لم يكن رئيس جمعية "النادي الثقافي السوري" في ولاية تورينغن، في شرق ألمانيا، نادر رسلان، يتوقّع هذا الإقبال الكثيف على "معرض الكتاب العربي"، وهي الفعالية التي نظّمتها جمعيته، يومي السبت والأحد الماضيين، في مدينة إيرفورت، عاصمة تورينغن، بالتعاون مع "مكتبة العرب في ألمانيا"، ومقرّها الرئيسي في مدينة إيسن، في شمال البلاد.
فعلى الرغم من إجراءات فيروس كورونا الوقائية الصارمة، التي كان يظنّ المنظّمون بأنها ستحول دون المشاركة المأمولة في المعرض، إلا أن ذلك لم يقف في وجه السّكان العرب الذين يحاولون التقاط أيّ فرصةٍ، والانخراط في أيّ نشاطٍ يعيد ربطهم بثقافاتهم.
ويصبح التعلّق في هكذا نشاطاتٍ أكبر، في أماكن لا تزال عملية الاندماج فيها تواجه عوائق، بفعل عوامل عدة تأتي على رأسها مسألة شعور بعض اللاجئين بأنهم غير مرغوب بهم إلى الآن، فضلاً عن مسألة قلة الفرص والنشاطات المتاحة، كتلك الموجودة في برلين مثلاً، وفي ولايات غربية أخرى حيث الوجود العربي متأصل منذ عقود، وحيث للجالية العربية مجتمعات خاصّة بها.
وإن كانت مسألة التعميم غير منصفة في ما يتعلق بمسألة نبذ الأجانب، وتحديداً اللاجئين، إلّا أن هذا حال كثيرين ممن يقيمون في ولاية تورينغن، والتي يصوّت مواطنوها في مختلف الاستحقاقات الانتخابية، لصالح حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني الشعبوي، الذي يتبنّى شعاراتٍ معاديةً للّاجئين، لا بل يُتَّهم بالتحريض عليهم.
وبرأي نادر رسلان، فإن هذا الإقبال الكبير على "معرض الكتاب العربي"، يؤكد أن القاطنين في هذه المنطقة متعطّشون لهكذا فعاليات، موضحاً في حديث إلى رصيف22، أن كثيرين اتّصلوا بهدف الحجز المسبق لزيارة المعرض، كما تم الاشتراط التزاماً بإجراءات كورونا، ولكن تبيّن أنهم غير ملقَّحين ضد الفيروس، وهو ما حتّم علينا الاعتذار منهم.
وقد حاول المنظّمون قدر الإمكان التقيّد بالشروط التي فرضتها البلدية، كمنع وجود أكثر من 20 شخصاً في قاعة المعرض، ما أسفر عن انتظار البعض في الخارج حتى يحين دورهم.
وتعليقاً على ذلك، يقول رسلان، إن "الجالية العربية، خصوصاً هنا في تورينغن في شرق ألمانيا، بحاجة إلى هذه النشاطات، فالوضع هنا مختلف عن بقية الولايات، لا سيما الغربية منها، التي تُعدّ أكثر انفتاحاً، والتي فيها مكتبات عربية. أما في ألمانيا الشرقية، فكثيرون من الألمان هنا لا يعرفوننا، ولا يعرفون ثقافتنا، وحتى شكل المرأة المحجبة هنا، لا يزال غريباً". ويتابع أن ذلك "لا ينفي وجود منظّمات ومجموعات داعمة للّاجئين، كما أن هناك توجهّاً حكومياً، في إيرفورت مثلاً، لدعم اللغة الأمّ للأطفال، ومنهم العرب".
كتب متنوعة
شمل "معرض الكتاب العربي"، كتباً من مختلف المجالات، كالروايات العربية والعالمية المترجمة إلى العربية، وكتب تنميةٍ بشريةٍ، وكتب تاريخٍ، وكتباً دينية. كما تضمّنت الفعالية محاضرةً عن تاريخ الخط العربي، لفنان الكاليغراف، محمد خير خانم، وذلك على مدى يومَي المعرض، فضلاً عن توقيع رواية "وشمس أطلّت على ديارنا الغريبة"، للكاتبة يارا وهبي، في إطار اليوم الأول للمعرض.
