إذا كان مفهوم النص قد تبلور وتطور نظريا مع البنيوية، فإن النص المترابط تحقق مع الثورة الرقمية التي ساهمت في الانتقال من الوسيط الورقي إلى الرقمي، حيث لا يتعامل المتصفح إلا مع المادة النصية المعروضة أمامه من خلال شاشة واحدة. ولكي ينتقل إلى غيرها، كان انتباهه إلى بعض الكلمات المميزة عن غيرها كفيلا بنقره عليها ليجد نفسه أمام شاشة جديدة. إن النص المترابط مبني على «عُقد» (بنيات نصية)، يؤشر على بعض مكوناتها بـ»روابط» يتيح النقر عليها الانتقال إلى صفحة أخرى غير التي كان القارئ يطلع عليها. وهكذا دواليك يكون التحرك في النص بكيفية لا خطية. لكن الترابط موجود أيضا في النص غير الرقمي، غير أنه لا يتحقق بالتقنيات التي يتضمنها النص المترابط. وانطلاقا من النص، والنص المترابط نلاحظ أن القرآن الكريم يتحقق فيه الترابط النصي بكيفية مختلفة عما نجده في غيره من النصوص.
يتميز النص القرآني عن غيره من النصوص بأنه غير خطي. وتسمح هذه اللاخطية لأي قارئ بأن يختار بعض السور والآيات أو ينتقل بينها، فيجد نفسه منغمسا في عوالم النص نفسها، فيدرك مراميه ومقاصده، وفي الوقت نفسه يستمتع بأساليبه وبلاغته. وفي هذا خير دليل على ترابط مكوناته وتفاعل بعضها مع بعضها الآخر. ولا نجد هذه السمة إلا في «النص المترابط» الذي ظهر مع الثورة الرقمية، حيث فضاء الشاشة لا يسمح بما يتيحه النص الورقي، الذي يفرض خطية القراءة، من بداية النص إلى نهايته للإحاطة به وبعوالمه.
لكن النص القرآني ليس مرقوما بالكيفية التي تتحقق مع النص الرقمي، حيث الروابط مُعيَّنة بلون مختلف، تغرينا بالنقر عليها للانتقال في جسد النص، والتحرك بين عوالمه. إن النص القرآني خطيٌّ كتابة، وكل سورة ذات بداية ونهاية. ولذلك نعتبر الترابط النصي القرآني يتجلى من خلال كتلته النصية الكلية التي نجد أيا منها، وفي أي سورة، يحيل على ما تتضمنه أي سورة أخرى، دون أن تكون مميزة، كما هو متحقق في النص الرقمي. وأي قارئ كيفما كان مستواه سيجد نفسه أمام تواتر كلمات، وتكرار تعابير، سواء داخل السورة نفسها، أو بين السور المختلفة. ولما كنا نطرح مسألة كتابة النص القرآني في تساوق مع إكراهات المخطوط والمطبوع، نرى أن تحويله إلى المرقوم يتيح لنا إمكانية قراءة جديدة تسمح للمتدبر، والمحلل معا معاينة ما يزخر به بما لا نجده في غيره من النصوص من خصوصيات.
تبين لي منذ أن بدأت أتعامل مع الثقافة الرقمية أن القرآن الكريم نص مترابط بامتياز. ولعل الإقدام على ترقيمه وفق متطلبات النص المترابط، وبتقنيات عالية، يكشف لنا ذلك بجلاء. اخترت بشكل عشوائي كلمة «التقوى»، وما يتصل بها اشتقاقيا فوجدت الكلمة تتكرر ست مرات. أما التنويعات عليها، فإنها أتت على النحو التالي: بالتقوى (1 مرة واحدة)، والتقوى (مرتان)، اتقى (7 مرات، يتقون (17 مرة)، واتقوا (84 مرة). نلاحظ على مستوى التكرار أن كلمة «التقوى» منفصلة أو متصلة بالواو أو بالباء قد تواترت تسع مرات، واتقى في الماضي سبع مرات فقط، وفي المضارع الدال على الدوام، أو الحاضر، سبع عشرة مرة. أما بالأمر فوصلت الكلمة إلى أربع وثمانين مرة. ويمكننا فقط من خلال هذا التواتر معاينة كيف تستعمل الكلمة الواحدة في سور وآيات متعددة بصور متنوعة. ومن خلال تأمل كل الصور التي جاءت عليها نجد أن الأمر بالتقوى يحتل الحيز الأكبر منها.
لقد جاء الإتيان بالمصدر لإثبات أهميته في الحياة بالنسبة للإنسان. فالتقوى خير الزاد: «وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واتقونِ يا أولي الألباب» (البقرة، 197)، وهي خير اللباس (الأعراف، 26)، وأحق أساس يقام عليه المسجد (التوبة، 108). وفي الأضحية لا ينال الله لحومها، ولكن التقوى التي يعبر من خلالها العبد عن خضوعه لخالقه. وهي أحق كلمة ألزم الله بها المؤمنين (الفتح، 26)، وأهل التقوى هم، في الوقت نفسه، أهل المغفرة (المدثر، 56).
نعاين من خلال هذا الاختيار العشوائي، أن ما ينسحب على كلمة «التقوى» يجري على كل الألفاظ التي تتكرر في القرآن بكامله من الكلمات «المفاتيح» التي انفرد بها بمقارنتها بما كان متداولا مثلا في الشعر العربي، مثل: الهدى، المغفرة، الإيمان، الكفر، وغيرها. وفي هذا دليل على أن اللاخطية ساهمت مساهمة كبيرة في جعل مفردات القرآن الكريم، وآياته، وسوره مترابطة في ما بينها ومتفاعلة، بحيث نجد أي كلمة، أو آية تتعالق مع غيرها في النص القرآني. وتعد اللاخطية من بين أهم مميزات النص المترابط الرقمية. ولذلك نتأكد من أن الترابط النصي القرآني يؤكد لنا بجلاء، فيما عرف عند قدماء المفسرين بـ»تفسير القرآن بالقرآن». فما أُجمِل مثلا في قوله تعالى: «وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو» الأنعام (59)، فُصِّل فيما قال النبي (ص): مفاتح الغيب خمس، واستدل بـ»إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت. إن الله عليم خبير» (لقمان، 34).
ترقيم النص القرآني ضرورة، ولا يمكن أن يضطلع بذلك سوى حافظ، ومطلع على كتب التفسير، خاصة التي تفسره به، بالاعتماد على فهارس الألفاظ القرآنية، ومهندس مختص.