تخطي إلى المحتوى
القراءة ومسؤوليات صناعتها القراءة ومسؤوليات صناعتها > القراءة ومسؤوليات صناعتها

القراءة ومسؤوليات صناعتها

نقرأ لنكتب، والعكس لا يجوز تماما، لأن الكتابة قد تصبح جزءا من التعوّد والخبرة، لكنّ خلوها من إدامة الكشوفات القرائية سيجعلها مكررة، ومتشابهة، وربما لا جدّة فيها، سوى اللغو الإنشائي الحاذق والغاوي بما هو بصري خادع.
الانحياز للقراءة هو انحياز لتمثيل المعرفة، وللثقة بديمومة إضافاتها، وبقدر عدم تشابهها مع «خرفان» بول فاليري، في اصطناع صورة الأسد الافتراضي، فإنها تبدو الأقرب إلى الترياق الذي نحتاجه للتواصل، ولإعادة النظر في الكثير من «سموم» التاريخ، ومن رهاب الوصايا وسردياتها، وهذا ما يدعو إلى التحفيز على الاهتمام بـ»صناعة القراءة» أي صناعة مؤسساتها، وصناعة قارئها، وتيسير أدواتها، والنظر إليها بوصفها جزءا من مسؤوليات البناء المجتمعي.
صناعة القراءة، ليست بعيدة عن صناعة الكتابة، التي ننظر إليها بوصفها جزءا من نظام التدوين والتوثيق، وهذه الخصال العظيمة هي من صنعَ العالم، ومن أخرجنا من مدونات الكهف، إلى الواح البردي وقراطيس الطين وصولا إلى المطبعة، وهذا المنجز التاريخي هو سيرورة الحضارة، بوصف الإنسان كائنا يكتب، لكن الكتابة تنتهي مع النص، وربما تنتهي مع تحولها إلى خطاب يدخل في التداول، وفي الاستعمال، أو في البيداغوجيا، أو في المحاضرة المدرسية، أو في خطاب الرئيس أو في موعظة الفقيه أو في أي شفاهية بقصدِ العرض، والغواية والاستهلاك.
مع نهاية الكتابة، أقصد كتابة النص، تبدأ الحاجة إلى القراءة، بوصفها حاجة للكشف والبحث عن الجديد، وعدم الوقوع في محظور المشابهة، أو الفقر المعرفي، وأحسب أن فعل القراءة – في هذا السياق – هو فعل حركي، له تمثلاته في» الإصغاء، أو التصفّح» الذي سيكون دليلا مُحرّضا على وعي الحاجة إلى التجاوز، وإلى فتح كوى، أو ممرات ـ سرية أو علنية – للاستدلال والكشف، وتجديد فعل الرؤية، وإلى تأكيد حضور «القارئ العمدة» كما سمّاه ريفاتير، بوصفه المائز، والاستثنائي في التعاطي مع الكتاب، وربما هو أنموذج الكاتب الذي يبحث عن قوة الخصوبة، وعن منح «العقل» هبته المقدسة.

بورخيس – طه حسين القراءة بوصفها كتابة

الرؤية المُبصرة لا تعني حيازة عين الكاميرا وحسب، بل تعني أيضا حيازة العين المفكرة، تلك التي تحوّل فن الاصغاء، أو المقروء الصوتي، إلى طاقة هائلة للتفكير، وإلى كتابة بصرية، وهذا ما جعل بورخيس/ حارس المكتبة، وطه حسين/ حارس اللغة أكثر العلامات القرائية حضورا في شواهد معرفتنا المعاصرة، ورغم أن التاريخ يحفل بـ»عميان» عظماء مثل «هوميروس، بشار بن برد، أبي العلاء المعري، جون ميلتون، الأعشى قيس» إلا أن بورخيس وطه حسين جعلا من استثنائهما عملا خارقا، على مستوى تجديد وتوسيع فعل الكتابة، أو على مستوى العمل المؤسسي، إذ جعلا منه أفقا لتجديد مؤسسات القراءة والتعليم، وحتى التنوير، وهذا ما أعطى لمؤسستي «الجامعة والمكتبة» زخما معرفيا وتعليميا وقرائيا، أسهم في صناعة ظواهر ثقافية واسعة الطيف، تشبعت بقوة المقروء وإحالاته، وتكرست عبر التحفيز على دعم مؤسسات توسيع القراءة، وإنتاج الكتاب، وتنمية بنيته المكتبية والإنتاجية..

