حقل الصحافة الثقافية، وهو أحد أبرز الأسماء في ذلك المجال. ساهم في تأسيس جريدة «أخبار الأدب» مع الروائي الراحل جمال الغيطاني، وقدَّم محتوى مهما سواء في هذه الجريدة أو في مجلة «الدوحة» حين أصبح مسؤولا عنها، محتوى يمزج بين الصحافة البسيطة والأدب الرصين، يرى القمحاوي أن ما تعانيه الصحافة الثقافية اليوم، هو جزء من معاناة الصحافة بشكل عام، وتنقسم أسبابه في عيوب بنيوية داخل الصحافة نفسها وعوامل خارجة عن إرادتها بينها مستوى حرية الخطاب المتاحة واستعدادات التمويل سواء كانت حكومية أو خاصة وكذلك منافسة وسائط أخرى مثل مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات والمواقع الشخصية.
وقال: «النوعان مترابطان ترابطًا شديدًا، فعيوب ضعف المحتوى، على سبيل المثال، تجعل الصفحة الثقافية غير ضرورية بالنسبة لرئيس تحرير الصحيفة العامة، وكذلك تجعل المجلة الثقافية غير ضرورية من وجهة نظر الممول، وهو عادة الدولة ممثلة غالبًا في وزارة الثقافة. وللأسف فإن كثيرًا من العاملين بالصحافة الثقافية يدافعون عن أنفسهم بإزاحة الأسباب بعيدًا عنهم. بالنسبة لهم الدولة لم تعد مهتمة، وهذا حقيقي إلى حد ما، خصوصًا في دول تعاني من عدم الاستقرار، وأحيانًا ما يلقون باللوم على الإنترنت فندخل في جدل حول صراع وسائط النشر، وهذا جدل خارج الموضوع. بالنسبة لي أعتبر المواقع الثقافية ذات المحتوى الجيد مجلات، يبقى تحدي وسائط التواصل الاجتماعي، وهذا تحد حقيقي، لكن الحاجة إلى «حارس بوابة» يجيز المهم ويحجب غير المهم تظل أساسية، والنشر في مجلة حسنة المستوى يظل أكثر إرضاءً من النشر الذاتي».
ولأن الصحافة الثقافية مهمة، فنحن بحاجة إلى إعادة إطلاق جديد لها بحسب القمحاوي، يسبقه نقاش صريح حول تاريخ الصحافة الثقافية عربيًّا. إلى أي حد كانت منوعة من حيث التخصص ومن حيث الجمهور الذي تستهدفه. هناك مجلات كثيرة لم تسأل نفسها سؤال الجمهور. أي مستوى من القراء تستهدف؟ هذا سؤال أساسي، يمنح المجلة نقطة كبيرة في مبرر وجودها. بعد ذلك تأتي العوامل الأخرى وأهمها امتلاك المبادرة. المجلة الثقافية يجب أن تصنع ثقافة وتبادر إلى طرح القضايا بدلا من انتظار مساهمات الكتَّاب العشوائية التي منحتنا عددًا لا بأس به من مجلة «الكشكول» وهي غالبا تضم مساهمات مختلفة وتعرض كل شيء.
وينتقل القمحاوي إلى تجربته الخاصة: «أثناء إدارتي لمجلات ثقافية كنت أحرص على فكرة القيادة والمبادرة بالملفات، ونلت عداوات لم أكن حريصًا على كسبها لأن هذا الكاتب أو ذاك الناقد لديه مقال جاهز ويستغرب لِمَ لا أقبله إكرامًا لاسمه الكبير. المشكلة الأخرى التي ستواجه محرر الثقافة اليوم تتعلق بالمناخ الثقافي العام الذي فرضته الجوائز ومجاملات وسائل التواصل، وأسميها «ثقافة الرضا والانتظار» التي تمنع فتح الجراح وتنظيفها».
الزمن الماضي
الكاتب الصحفي السعودي عبد الوهاب العريّض له تجربة ممتدة على مدار 22 عاما في الصحافة الورقية، وقد عمل بخلاف السعودية في البحرين، الأردن، الكويت والإمارات، متنقلا بين أكثر من مطبوعة منها: اليوم، الشرق، عكاظ السعودية، القبس الكويتية، والاتحاد الإماراتية. يقول ردا على سؤال كيف ترى الصحافة الثقافية اليوم؟ إنه «سؤال كبير يعيدنا إلى مزيد من التحليلات والتوقف عند الزمن الماضي، كنت كثيرا ما أردد بأن الأمة التي تشعر بأن ماضيها أجمل من حاضرها هي أمة لا تستطيع أن تبني مستقبلا جيدا».