كذلك، كانت هناك مساحة في منتصف قاعة المعرض، مخصصة للأطفال، تضمّنت قصصاً وألعاباً تعليمية لهذه الفئة، وكان هناك إقبال لافت على هذا القسم، من قِبل العديد من الأهالي.
راما صايغ إحدى هؤلاء، إذ قصدت هذا القسم أكثر من مرةٍ عند تجوّلها في المعرض، وتقول لرصيف22: "دائماً ما أشتري كتباً عربيةً عن طريق الإنترنت، لكن يهمّني حقيقةً أن أعرف محتوى الكتاب من الداخل، وصوره، وكل ما يتضمّنه". وتضيف: "لدي طفلان، وُلدا هنا، وأنا حريصة جداً على أن يبقيا على علاقةٍ مع الثقافة واللغة العربيتين، وأبذل مجهوداً فردياً في تعليمهم لغتنا الأم".
وتتابع: "فرحت كثيراً بهذا المعرض، وأتمنّى أن يتمّ تنظيمه بشكلٍ دوري، وأن تكون هذه المنطقة منتعشةً بهكذا فعاليات مهمة ومفيدة بالنسبة إلينا، فنحن افتقدنا الكثير من الأمور هنا، فناهيك عن العلاقات الاجتماعية، افتقدنا مسألة الارتباط بتاريخنا، وانقطعت سلسلة التعلّم المرتبطة بتطوير ثقافتنا وهويتنا".
ويؤكد رسلان، أن "قسم الأطفال أكثر ما توقّف عنده قاصدو المعرض، بينما اصطحب بعض الأهالي أطفالهم، بحثاً عن كتبٍ مناسبةٍ لهم، خصوصاً أنه ليست هناك جهات رسمية أو مدارس لتعليم اللغة العربية، فالناس يبذلون مجهوداً ذاتياً لكي ينمّوا لدى أولادهم الارتباط باللغة العربية". ويشير إلى عاملٍ آخر مهم برأيه، يدفع شريحةً واسعةً من العرب هنا، ولا سيما السوريين، لتعليم أبنائهم اللغة العربية، وهو العامل الديني، "فاللغة العربية هي لغة القرآن، وهناك أكراد مثلاً حريصون على تعليم أبنائهم اللغة العربية، بسبب هذا العامل".
من جهتها، تلفت قمر الدويري، وهي إحدى منظِّمات "معرض الكتاب العربي"، في حديث إلى رصيف22، إلى أن "اللغة حالياً تُبنى عند الطفل بشكلٍ أساسيٍّ من خلال تواصله مع أهله، وهو لا يدرس لغةً فصحى صحيحةً، بما يمكّنه من استخدامها بشكلٍ مضبوطٍ لاحقاً. لذا، تلعب الكتب دوراً مهماً هنا، فعبرها يعزّز الأهالي لغة أبنائهم بشكلٍ علميٍّ بعيد عن الركاكة".
وتضيف: "لا مهرب من تعليم أطفالنا اللغة العربية، فهي في النهاية جسر تواصلٍ بين الأهل وأبنائهم، ومهما بلغ مستوى الأهل في اللغة الألمانية، فبالتأكيد سيظلّ هناك قصور ما، ولن يتمكّنوا من التحدّث بطلاقةٍ مع أبنائهم الذين ينشأون هنا. وتالياً، لإبقاء جسر التواصل هذا، لا مجال إلا لتعليم الأهل لغتهم لأبنائهم".
اهتمام بالكتاب الورقيّ
على الرغم من أن العالم يتّجه نحو الكتاب الإلكتروني، إلا أنّه "من خلال ما لمسناه، فإن القارئ العربي، لا يزال يحبّ رؤية الكتاب، وتصفّحه، والاطّلاع على عناوينه بشكلٍ مباشر"، حسب ما يقول محمد راشد حموش، مؤسس "مكتبة العرب في ألمانيا"، التي زوّدت "معرض الكتاب العربي" في إيرفورت بالكتب.
ولا ينكر حموش في حديث إلى رصيف22، تأثير التكنولوجيا على الكتاب الورقيّ، فكتابٌ بصيغة "PDF"، هو "أرخص وأسرع انتشاراً، وربما عملي أكثر لبعض الفئات، لكن دائماً محبّي القراءة، يفضّلون الكتاب الورقيّ الذي لديه خصوصية بالنسبة إليهم، ولا يستطيعون الاستغناء عنه".
