"أردت أن أروي قصة حزن وشعور بالوحدة استمرت طوال القرن العشرين، وكذلك قصة طفولتي". يقول الكاتب البلغاري غيورغي غوسبودينوف عن روايته الشهيرة "فيزياء الحزن" التي صدرت مترجمة إلى العربية عام 2016. يعدّ غوسبودينوف من أميز الكتاب الأوروبيين خلال العقود القليلة الماضية وأشهرهم. ولد في يناير/ كانون الأول 1968. وترجمت أعماله إلى 25 لغة. وحصل على العديد من الجوائز الدولية المرموقة منذ عام 1989. روايته الأخيرة "ملجأ الزمن" وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر البريطانية لعام 2023، كما فاز عام 2021 بجائزة "ستريغا" الإيطالية المرموقة. بدأ مسيرته الأدبية شاعرا، ثم كتب القصة القصيرة والرواية والمسرحية والرواية المصوّرة.
في روايته الأولى "رواية طبيعية" (1999)، عالج غوسبودينوف مسألة الطلاق من خلال قصة رجل (الراوي) يكتشف خيانة زوجته له، لكن عوالم الرواية تتجاوز هذا الخطّ السردي، لنقرأ فيها عن تاريخ المراحيض الخاصة والعامة، وفرضيات نهاية العالم، وحياة الذباب. سألناه كيف دمج جميع هذه العوالم في نسيج روايته؟ يقول: "في الواقع، كل هذه الأشياء مرتبطة ببعضها البعض، لذلك، فإنها لا تخطر ببال الراوي مصادفة. وعنوان الرواية في حد ذاته يربطها منذ البداية بالتاريخ الطبيعي مثلما نعرفه منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر عندما أصبح بإمكاننا وصف الإنسان والعالم بأسره، على أنهما جزء من كيان واحد. إنها في جوهرها رواية عن التفكك والنهايات وعن لا جدوى الحياة اليومية. لذلك نرى بطل الرواية يتأمّل الذباب، ويفكر في تاريخ المراحيض، وفي نهايات الأشياء والعالم"
فيزياء الحزن
"في زمن ما كنت أستطيع أن أكون في كل شيء أن أكون كل شيء. والآن في كهولتي ومع انعدام الموهبة أردت أن أجمع كل شيء تعويضا صغيرا عما فقدته"، نقرأ على لسان الراوي في "فيزياء الحزن" التي اعتمد فيها الكاتب أسلوبا سرديا أشبه بالمتاهة. وقد لقيت هذه الرواية نجاحا جماهيريا كبيرا، وباتت تعد واحدة من أكثر الروايات مبيعا في أوروبا. عن ذلك يقول غوسبودينوف: "لا أحب أن أكتب روايات عادية ينتقل فيها السرد من النقطة أ إلى النقطة ب. نحن لا نفكر أو نعيش حياتنا في خطوط مستقيمة. لذلك أحاول في رواياتي التواصل مع القارئ، فهناك ممرات جانبية في الرواية يمكن أن يلتقي فيها الكاتب والقارئ معا. ربما هذا ما جعل الرواية ممتعة بالنسبة إلى القراء. لكنني أعتقد أنه من المبالغة القول إنها من أكثر الكتب مبيعا. لقد وجدت طريقها ببساطة إلى القراء من مختلف بلدان العالم".
يدمج غوسبودينوف في "فيزياء الحزن" بين سيرته الذاتية والواقعية السحرية والأساطير اليونانية ويحكي كيف عاش كائن "المونيتور"، بطل روايته، في متاهة. تقول الأسطورة إن "المونيتور" مخلوق نصفه العلوي ثور ونصفه السفلي إنسان، أمضى حياته وحيدا في "قصر التيه". يقول الكاتب عن رمزية "المونيتور": "أردت أن أحكي قصة حزن وشعور بالوحدة استمرت طوال القرن العشرين، وكذلك قصة طفولتي. لذلك استخدمت شخصية المونيتور لأنه أحد أكثر المخلوقات وحدة. وهو في تفسيري ليس وحشا، لكنه طفل وحيد عمره ما بين سنتين إلى ثلاث سنوات محبوس في قبو البيت فقط لأنه مختلف. الأسطورة تعاملت معه بقسوة. لكن التعاطف وسرد القصة بشكل مختلف يمكن أن يمنحانا فرصة لرؤية حقيقة الوحوش التي صنعناها بأنفسنا. ولرؤية الطفل الوحيد في وحش المونيتور".
