تخطي إلى المحتوى
الطفل الذي في داخلك يجب أن يجد منزلاً الطفل الذي في داخلك يجب أن يجد منزلاً > الطفل الذي في داخلك يجب أن يجد منزلاً

الطفل الذي في داخلك يجب أن يجد منزلاً

يحتاج كل شخص منا إلى مكان يشعر فيه بالأمان والقبول؛ إذ نتوق جميعاً إلى مكان يمكننا الاسترخاء فيه وأن نكون فيه على طبيعتنا. يمثّل منزل والديك في الوضع المثالي هذا المكان، فإذا شعرنا بقبول وحبّ والدينا وكان لدينا منزل دافئ، فسيكون منزلنا هذا هو المكان الذي يتوق له الجميع؛ منزلٌ هو وطنٌ يثلج الصدر. 

تنغرس مشاعر القبول والترحيب فينا في مرحلة الطفولة، وتكون أرضية للمشاعر الإيجابية التي سترافقنا طوال حياتنا. وسنشعر بأننا مقبولون في حياتنا الشخصية وفي العالم من حولنا. سيكون لدينا ثقة بأنفسنا، وسنتمكن من الوثوق بالآخرين أيضاً. وهنا نتكلم عما يسمّى "الثقة العميقة" التي ستكون داخلنا كالمنزل الذي يعطينا الدعم والحماية.

يرتبط عدد ليس بالقليل من الناس للأسف بذكريات طفولة غير جميلة، وقد يكون لآخرين ذكريات مؤلمة، ولربما عنيفة أيضاً. وللبعض طفولة غير سعيدة ولكنهم يحاولون تجاهل هذه التجارب، أو حتى إلغاءها، حتى أنهم بالكاد ما يستطيعون تذكرها. ولا يزال بعضهم يعتقد بأن طفولته كانت "طبيعية" أو لربما "سعيدة"، ولكن هذا للأسف ليس إلّا خداعاً للذات. فحتى لو حاول المرء أن يلغي أو يتناسى تجارب الإهمال وانعدام الأمان في طفولته، فإنها ستظهر في حياته وتصرفاته اليومية كبالغ، وسيتضح بأن ثقته العميقة ليست ناضجة بما يكفي.

سيكون لهؤلاء مشكلة في تقديرهم لذواتهم، سيشكون دائماً بمحبة الآخرين وقبولهم لهم - سواء كانوا شركاءهم في الحياة أو مديريهم في العمل أو معارفهم الجدد -. هم في الحقيقة لا يحبون أنفسهم ولا يتقبلون ذواتهم بشكل كافٍ، ولديهم الكثير من انعدام الثقة؛ لذلك يعانون من مشكلات في علاقاتهم، ولا يتمكنون من تطوير أي نوع من الثقة العميقة، وبالتالي فإن استقرارهم الداخلي ضعيف جداً؛ لذا يريدون من الآخرين إعطاءهم الشعور بالأمان والحماية والسكينة والقبول.

فهم يبحثون عن ذلك المنزل في علاقتهم مع شركائهم، أو مع زملائهم، أو في الملعب أو حتى في مكان التسوق! 

وبذلك يضعون أنفسهم عرضة لخيبات الأمل في كل مرة لا يحصلون فيها على هذه المشاعر التي يحتاجونها. وهم غير مدركين أنهم في الحقيقة عالقون في حالة: "من ليس لديه في داخله منزل ووطن، فلن يتمكن من إيجاده في أي مكان آخر".

عندما نتحدث عن هذه البصمات الأساسية في الطفولة التي تؤثر، إلى جانب مورثاتنا الجينية على تكوين معرفتنا بذواتنا وتقييمنا لها بشكل كبير جداً؛ فإننا نتكلم عن جزء من الشخصية يسمى في علم النفس "الطفل الداخلي"؛ الذي هو مجموع تجارب الطفولة -الجيدة والسيئة - التي عشناها مع والدينا أو الأشخاص المقربين منا في مرحلة الطفولة. إننا غالباً لا نذكر معظمها في عقلنا الواعي، لكنها محفورة في عقلنا الباطن اللاواعي؛ لذلك يمكننا القول بأن الطفل الذي في داخلنا هو جزء جوهري وأساسي من لاوعينا. هذا الطفل هو المخاوف والقلق والتقييم الذي عشناه منذ نعومة أظفارنا، وكذلك كل المؤثرات الإيجابية في طفولتنا. 