ويقول: «لعلها مقدمة تناسب شعورنا بالإحباط مما وصلت له الصحافة الثقافية اليوم، فأنت حينما تنظر إلى جريدة كنتَ تعمل بها ويصل ملحقها الثقافي إلى 12 صفحة ثم ترى الجريدة كلها حاليا وقد أصبح عدد صفحاتها بالكامل 12 صفحة، فبالتأكيد يجب أن تشعر بالإحباط، وهذا يعود للطريقة التي يتعامل فيها أولا ملاك الجريدة وثانيا مسؤول التحرير، حيث أصبح القائمون على الصحف اليوم مجرد هواة يمتهنون تلك المهنة، التي كنا نقول عنها في يوم من الأيام بأنها أصبحت مهنة من لا مهنة له، لكن دعنا ننظر للعاملين في الحقل الصحفي قبل الثقافي، إنهم مجرد مجموعة من المتعاونين الهواة الذين لم يحصلوا على مزيد من الدورات التأهيلية التي تجعلهم يستحقون الاسم الموجود على بطاقتهم (صحفي). هذا بشكل عام حول الصحافة ولكن ماذا عن الصحافة الثقافية؟ ستجد أن الصفحات الثقافية يتنازل عنها رؤساء التحرير بمجرد وصول إعلان (ضلَّ طريقه) إلى الصحيفة، حيث أصبحوا يشعرون بأنها عبء مالي لا يستحق تكلفة الأحبار التي تُطبع بها، ناهيك عن العزوف الذي أصاب العاملين في الصحافة الثقافية فذهب معظمهم إلى أسواق جوالة كي يستطيعوا تأمين قوت يومهم».
المسؤول الثقافي سابقا كان، بحسب العريّض، يشعر أن دوره الأساسي هو بناء المحرر وإعطاؤه الفرص ودفعه للكتابة ضمن التغطيات الصحفية كما يمنحه الأسئلة التي يتقدم بها في المؤتمرات أو اللقاءات، بينما المسؤول اليوم بحاجة لمن يمنحه ورقة فيها بعض الأسئلة التي قد تعينه على لقاء مع أحد المثقفين أو الكتاب. ويلفت العريّض إلى أن الساحة خلت من العاملين المتميزين في الصحافة الثقافية بشكل ساهم في تصعيد صحفيين غير مهنيين كانوا يتعاملون منذ سنوات بالقطعة والآن صاروا مع الأسف رؤساء للأقسام الثقافية. ويعلق ساخرا: «كانت تلك الأقسام في يوم ما نخبوية، ولا يمكن الالتقاء بأحد العاملين فيها بدون تهيئة نفسية وروحية ومواعيد مسبقة».
ويقول: «الصحافة الثقافية توجد في بعض المنصات وتختفي من أخرى بسبب غياب التمويل، وما يثير الضحك مثلا أنه في الوقت الذي التفتت فيه دولة مثل السعودية إلى الجانب الثقافي واهتمت به ومولت كافة قطاعاته بالمليارات، نجد أن الصحف استغنت عن المحررين والصفحات وربما حتى الأخبار من مواقعها الإلكترونية، متحججين بأنه لا يوجد قارئ، والسؤال هنا: من يصنع القارئ، ومن هو الشخص الذي يستطيع جذب الجمهور نحو ما يكتب؟». ويجيب على نفسه قائلا: «علينا أن ننزع النظارات السوداء ونبحث عن السبب في حالة أردنا وضعا ثقافيا يليق بالألفية الثالثة ويليق بالقارئ الذي أصبح أكثر ذكاء ودقة في اختيار ما يقرأه، وعلى مسؤولي الصفحات الثقافية والصحف الكفّ عن اللطم على ذاكرة الماضي، وأن يتحدوا للمساهمة في صناعة مستقبل ثقافي يليق بهذه الأمة التي ما زالت تقرأ بشكل نهم، وهو ما يمكن أن نشاهده بوضوح في معارض الكتب الدولية والإقليمية».