الترجمة
على الرغم من ندرة ترجمة الأدب البلغاري، تعتبر أعمال غوسبودينوف الأكثر ترجمة بين أقرانه، إذ تُرجمت أعماله إلى أكثر من 25 لغة من بينها اللغة العربية. صدرت ترجمة رواية "فيزياء الحزن" عام 2016 وترجمتها عن البلغارية نيديليا كيتاييفا. يقول الكاتب إن المترجمة صديقة مقربة له منذ الطفولة "لذلك فهي تعرف كل أعمالي وتفهم أسلوبي جيدا. رواية 'فيزياء الحزن' ليست نصا يسهل ترجمته. لكن وفقا لمراجعات النسخة العربية، يبدو أن كيتاييفا نجحت، لذلك وجدت الرواية طريقها إلى قلوب القراء العرب". ويقول غوسبودينوف إنه يقدّر بشدّة العديد من الأعمال الأدبية العربية "تربيت على قصص أجدادي، التي تشبه إلى حد كبير أسلوب سرد القصص العربية الكلاسيكية التي نعرفها من ألف ليلة وليلة".
تناقش رواية غوسبودينوف الأحدث "ملجأ الزمن" فكرة إنشاء مساحة آمنة للأشخاص المصابين بمرض الزهايمر، ولكن ينتهي الأمر بأن عددا من الأصحاء يبدون رغبتهم في العيش في "عيادة الزمن" هذه التي يعتبرونها المكان المثالي. نشرت الرواية في أبريل/ نيسان 2020، سألناه عن الوقت الذي تشارك فيه البشر المشاعر والأفكار نفسها خلال انتشار جائحة كوفيد19 عندما غلب على البشرية الحنين إلى حياتها الماضية ومحاولاتهم البحث عن "ملاذ آمن". يوافق غوسبودينوف هذا الرأي، ويضيف: "رغم أنني انتهيت من كتابة الرواية قبل ظهور الجائحة. ولكني أدرك تماما مشاعر الخوف من المستقبل والحنين إلى الماضي، لأنهما موجودان بالفعل. كان الجميع يشعر بالقلق وذلك الشعور انتشر في الأجواء. لأننا لم نكن نعرف بالضبط ما الذي سيحدث، لكننا شعرنا أننا وصلنا إلى الحد الأقصى ولم نعد قادرين على العيش على هذا النحو أكثر من ذلك".
في "عيادة الزمن"، ينجح الدكتور غوستين بطل الرواية في خلق ذكريات اصطناعية لمرضاه وهي حيلة نفسية حقيقية. لكنْ كيف حضّر غوسبودينوف لكتابة هذه الرواية. يقول: "درست المرض نفسه لفترة طويلة، ولكن الأهم هو أن مرض الزهايمر الجماعي أصابنا كمجتمع. من المهم استكشاف كيف يمكن أن يعيش الإنسان الماضي والحاضر في وقت واحد، وما نخسره عند فقدان الذاكرة، وكيف تختلط الأوقات في داخلنا ومن حولنا. هناك الكثير من القضايا الفلسفية المتعلقة بالذاكرة والماضي. من دون ذاكرة، تغدو الحياة مستحيلة حتى على المستوى البيولوجي".
من المحتمل أن أكون مصابا بمرض انفصام الشخصية في ذات الكاتب بداخلي، لكنني لست خائفا من تكاثر هذه الشخصيات. رواياتي ذاتية جدا، فلماذا أخترع أسماء أخرى
توازن
سألنا الكاتب كيف يوازن بين العناصر الخيالية والاهتمامات الواقعية داخل السرد الإبداعي؟ يجيب: "لا أفعل ذلك عن قصد. بل يحدث بشكل طبيعي اثناء الكتابة لأني نشأت على القصص منذ طفولتي. وهي الطريقة التي أنظر بها إلى العالم. كذلك أستخدم ما يحدث خلال الحياة اليومية في كتاباتي، فأنا أبحث عن الأشياء المذهلة فيها".