وأن المؤثرات السلبية في طفولتنا تجعلنا نعاني من الصعوبات كبالغين؛ لأن طفلنا الداخلي يبذل الكثير من الجهد كي لا تتكرر معه كبالغ؛ نفس الجروح والتجارب القاسية التي عايشها في طفولته، ويسعى جاهداً في الوقت نفسه لتلبية رغبته في الحصول على الشعور بالأمان والقبول الذي لم يحصل عليه في طفولته. وتؤثر هذه المخاوف والتعطش تأثيراً عميقاً في تكوين وعينا وإدراكنا. 

فنحن على المستوى الواعي بالغون مستقلون تماماً ومتحكمون بحياتنا. لكن الطفل الذي في داخلنا يؤثر بشكل كبير جداً في لاوعينا وإدراكنا ومشاعرنا، وكذلك على طريقة تفكيرنا وتعاملاتنا، وبشكل أقوى بكثير مما نستطيع استيعابه؛ فقد ثبت علمياً أن للعقل الباطن اللاواعي سلطة نفسية كبيرة تسيطر على ما يقارب (80-90%) من تعاملاتنا وسلوكنا. 

مثال للتوضيح: يصاب ميشيل دائماً بنوبات من الغضب عندما تنسى شريكته سابين شيئاً مهماً بالنسبة له. ومؤخراً ذهبت سابين للتسوق ولكنها نسيت إحضار النقانق المفضلة لدى ميشيل، فغضب ميشيل غضباً شديداً. وكانت هي كمن ضرب على رأسه، فبالنسبة لها لم يكن الأمر أكثر من نسيان قطعة النقانق. أما بالنسبة لميشيل فقد انقلبت الدنيا رأساً على عقب.. ما الذي حدث حقيقة!؟ 

لا يدرك ميشيل حقيقة أنه عندما نسيت سابين النقانق المفضلة له، فإن الطفل الذي في داخله شعر بالإهمال وعدم التقدير من قِبَلها، فهو لا يعلم بأن المسبِّب الحقيقي لغضبه ليس سابين ولا قطعة النقانق المنسية، وإنما هو الجرح العميق في داخله بسبب عدم تقدير أمه له سابقاً في طفولته، وعدم أخذ رغباته بعين الاعتبار. وكان نسيان سابين لقطعة النقانق هو رشّ للملح على الجرح القديم.

ولأن ميشيل لا يدرك الربط بين ردّة فعله الغاضبة على سابين، وبين تجربته القديمة مع والدته، فإنه قلما يستطيع التخفيف من تأثير مشاعره على تصرفاته. 

وإن الخلاف على قطعة النقانق ليس الصراع الوحيد من هذا النوع في علاقة ميشيل وسابين، فكثيراً ما يتشاجرا على أشياء دون أن يدركا سبب الشجار الحقيقي. إذ لسابين طفل ظل أيضاً يسيطر هو الآخر على تصرفاتها، وطفلها الداخلي حساس جداً للنقد؛ لأنها قلما استطاعت إرضاء والديها في الماضي. وتوقظ نوبات الغضب التي تنتاب ميشيل مشاعر طفولتها، فتجعلها تشعر بأنها عديمة القيمة، وتكون ردّة فعلها هي الشعور بالاستياء والإهانة. وكثيراً ما فكر الزوجان بالانفصال عن بعضهما؛ لأنهما يتشاجرا كثيراً حتى على أبسط الأمور ويسيئا جداً لبعضهما.