فترات ذهبية
الكاتب الصحفي المصري عمرو خفاجي، له تجربة مميزة طويلة، عمل كصحفي في مؤسسة روز اليوسف حتى عام 2000، قبل أن ينتقل للعمل بالتلفزيون، شارك في تأسيس العديد من الصحف والمجلات منها صحيفة «الشروق» المصرية، وتولى رئاسة تحريرها في فترة من الفترات، وهو مؤسس وصاحب فكرة «العاشرة مساء»، أشهر برامج التوك شو في مصر.
يبدأ خفاجي كلامه بالتأكيد على أن الصحافة العربية مرت بفترات ذهبية في تطوير وتطور الذهنيات العربية، كما لعبت الصحافة، خاصة ما نستطيع أن نصفه أو نسميه بالصحافة الثقافية، دورا مهما في بناء الوعي لدى المواطن العربي، وربما كان هذا هو الوضع على سبيل المثال في مصر حتى بداية سنوات السبعينيات، عبر المطبوعات الثقافية المتخصصة، وأيضا عبر صفحات الثقافة أو الملاحق الثقافية في الصحف اليومية. ويقول: «أنا من جيل كانت الصحافة اليومية أحد أهم مصادر تثقيفه وتنمية وعيه تجاه كافة قضايانا الكبرى، كان ملحق صحيفة الأهرام عامرا بكل ما يمكن تصوره من معارف وقضايا وأفكار وفلسفات وفنون الدنيا، من شروحات زكي نجيب محمود إلى أفكار متنوعة متراوحة بين توفيق الحكيم ويوسف جوهر وحتى لطفي الخولي، إلى جانب مقالات مذهلة للويس عوض عما يجري على مسارح العالم، خاصة لندن وباريس، إلى آخر كل ما هو معروف عما كانت تقدمه هذه الملاحق الثقافية. لكن المتابع الآن للشأن الثقافي في صحافتنا العربية، من حقه أن يشعر بالكثير من الخيبة، وبعض الألم لما آل إليه الحال، فباستثناءات نادرة، تكاد تختفي الموضوعات الثقافية في صحفنا اليومية، وإذا وُجدت، لا نستطيع أن نضعها في جملة واحدة مع ما كانت تقدمه صحف مثل الأهرام أو المساء عبر اسم محررها الشهير عبدالفتاح الجمل».
ويضيف: «البعض يرى أن هذا أمر طبيعي لتراجع النشاط الثقافي من الأساس، وبالتالي لن تجد الصحف ما تتابعه، وربما يكون معهم بعض الحق، ولكن نرى أن السبب الرئيسي في التراجع، يرجع لفكرة اهتمام الصحافة بما نستطيع أن نصفه بالجماهيرية والشعبية والأكثر متابعة، خاصة قضايا النجوم الشخصية ومشاهير كرة القدم، وتخصيص مساحات كبيرة لقضاياهم وصورهم وكل ما شابه من قضايا. لكن وبكل وضوح، علينا أن نعترف صراحة بأن الصحافة، التي هي من مؤسسات قيادة الرأي العام، مسؤولة عن تراجع الاهتمام بالشأن الثقافي وقضايا الثقافة، فهي تملك قوة فيما ترغب في نشره والدفاع عنه كما كان يحدث في عصور سابقة، ويجب أن يؤمن القائمون عليها بأنها هي المروِّج الأكبر والأهم، وكما تهتم بأمور تعتقد أنها جماهيرية، يمكن أن تفعل ذلك أيضا مع كثير من قضايانا الثقافية ورموز واقعنا الثقافي، فما زال لدينا أسماء نشطة تحمل أفكارا وتوجهات تستحق النقاش، فالمطابع نشطة بشكل مميز جدا، وأيضا نشطت في الفترة الأخيرة الكثير من المؤسسات الثقافية عبر تنظيم الجوائز والمهرجانات والمؤتمرات، وغالبها لديه أهمية نسبية يمكن أن يُسهم في مناقشات وفعاليات المجال العام».