ولكن ما موقع بلده بلغاريا من هذا كله. يؤكد غوسبودينوف أنه عادة ما يستلهم في أعماله تاريخ بلده وثقافته "لكن الأهم بالنسبة إليّ هو أفكار الإنسان ومشاعره. أعتقد أن السيرة الذاتية، أو القصة الشخصية، أهم من القصة الكبيرة. لطالما فضلت القصص الشخصية، ولطالما شغلني السؤال حول ما يسعد الفرد وما يؤرّقه. في بلغاريا العديد من القصص التي لم ترو بعد انطلاقا من هذه الزاوية، وأرغب في أن أرويها".
بالإضافة إلى الشعر والرواية، كتب غوسبودينوف أول رواية بلغارية مصورة بعنوان "الذبابة الخالدة" التي ناقش فيها فكرة الخلود والصراع على السلطة. حول هذا الكتاب يقول: "في جميع كتبي، أهتم دائما بالأشياء التي عادة ما نفتقدها. في الذبابة الخالدة أتخيل عالما محتملا تكون فيه الذبابة المنزلية، لا الإنسان، مركز العالم. كيف ستكون ثقافة هذا العالم وتاريخه وأساطيره. لا أحد يلاحظ الذبابة، لكننا جعلناها بطلة خارقة. هناك، بالطبع، مفارقة في هذا".
كلهم أنا
اختار غوسبودينوف أن يحمل الراوي في "رواية طبيعية" و"فيزياء الحزن" اسمه نفسه. عن وجهة نظره في الأمر يقول: "في 'رواية طبيعية' لا توجد شخصية غيورغي غوسبودينوف واحدة، بل ثلاث. أحدهما رجل بلا مأوى، والآخر محرّر أدبي، والثالث بستاني مجنون ومؤرخ طبيعي. أعتقد أنني يمكن أن أكون أي واحد منهم. لأن لدينا العديد من الأشخاص الذين يعيشون فينا، لكننا تعلمنا إظهار واحد منهم فقط. من المحتمل أن أكون مصابا بمرض انفصام الشخصية في ذات الكاتب بداخلي، لكنني لست خائفا من تكاثر هذه الشخصيات. رواياتي ذاتية جدا، فلماذا أخترع أسماء أخرى".
مرض الزهايمر الجماعي أصابنا كمجتمع. من المهم استكشاف كيف يمكن أن يعيش الإنسان الماضي والحاضر في وقت واحد، وما نخسره عند فقدان الذاكرة، وكيف تختلط الأوقات في داخلنا ومن حولنا
حصل ديوان غوسبودينوف الشعري الأول "نحات الحجر" المنشور عام 1992 على الجائزة الوطنية للعمل الأول. يقول: "بدأت الكتابة شاعرا وما زلت أمارس كتابة الشعر. ما زلت مؤمنا أن الشعر مدرسة مهمة للغاية للإيقاع والحساسية تجاه العالم. أعيش حياة طبيعية في بلغاريا، مثلما عشت في العديد من الأماكن حول العالم. أحاول أن أبقى شخصا طبيعيا وحساسا في عالم يزداد تفككا والشعر يساعدني على ذلك
عانيت في طفولتك من متلازمة تسميها "متلازمة الوسواس الوجداني الجسدي"، هل تعتقد أن التعاطف المفرط مع الآخرين جزء من شخصية الكاتب؟
لقد وصلت إلى هذا التشخيص بالفعل. ومتأكد من أنه موجود بشكل ما. أعتقد أنه من دون التعاطف من المستحيل أن يصبح المرء كاتبا أو قارئا. التعاطف شرط أساسي لأن أكون إنسانا.
ما الذي يلهمك؟
طفولتي، ابنتي والأشياء البسيطة المحيطة بي مثل يوم مشمس أو لحن موسيقى، ذكرى أو صفحة من رواية أو قصيدة.
ما مشروعك المقبل؟
ليس لدي مشاريع. ما يخطر ببالي أولا ويجعلني أكتبه، هذا كل شيء.
من كتابك المفضلون؟
كل الكتاب الذين يهتمون بالناس ولديهم إحساس عال وخيال قوي - قصص جدتي التي بالكاد تستطيع كتابة اسمها وبورخيس.
ألديك طقوس خاصة في الكتابة؟
ليس لديّ اطقوس. يكفي أن أكون وحيدا في الغرفة.