لو أن سابين وميشيل يعرفان رغباتهما الداخلية الحقيقية، وجروحهما القديمة من والديهما في طفولتهما، لأدركا أن نسيان سابين لقطعة النقانق ونقد ميشيل لها، ليس إلا مشكلة سطحية جداً بإمكانهما التعامل معها بشكل أفضل بكثير، بل وبإمكانهما أن يتقاربا ويدعما بعضهما بعضاً بدلاً من أن يتشاجرا. 

إن عدم معرفتنا بالطفل الداخلي لا يتسبب فقط بالمشكلات بين الأزواج، وإنما يستطيع المرء في كثير من الأحيان أن يرى - إن أدرك وجه الربط بين المشكلة الحالية والطفل الداخلي - أن من يتشاجر ليس البالغين بكامل وعيهما، وإنما الطفلان الداخليان لكل منهما. 

مثال على ذلك، عندما تكون مغادرة العمل هي ردّة فعل الموظف على انتقاد مديره، أو عندما يكون التدخل العسكري هو ردة فعل رجل الدولة على انتهاك حدود دولته من قِبَل رجل دولة أخرى.

إن جهلنا بالطفل الداخلي هو ما يجعل كثيراً من الناس غير راضين عن أنفسهم، ولا عن حياتهم، ونشهد في أيامنا الكثير من المشكلات والصراعات بين الناس. وليس من النادر تصاعد ردود الفعل وخروجها تماماً عن السيطرة.

ولا يعني هذا بأن الذين عاشوا طفولة سعيدة في معظم طفولتهم، ولديهم أيضاً الشعور بالثقة العميقة، سيعيشون حياتاً خالية تماماً من المشكلات والهموم؛ إذ لا بد من أن طفلهم الداخلي يعاني أيضاً من بعض الخدوش في طفولته، فلا يوجد أهل مثاليون بالمطلق، ولا طفولة مثالية سعيدة بالمطلق. ولا بد أنهم عايشوا إلى جانب التنشئة الإيجابية التي خضعوا لها بعض السلبيات التي ربما ستؤدي لاحقاً إلى بعض المشكلات، التي لن تكون ظاهرة بوضوح؛ كمشكلة نوبات الغضب عند ميشيل، لكن قد يكون لديهم مثلاً صعوبة في الوثوق بأشخاص من خارج نطاق العائلة، أو أنهم يجدون صعوبة في اتخاذ القرارات الكبيرة، أو لعل بعضهم يفضل البقاء تحت سقف الإمكانيات المتوفرة على أن يخرج خارج هذه الدائرة، ويفتح الباب لخيارات أخرى جديدة. 

بكل الأحوال فإن عوامل التنشئة السلبية في مرحلة الطفولة تقيد من تطورنا، وتعيق علاقاتنا الإنسانية أيضاً.

وأخيراً فإن ما ينطبق على جميع الناس هو أنه حين نتعرف على الطفل الذي في داخلنا ونتصالح معه، فإننا سنعرف ما هي رغباتنا وجروحنا العميقة التي نحملها معنا، وسنتقبل هذه الجروح كجزء من أنفسنا وشخصيتنا، ولربما نستطيع أن نشفى منها إلى حدٍّ ما، وسيكبر أيضاً تقديرنا لذواتنا، وسيجد أخيراً الطفل الذي في داخلنا منزلاً.

هذا هو الشرط الذي يمكننا من بناء صداقات وعلاقات سليمة وسعيدة مع مَن حولنا. وهو شرط كي نتمكن أيضاً من التخلص من العلاقات غير الجيدة، أو تلك العلاقات التي تؤذينا.

   سيساعدك هذا الكتاب في التعرف على الطفل الذي في داخلك، وسيمكّنك من أن تبني معه علاقة صداقة وطيدة، كما سيدعمك للتخلص من النمط القديم الذي لطالما أوصلك للتعاسة، وسيوضح لك كيفية العثور على مواقف وسلوكيات جديدة ومفيدة تمكنك من الوصول إلى حياة وعلاقات أكثر سعادة.   

المصدر: 
دار الفكر