ويرى خفاجي أنه من المهم أن نشير، في هذا السياق، إلى أن فكرة الملاحق الثقافية بشكل عام قد يكون لها تأثير خاص وعنصر جذب للقارئ، بل نستطيع أن نقول إن ملاحق الثقافة عبر التاريخ الصحفي القريب كانت أحد أهم عناصر لفت الانتباه لقضايا الثقافة وضم قراء جدد بل المشاركة في تقديم مبدعين جدد، لأن الملاحق بطبيعتها متنوعة وذات مساحة تُشعر القارئ بالأهمية وتضعه في سياق مختلف عما تفعله المساحات الصغيرة المخصصة للثقافة في جزء من صفحة هامشية في الجريدة، حيث نشأت فكرة هي أن نشر الموضوعات الثقافية شر لا بد منه في بعض الصحف، لذلك يتم تخصيص مساحات صغيرة للثقافة يعتقد بعض المسؤولين أنها مساحات مهدرة.
ويختتم حديثه قائلا: «أعتقد أن الاهتمام بملاحق الثقافة في صحافتنا اليومية العربية، سيقوم بدور فعال في بناء الوعي لدى أجيال جديدة تحتاج إلى ذلك بالفعل، وأعتقد أيضا أن نجاح تلك الملاحق مضمون، انظر مثلا ببساطة إلى الصحافة العالمية وملاحقها الثقافية التي يزداد متابعوها عاما بعد آخر، لا أتحدث فقط عن الصحف الكبرى فقط مثل التايمز والجارديان أو النيويورك تايمز، بل هناك صحف لم تشتهر بملاحقها الثقافية دأبت في السنوات الأخيرة على إصدار ملاحق ثقافية كتدعيم لوجود الصحف الورقية في مواجهة العواصف الإلكترونية».
دكانة علاقات
الكاتبة الصحفية الأردنية نوال العلي واحدة من أبرز الصحفيين العرب بموضوعات تجمع بين الكتابة الصحفية والأدبية في كثير من الملاحق أبرزها الأخبار اللبنانية في فترة سابقة. تقول: «الأمر هو كيف نفهم الثقافة ثم ماذا نفعل بفهمنا هذا في الصحافة. فالصحافة الثقافية مهنة وشغف من شقين، لا يقل أي منهما أهمية عن الآخر؛ الصحفي والثقافي. ومتى كان أحدهما أضعف من الآخر كانت مخرجات هذه المهنة ضعيفة وقد أفرغت الثقافة من معناها الكبير، وضيقته إلى دكانة تخدم علاقات القائم على القسم بالوسط الثقافي من حيث علاقاته الشخصية وحساباته ومجاملاته وعداواته».
وتستدرك: «أما نحن العاملين في هذه الأقسام والملاحق فحتى لو كان لدينا شغف حقيقي بها، فسرعان ما تصبح، بفعل الإحباطات، مجرد مصدر دخل، سيما وأننا لا نملك قدرة على تغيير الزيف الراسخ الذي اتفقنا على تمويهه بعبارة «صحافة ثقافية». فلا هي بالصحافة بمعناها المؤثر والمشتبك، ولا هي مشغولة بالثقافي بالمعنى العميق والمترامي للكلمة. هذه الإشكالية من الأساس مرتبطة أيضًا بالمؤسسة الصحافية الأم التي تفرد مساحة ثقافية فيها مثلما يخصص المطار غرفة للمدخنين، بمجرد تخصيصها لا تشغل هذه الغرفة أحدا ولا تخدم أحدا إلا المدخنين أنفسهم، ولا ينتبه إلى وجودها سواهم. لذلك نجد أن المؤسسة ليست متطلبة تجاه هذا القسم لأنها لا تريد منه شيئا سوى مظهر وجوده».
على مستوى المنطقة بالعموم، لا تظن نوال العلي أن هناك وقتا كانت فيه الصحافة الثقافية تعيش عصرا ذهبيا، ومرد ذلك في رأيها إلى أن الأوساط التي تتفاعل معها هذه الصحافة بطبيعتها شللية ومعقدة ومليئة بالبؤس والخصومات والتفاهات وهذا ينعكس على العمل نفسه في الصحافة الثقافية. لا يمنع ذلك من أن هناك مذنبات لمعت ثم اختفت، بسبب وجود أشخاص كان يهمهم صناعة الصحافة الثقافية في أفضل صورها. لكن هؤلاء أنفسهم للأسف أخفقوا في إرساء آليات استمرار لنجاح هذه التجارب حتى بعد أن يتركوها.