القراءة وإشكالية المكتبة

من الصعب فصل الوجود عن القراءة، فكلّ ما فيها يخضع إلى موجهات مرجعياتها، فالصلاة وطقوسها فعل قرائي لنصٍ مكتوب، والاعتراف قراءة، والحب في أقسى مسّراته يتحول إلى تصريح شهواني، يستعيد إيروس اللغة وذاكرتها ونصوصها، وهذا ما يجعل القراءة تقوم بوظيفة الدعوة إلى الإشباع، وإلى البحث عن المختلف، أو تكون مصدرا مهما في بناء التفكير المنهجي، وتغذيته بمصادره العلمية، وهي مصادر تتطلب القراءة والاطلاع، لتعزز الوجود العياني والاستعمالي للنص المكتوب، كما في الرسائل والأطاريح الأكاديمية، فكلما اتسعت دائرة مرجعيات القراءة، اتسعت معها علمية النص، وزادت الثقة بمنهجيته..
تقول الإحصائيات العالمية: إن العرب لا يقرأون كثيرا، وإن النسب المتدنية للقراءة، تعكس ضعف صناعة الكتاب، والثقة به في البناء الحضاري لمجتمعاتها، ولمنظوماتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، حتى التعليمية، وحديث استهلاك الكتاب المقروء تحول عند البعض إلى قياس للتطور، مثلما هو معيار لاستهلاك المعرفة، باعتبار أن هذا الكتاب سيكون مغذيا لفعل الكتابة والتدوين والتوثيق، وعلى نحوٍ ينطوي على إشارات تجعل من القراءة نظيرا للاستقرار الأهلي، إذ ارتبطت كلُّ الحضارات الكبرى، بالمكتبات، وببيوت المعرفة، بدءا من مكتبة آشور بانيبال ومكتبة الإسكندرية وبيت الحكمة، ومكتبة لندن وليس انتهاء بمكتبة الكونغرس الأمريكي.. علاقة المكتبة بالحضارة، هي العلاقة ذاتها مع المدينة، ومع رمزيتها الحضارية والمعرفية، فكلُّ المدن الكبرى تُعني بمكتباتها، وتعمل على تيسير خدماتها، لأنها تثق بالكتاب، وتمنح القارئ فرصا كبيرة لمقاربة المكتبة، ولحيازة الكتاب بوصفه «جهازا للتغذية» و»جليسا» يمنح قارئه لذائذ المعرفة، وشغف التعرّف على الأفكار، والحافز على تغذية هوية الكاتب، إذ لا كتابة دون عصف قرائي، أو عدوى قرائية..

ما يطبعه الكاتب العربي محدود، لأن استهلاك الكتاب محدود، ولأن النظر إلى الكتاب يظل كماليا، وليس قيميا، مقابل ذلك أن كثيرا من المثقفين لا يتعاطون مع هذه الفجوة بوصفها واقعا، ولا يعملون على ردمها، من خلال إعادة النظر بالحاجات الثقافية.

إشكالية ضعف البناء المكتبي في «وطننا العربي» هي تمثيل لإشكالية مؤسسة الدولة، وخلل منظوماتها السياسية والثقافية، فظاهرة الاستبداد السياسي تنعكس عبر التعمية الثقافية، وباتجاه تكريس صور استعراضية لـ»المواطن الطائع» الذي تصنع له السلطة، خطابا دوغائميا يتغذى عبر الاستهلاك الذي تروّج له مؤسسات الفرجة والإعلام، مقابل أن تبقى المكتبة العامة تحت الرقابة، وبعيدة عن التجدد، إذ تبدو لزائرها وكأنها متحفٌ، وتحت إدارات متحفية، لا خطط لديها لتوسيع معروضها بالعناوين الجديدة، والمغايرة، والتعريف بها عبر الإعلانات، أو التنسيق مع وسائل الإعلام لتقديم برامج وعروض عنها، ولجعلها جزءا من النظام المدرسي والجامعي.. وحتى انتعاش المكتبات الخاصة، ودور النشر الخاصة، ليس بعيدا عن هذه المغايرة، وعن التحول في اقتصادات المعرفة، فهو يعكس وعيا بأهمية «صناعة الكتاب» وتحويل «بضاعته» إلى جزء من التنافس، وإلى تنمية أسواقها، وبقطع النظر عن الطابع الاستهلاكي لهذه الأسواق، فإن النزوع إلى هذا التحويل الصناعي والإنتاجي يعكس أهمية وجود الكتاب في الحياة، وفي السوق، لكن تبقى الحاجة إلى تيسير فعل القراءة من الأمور التي تتطلب مسؤولية مؤسساتية، تقترن بالعمل على دعم برامج «مجانية التعليم» فضلا عن أهمية أن تكون صناعة الكتاب مدعومة، مثلما هو الخبز، لأن الحاجة إلى المعرفة والتعلّم من أساسيات بناء المجتمعات الحديثة، لاسيما تلك التي عانت من «ذاكرة» كولونيالية مرعبة، وتعاني اليوم من صراعات أهلية، ومن عنف مجتمعي واستشراء لأفكار التطرف والكراهية ونبذ الآخر، وهو ما يعني ضرورة العمل تخطيطا وتنظيما وتمكينا لأنسنة تلك الحاجة، وقوننتها، وربطها بمؤسسات التنمية البشرية والمستدامة..