ويشير نادر رسلان بدوره، إلى أن "هناك حاجةً كبيرةً عند الناس، وخصوصاً العرب هنا، لرؤية الكتب ولمسها". وهو ما يؤكده محمد، أحد المشاركين في المعرض، الذي يقول إنه يحبّ الاحتفاظ بالكتاب الذي يقرأه كصيغةٍ ورقيةٍ، وقد زاد تعلّقه في هذا الأمر "هنا في ألمانيا، ربما بسبب أن الكتب العربية ليست في متناول اليد، كما هو الحال في بلادنا"، وفق قوله.
شمل "معرض الكتاب العربي"، كتباً من مختلف المجالات، كالروايات العربية والعالمية المترجمة إلى العربية، وكتب تنميةٍ بشريةٍ، وكتب تاريخٍ، وكتباً دينية.
ارتباط عاطفي
كان ملاحظاً في معرض إيرفورت، طغيان فئة الشباب على المشاركين، وهو ما يراه المنظّمون "يعكس اهتماماً لدى الشباب بلغتهم وثقافتهم، ويؤكد أنهم لم ينسلخوا بعدُ عن هذه الثقافة، على الرغم من أن كثيرين منهم كانوا في أعمارٍ صغيرة عندما وصلوا إلى ألمانيا".
في السياق، تؤكد إحدى زائرات المعرض، وتُدعى آية، أنها قصدت المعرض لأنها تفتقد إلى حضور فعاليات عربية يمكنها التفاعل معها، فحسب، أكثر من مسألة شراء كتبٍ بعينها. "فلو كان هذا المعرض في بلدي الأمّ، ربما لما كنت قد زرته، لأن هكذا فعاليات تتكرر، والكتب متاحة"، حسب قولها. وتختم: "المسألة عاطفية أكثر من أيّ شيء آخر".
وهو ما تذهب إليه قمر الدويري، التي ترى أن "الفرق بين زيارة المعرض هنا، وزيارته في بلادنا، هو أنك هنا تزور وطناً وتاريخاً وثقافةً تنتمي ويشدّك حنينك إليها، فالمسألة ليست محصورةً بالكتاب واللغة فحسب. هناك جانب عاطفي لا يمكن الاستهانة به، أو إسقاطه".
معارض متنقّلة
ليس "معرض الكتاب العربي" في إيرفورت، هو الأول من نوعه في ألمانيا، إذ إن "مكتبة العرب في ألمانيا"، تنظّم منذ عام 2017، معارض في مختلف المدن الألمانية، وكذلك في مدنٍ أوروبيةٍ أخرى. ويقول محمد حموش، مؤسس المكتبة، التي تفتح أبوابها في جميع أيام الأسبوع في مدينة إيسن، إن مكتبته "نظّمت منذ 2017 نحو 75 معرضاً داخل ألمانيا، وخارجها. فقد نظّمنا معارض في باريس وفيينا، وفي أنتويرب في بلجيكا، وفي ثلاث مدن في هولندا وغيرها".
ويشير حموش إلى أن "تجربة معرض الكتاب ناجحة جداً بالنسبة إلينا، وقد لمسنا من خلالها أنه ليس من السهل على العربي الانسلاخ عن ثقافته وعاداته ولغته، وهو يحاول اليوم ترسيخ هذه الأمور عند أبنائه".
وبالنسبة إلى المعرض الأخير، يقول: "نظراً لمدينة صغيرةٍ كإيرفورت، حققنا نسبة مبيعات مقبولة جداً، وهذا يدلّ على اهتمامٍ لدى القاطنين هناك بالكتاب العربي، وهو الأمر الذي لمسناه في جميع المدن التي نظّمنا فيها معارض، ولذلك سنحاول ألا نغيب كثيراً، بحيث نعود بعد أشهر إلى المدينة نفسها، حتى يبقى الناس محافظين على هذا الشغف".
وفي الإطار نفسه، يقول نادر رسلان، إنه "من خلال ردّة الفعل تجاه المعرض، فهمت مدى حاجة المجتمع الموجود هنا إلى هكذا فعاليات، ولمسنا مدى النقص الموجود عند الناس في هذا الجانب. وحسب تقييمنا، الخطوة تستحق التكرار، وكذلك التطوير".