وتقول: «آخر الأقسام الثقافية المحترمة والمؤثرة كان قسم الثقافة في جريدة الأخبار اللبنانية الذي كان استثنائيًا وعربيا بمعنى الكلمة، أي أنه لم يقصر اهتمامه على لبنان، وكان مشغولا بسؤال الثقافة ليست كوسط من الشعراء والروائيين والفنانين، بل لجهة اشتباكاتها بالسياسي والاجتماعي. ولكنها أيضا تجربة خبت سريعًا. وأذكر ملحق النهار حين كان يشرف عليه إلياس خوري، وأخبار الأدب المصرية في فترة
ما. أما الصحافة البديلة أو المستقلة، فلسوء الحظ ولحسنه في آن، تتحاشى الانغماس في الصحافة الثقافية ذات السمعة الرديئة، لكنها وهي تفعل ذلك تتجنب أيضا أن تجرب صناعة صحافة ثقافية «نزيهة» تترك أثرا في الوقت نفسه».
دور مفقود
الكاتب الصحفي طارق الطاهر له تجارب مهمة في حقل الصحافة فقد رأس تحرير جريدة «أخبار الأدب» لمدة ست سنوات، وعاد مؤخرا إلى رئاسة تحرير مجلة «الثقافة الجديدة» في ولاية ثانية، وحصل على جائزة دبي عن موضوعه حول «نجيب محفوظ الرقيب». يقول: «يأتي تراجع الصحافة الثقافية في ظل احتياج شديد لصحافة تراهن على الوعي، وهو دور منوط بالصحافة الثقافية القيام به، وقد نجحت عبر عصور وفترات زمنية متعددة في ذلك، باعتبارها وجها من وجوه القوة الناعمة، لكن يظل السؤال الأكبر وهو: هل من الممكن أن تستعيد الصحافة الثقافية دورها المفقود في الوقت الراهن؟»، ويجيب قائلا: «أنا من الذين يراهنون على أن الصحافة الورقية - بعد فترة - ستستعيد الكثير من رونقها، لا سيما الصحافة الثقافية، التي ما زال يؤمن بدورها عدد لا بأس به من الأشخاص الجادين، ويرون فيها القدرة على تجاوز الصعاب والعقبات، فلا يزال لدى المثقف مخزون استراتيجي من ماض فارق في حياة الأمم، وفى الوقت نفسه لديه من الموهبة التي حصَّنها بثقافة ورؤية تجاه مجتمع ينتظر منه الكثير، خاصة في معارك البناء وتحفيز الهمم».
ويضيف: «الأمم لا تتقدم سوى باحترام الخيال، الذي يتمتع به بلا شك المثقف، هذا الخيال صنع للأمة العربية مجدها، عندما فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الآداب، وفى أجيال لاحقة هناك من فاز بجوائز دولية وعربية مرموقة، وكل ذلك يؤكد أن المثقفين، وهم وقود هذه الصحافة، قادرون على تجاوز العثرات التي نشهدها حاليا، وليس أدل على ذلك من صمود جريدة «أخبار الأدب» واستمرارها أسبوعيا منذ أكثر من ثلاثين عاما، وكذلك المجلات العربية مثل: العربي، الدوحة، إبداع، الثقافة الجديدة، وغيرها من المنارات التي لا تزال تحمل مشاعل التنوير، وتكافح من أجل إثبات ذاتها وقدرتها على تجاوز الصعاب .من هنا أرى أن الصحافة الثقافية ستستمر في معركتها من أجل إثبات ذاتها، فانهيارها أو تلاشيها هو انهيار لروح أي مجتمع، وهو من الصعب أن يحدث».