القراءة الرقمية والملاذ غير الآمن

تظل خطورة الكتابة محصورة في أن تكون وثائق، وبالتالي فإنها ستكون جزءا من الحيازة السياسية، أو حدود ملكيتها، لكن خطورة القراءة تكمن في قسر حريتها، وفي تحديدها، وفي إخضاعها إلى التنميط، وإلى الرقابة، وعزلها عن الجديد، وهذا ما يجعل فعل القراءة رهينا بأيديولوجيا السلطة، وبفاعلية رقابتها، ونظرتها لمفهوم «الأمن الثقافي» لكن ما يحدث في العالم الآن، أسهم في تقويض «حاكمية القراءة» وفي إعادة توصيف القارئ، لتكون هويته الرقمية تمثيلا لوعي مغاير، ولاستعمالات مغايرة.
لقد قوّض العالم الرقمي الفكرة السائدة عن «الأمن الثقافي» و»الصيانة الثقافية» واجترح نوعا من «الهابيتوس» الذي دفع إلى البحث عن ملاذات خاصة، لها دورها في توسيع مفهوم «المكتبة» أقصد «المكتبة الحكومية» وإن بدء عصر القارئ الخصوصي، والمكتبة الخصوصية، سيكون عنصرا في بناء «المجال الخصوصي» الذي سيُعطي للوسائط الرقمية مجالها في تيسير الحصول على المقروء، وفي تجاوز فكرة الرقيب، وفكرة الكتاب الممنوع، وإيجاد نوع من التداولية، بما فيها تداولية النصوص بعيدا عن السياق الحاكم والمهيمن، وقريبا من السياق الذي باتت تقوده وتتحكم به «الجروبات» وليس الحكومات، أو الأحزاب الكبرى، أو الشركات العابرة للقارات. إن خصوصية المقروء الرقمي – رغم جرأته وحيويته وجدّته- يبقى محدودا، فالأمية الرقمية، لا تقل شأنا عن الأمية الأبجدية، وإن أرقامها مخيفة كما تقول المنظمات الدولية، وهو يتطلب إجراءات سسيوثقافية وتعليمية، تبدأ من عمليات الدمج الثقافي الممنهج والعلمي في الفضاء المعرفي، وفي تهيئة البيئات المدرسية والجامعية للتفاعل والتواصل مع الخطاب الرقمي، على مستوى التقانات، والاعتراف بالخطاب الرقمي، وعلى مستوى العمل على فتح المكتبات الرقمية في المؤسسات التي تستهلك المعرفة مثل، المدارس والكليات ومؤسسات المجتمع المدني ونوادي الشباب وغيرها، فضلا عن ربط المقروء الرقمي بآليات صناعة الكتاب ذاته، وتشجيع الكتّاب على تيسير طبع نسخ إلكترونية مع إصدارهم لكُتبهم الورقية.

المثقف العربي والقراءة

السؤال المفارق حول عدد قراء المطبوع الثقافي، يُعيدنا إلى مربع البحث عن القارئ، فهل يمكن صناعة هذا القارئ، ولفت انتباهه للكتاب الثقافي؟
قد لا تبدو الإجابة محددة، لكنها مُحفِزة، إذ يعيش واقعنا العربي أزمات وصراعات قارّة، قد يكون الجوع إلى الخبز والأمن أكثر أهمية من الجوع إلى الكتاب، لكن لو فككنا مفردة الجوع الأول، فسنجد أن بعض أسبابها ترتبط بالجوع الثاني، لأن كثيرا من مصائبنا ذات مرجعيات ثقافية، فالاستبداد والإرهاب والعنف والكراهية والعلاقة الملتبسة مع الآخر هي ظواهر ثقافية في جوهرها، وتحتاج إلى معالجات ثقافية، لكن طبيعة الأنماط الحاكمة تعمل على تكريس الجوع البايولوجي حتى لا يتحفز الجوع الثقافي، وهو جوع ثوري بطبيعته..
ما يطبعه الكاتب العربي محدود، لأن استهلاك الكتاب محدود، ولأن النظر إلى الكتاب يظل كماليا، وليس قيميا، مقابل ذلك أن كثيرا من المثقفين لا يتعاطون مع هذه الفجوة بوصفها واقعا، ولا يعملون على ردمها، من خلال إعادة النظر بالحاجات الثقافية، فوهم العزلة، والأدبية المفرطة، والمعالجة غير الواقعية قد تجعل من المجال الثقافي بعيدا عن «المجال العمومي» الذي تحدث عنه هابرماس، الذي نحتاج إلى إعادة توصيفه ليكون مجالا حيويا، وليس مجالا بورجوازيا، كما أراده هابرماس، وباتجاه فتح منصات للحوار والبحث عن محركات تعيد النظر في السؤال الثقافي، وفي مفاهيم الهيمنة والنخبة والاجتماع والحرية والاستهلاك، لكي نمنح صناعة القراءة الثقافية أفقا للتوسع، ومجالا للتنافس مع القراءات الأخرى التي تعمل على تخريف العالم…

المصدر: 
القدس العربي