التضحية بالثقافة لمصلحة الإعلان
الكاتب الصحفي المصري محمد أبوزيد رأس تحرير برنامج «صباح الخير يا مصر» الشهير في بداياته، وأسس ولا يزال يدير موقع «الكتابة» المهتم بالقضايا الثقافية ونشر النصوص الإبداعية العربية، يقول: «قبل أن نتحدث عن أسباب تراجع الصحافة الثقافية، يجب أن نعرف أين نقف الآن؟ وما المقصود بالصحافة الثقافية؟ هل هي التي كان يقدمها أحمد حسن الزيات في مجلة «الرسالة»، أم التي كان يقدمها طه حسين في «الكاتب المصري»، أم التي كان يقدمها جورجي زيدان في مجلة «الهلال؟». لو سرنا بالزمن خطوات للأمام، هل نقصد الصحافة الثقافية التي كان يقدمها عبد الفتاح الجمل في ملحق المساء، والذي خرج معظم كتَّاب جيل الستينيات، أم ما كان يقدمه رجاء النقاش في مجلة «الدوحة»؟.. هناك عشرات التجارب الثقافية الناجحة، مصريا وعربيا، كلنا نحفظها ونرددها عند الحديث عن أزمة المجلات الثقافية.. دون أن نتوقف ونسأل أنفسنا، هل هذا النوع من الصحافة الثقافية ما زال ملائما للعصر؟». ويلفت أبو زيد الانتباه إلى أن من يعملون في الصحافة يدركون مدى التغير الذي لحقها في العقدين الأخيرين، خاصة مع انتشار الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، بشكل أثر على توزيع صحف عربية كبيرة، حتى أن بعضها أغلق أبوابه تماما مثل السفير والحياة وغيرهما، فإذا كان هذا يحدث مع الصحف الجماهيرية والشعبية الكبرى.. فما بالنا بالصحافة الثقافية ذات الجمهور المحدود؟، ويرى أن هناك أسبابا كثيرة لتراجع دور الصحافة الثقافية، من مجلات أو صحف، منها تراجع تأثير الصحافة المطبوعة من الأساس، ومن عملوا في الصحف الورقية يذكرون أن أول صفحة يتم التضحية بها في حال كان هناك إعلان، أو موضوع سياسي عاجل، هي الصفحة الثقافية، فما بالك وهذه الصحف تعاني من الأساس مما اضطرها إلى تقليل صفحاتها، بالإضافة إلى أن التحولات السياسية التي شهدها العالم العربي خلال العقد الأخير، جعلت الاهتمام بالثقافة يتراجع، مع تزايد الاهتمام بالسياسة وتبعاتها.
يضيف أبو زيد إلى الأسباب التي يسوقها ليبرر تراجع الصحافة الثقافية أن ظهور مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات، أتاح لأي شخص أن يؤسس «جروبا» أو صفحة على فيسبوك أو مدونة، وينشر من خلالها، سواء لنفسه أو لغيره، مما أفقد الصفحات الثقافية الحقيقية قيمتها ومكانتها، لأن النشر أصبح سهلا ومتاحا لكل من يملك «باقة إنترنت»، فما الحاجة لصحف كبيرة أو مجلات مهمة.. فقد تساوت الرؤوس. ويضيف أيضا «إنه لا يوجد مشروع ثقافي حقيقي، يستطيع التأثير في الأجيال الجديدة التي تغير مفهومها للثقافة، فهم يفضلون أن يكتفوا بحلقة من «الدحيح» على أن يشتروا كتابا أو مجلة. أو يسمعوا «بودكاست» على أن يقرأوا ملحقا ثقافيا. وفي ظني أن هذا هو جوهر الأزمة. أين تقف الصحافة الثقافية من هذه التغيرات الكبيرة، وأين دور المؤسسات الوطنية في دعم أو إنشاء مشاريع جادة، خاصة أن الثقافة جزء مهم من تكوين أي إنسان، وهو دور على الدول أن تضطلع به، أيضا إذا أخذنا في الاعتبار إغلاق مواقع ثقافية مهمة مثل «جهة الشعر» بعد 25 عاما من التأثير، بسبب غياب هذا الدعم». ويختم كلامه بالحديث عن تجربته الشخصية: «بالنسبة لموقع الكتابة الثقافي، فقد تأسس قبل 17 عاما، وكان أول موقع ثقافي في مصر، وما زال مستمرا طوال هذه الفترة بدعم شخصي، ليس لهدف سوى خدمة الثقافة، ونتمنى أن نستمر في أداء هذا الدور، حتى لو لم نحقق كل ما نبتغيه، لكن يكفينا شرف المحاولة».
موت الثقافة في المركز
المترجم والكاتب الصحفي السوري ثائر ديب لديه تجربة في غاية الأهمية في الصحافة الثقافية من خلال الإشراف على موقع «أوان» الذي يستهدف الثقافة العربية الرصينة. يرى أن هناك مشكلة في الصحافة الثقافية لأن هناك مشكلة في الإنتاج الثقافي بالتبعية، فقد انتقل الإنتاج الثقافي العربي من المراكز التاريخية وهي لبنان ومصر والعراق وسوريا إلى مناطق تشهد انفتاحا على الإنتاج الثقافي مثل دول الخليج، ويعلق: «لو نظرت إلى عدد الجرائد والمجلات التي كانت تشتغل بالثقافة أو تغطي الإنتاج الثقافي سترى موتا للمجلات والجرائد الثقافية العربية في مراكز الإنتاج، بالتالي نحن نعيش هذه النقلة بكل ما تحمله من معان وبارتباط الثقافة ببقية مستويات البنية الاجتماعية والسياسية».
ثائر ديب يظن أن «علاج مشكلة الصحافة الثقافية سيأتي من هنا. لاحظ مثلا أن كتَّاب سوريا ومصر ولبنان والعراق هم إما دشنوا أو حتى الآن يواصلون إنتاج الصحافة الثقافية الحالية في الدول القادرة على إنتاج هذه الصحافة. لاحظ كذلك أن أهم الصحفيين الثقافيين في العالم العربي الآن هم من بلدان النوع الأول، وهذا لا يعني خلو بلدان الخليج من الصحفيين الممتازين، لكني أتحدث عن تجربة جديدة تحتاج إلى التراكم. الصحافة الثقافية العربية خلقت صحفيين ممتازين ليس فقط قصاصين وروائيين، وإنما صحفيون أصدروا كتبا في الصحافة، مثل خليل صويلح، ومحمد شعير، وسيد محمود، وحسن عبد الموجود».
الصحافة التقليدية في مواجهة الديجتال
الكاتب الصحفي المصري سيد محمود يملك خبرة عريضة مع الصحافة الثقافية وبخلاف فوزه بعدد من الجوائز المرموقة وأبرزها جائزة دبي فإنه شارك في تأسيس عدد كثير من الملاحق على رأسها ملحق «البديل» ، وكذلك مجلة «الأهرام العربي»، وعربيا له الكثير من المساهمات أبرزها في الحياة اللندنية خلال فترة ما، والعين الإماراتية، وغيرهما. يبدأ سيد محمود من الإشارة إلى أن الصحافة الثقافية تلعب دورا كبيرا في بناء الوعي فهي تهتم بالظواهر الثقافية بشكل عام وكذلك تفسح مجالا للمبدعين وقضايا الإبداع بشكل يساهم مساهمة كبيرة في الكشف عن المواهب، ويقول إننا مدينون بشكل أو بآخر للصحافة الثقافية في أنها لفتت أنظارنا طول الوقت لأسماء وموضوعات، وقضايا ساهمت في تحسين الكثير من شعورنا تجاه قضايا كما أنها ساهمت في تكوين ذائقتنا.
وقال: «أظن أن الصحافة الثقافية بعد توقف الكثير من الملاحق الثقافية تواجه مأزقا ضخما للغاية، هناك جزء كبير منه يتعلق بالصحافة التقليدية والورقية وما تقابله من تحديات، وهناك جزء يتعلق منه بمدى صمودها في وجه التكنولوجيا وصحافتها الجديدة، اليوتيوب والبودكاست والتيك توك، هذه الصحافة الجديدة تخلق تحديا لأنها تقوم على الاستهلاك والتناول السريع ولا تكون مهتمة بسؤال القيمة وإنما تلاحق سؤال الاستهلاك وطبيعته، وهذا يضع الصحافة في تحد»، ويختم قائلا: «الصحافة الثقافية قد تكون حلا لأزمة الصحافة التقليدية التي هجرها القارئ، فمن شأنها ابتكار موضوعات جديدة وجذابة وتتجاوز المعالجات الإخبارية التقليدية التي يمكن أن نراها على صفحات الديجتال. والسنوات الأخيرة شهدت بعض التحقيقات الصحفية المتميزة، سواء على مستوى اكتشاف علاقة كتّاب بأماكن، مثلما فعلت إيمان مرسال بتقصي أثر الكاتبة الراحلة عنايات الزيات، أو كما فعلتُ أنا مع نجيب محفوظ، أو كما قدم حسن عبدالموجود ما يتعلق بسيرة إبراهيم أصلان الوظيفية. على الصحافة الثقافية أن تحاول طرق آفاق جديدة وأن يلعب الصحفي دور المؤرخ وأن يعيد النظر في بعض المسلمات».
https://www.omandaily.om/عمان-