ترعرع الجزائريون على فكرة أن الحديقة هي للنزهة، ودار الثقافة للنشاط الثقافي، والمكتبة للمطالعة، والمقهى هو ذلك الحيز الصغير حيث نرتشف فنجان قهوة "ثقيلة"، لكن في السنوات الأخيرة، كسر مثقفون الصورة النمطية، وأطلقوا مبادرات ثقافية تهدف إلى زرع حب المطالعة والقراءة لدى أبناء هذا الجيل، وتكرار سيناريو المقاهي الثقافية التي كانت منتشرة في العقود الأولى من القرن العشرين.
مقاهٍ وروّاد وأسماء لامعة
ومن المقاهي الثقافية الشهيرة في الجزائر مقهى "النجمة" في محافظة قسنطينة، ومقهى "طانطنفيل" وسط العاصمة الجزائرية، الذي كان جامعاً للفنانين والمثقفين، ومقهى "مالاكوف" ومقهى "اللوتس" الذي يعتبر ذاكرة حية شاهدة على مختلف الحقبات التاريخية التي عاشتها المنطقة، وفي هذا الفضاء الضيق كانت تلتئم النخبة التي كانت تكتب باللغة العربية، وكان هذا المكان يجمع أيضاً السياسيين والأساتذة الجامعيين الذين كانوا يمثلون أوزاناً ثقيلة وفاعلة في الساحة الشعرية والنقدية منهم: الروائي الطاهر وطار والروائي عبد الحميد بن هدوقة والباحث الأنثروبولوجي والإعلامي الرحالة الطاهر بن عائشة، والروائية أحلام مستغانمي، والشعراء والأدباء أزراج عمر وحمري بحري ومصطفى فاسي ومحمد الصالح حرز الله.
وبالقرب من مدخل المقر الرئيسي للجامعة المركزية في قلب العاصمة الجزائرية، كان هناك "لابراس دو لافاك" وهو مقهى وحانة ومطعم، عُرف في فترة الخمسينات بكونه محجاً لأبرز الوجوه الأدبية العالمية المشهورة، من أمثال الفيلسوف والكاتب والروائي ألبير كامو، والشاعر والروائي والسياسي جون عمروش، والكاتب والروائي الفرنسي إيمانويل روبليس، والفيلسوف الفرنسي والأب المؤسس للتفكيكية جاك دريدا، وأخيراً عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو.
ومن الوجوه الأخرى التي تعاقبت على هذا المكان ومنحته حيوية، الشاعر الراحل جمال عمراني، الذي نشر بحلول عام 1960 كتابة الأول باللغة الفرنسية بعنوان "الشاهد"، ومن الأسماء اللامعة التي كانت لا تفارق هذا الفضاء زهرة رابحي المعروفة باسمها المستعار صافية كتو، أول كاتبة جزائرية ولجت عالم الخيال المدون باللغة الفرنسية بمجموعتها القصصية "الكوكب البنفسجي" الصادرة عن دار نشر خارج الوطن، وكانت من بين الأسماء التي ذاع صيتها في الحقل الإعلامي، إذ اشتغلت في الإذاعة ووكالة الأنباء الجزائرية وكتبت في جرائد ناطقة باللغة الفرنسية مثل "لوريزون" و"أفريك أزي".
ومن الأسماء الأخرى التي كانت تبقى فيه لساعات طويلة من الزمن مولود معمري، الروائي الجزائري والباحث في اللسانيات الأمازيغية، كذلك الشاعر والروائي والإعلامي الجزائري الراحل الذي اغتيل إبان العشرية السوداء الطاهر جاووت، ومحمد خدة أحد مؤسسي فن الرسم الجزائري المعاصر.
وها هي اليوم شخصيات أدبية جزائرية مشهورة تنفض عن نفسها رماد اليأس، لتعيد من خلال مبادرات متفرقة الحركية للساحة الثقافية. فهل ستنجح؟
مقهى "البهجة الفني والأدبي" في مدينة تقرت الملقبة بجوهرة الواحات وعروس وادي ريغ، جنوب شرقي الجزائر، واحد من المقاهي التي يراهن عليها أصحابه ليصبح فضاءً يلتقي فيه روّاد العمل الثقافي، والاشتغال على مختلف الفنون والانفتاح على مختلف الوجوه.
"مكتبة في كل مقهى"
يقول محمد الأخضر سعداوي، وهو دكتور في الأدب العربي وشاعر وكاتب صحافي صاحب مشروع "مكتبة في كل مقهى" لـ"النهار العربي": "الفكرة جاءت من منطلق انعدام الهياكل الثقافية في المدينة منذ سنوات، رغم الزخم الإبداعي فيها، فأهل الفن والإبداع يفتقدون أربعة جدران تجمع شملهم".
ويضيف: "بالإضافة إلى ذلك ثمة رغبة في خروج المثقف والفعل الثقافي من نخبويته إلى المجتمع، فاكتفاء المثقفين بممارسة الفعل الثقافي داخل المؤسسة الثقافية دون غيرها جعلهم يقتنعون بأن الثقافة سمكة لا تستطيع التنفس خارج أسوار تلك المؤسسة، وهو ما جعل فئة من المبدعين تنزوي وتبتعد من الأضواء، وجعل نسبة كبيرة من الجمهور تفقد شهيد الحضور للنشاط الثقافي، خصوصاً مع ما يشهده العصر من تطور تكنولوجي وفر بدائل وفضاءات جديدة كالنشر السريع في مختلف المنصات والوصول في ثوان إلى ملايين المتابعين، هذا وغيره زهّد الكثيرين في النشاط الثقافي المؤسساتي الذي للأسف لم يخطُ بعد خطوات جادة نحو مواكبة التطور الذي نعيشه".
رافد للنشاط الرسمي
نشاط كهذا، يقول عنه محمد الأخضر سعداوي، إنه "ليس منافساً لنشاط المؤسسة الرسمية ولا متجاوزاً لها ولا بديلاً منها، بل هو رافد من روافدها التي يجب أن تتضافر جميعها لتشكل نهر الحياة الثقافية في المجتمع، فتسمو النفوس ويرقى السلوك ويترسخ مفهوم المواطنة الإيجابي".
ويصبو سعداوي لأن تتجاوز فكرته الجلسات الشفوية التي تجمع أهل الفن، لتصبح هذه المقاهي مكاناً للمطالعة وتصفح الكتب وحتى الاختلاء فيها من أجل الكتابة رغم صعوبة المهمة، ويقول: "لقد وصلنا حالياً إلى 11 مكتبة عبر مختلف بلديات تقرت بتمويل فردي، إذ يتبرع المشاركون بالكتب التي تبقى لمصلحة قراء المقهى".
التهميش والتقصير المادي
ويقول المسرحي الجزائري بوتشيش بوحجر، الذي سبق أن أطلق مقهى ثقافياً في مدينة حمام بوحجر، لـ"النهار العربي": "المقهى الثقافي هو ببساطة مشروع ثقافي مواز لمشاريع الدولة، ذو طابع تطوعي جامع للمثقفين في كل منطقة بصرف النظر عن الفضاء الذي سيحتضنه".
ويضيف: "هو مشروع متكامل الغرض منه إعادة الحركية للمشهد الثقافي، رغم الصعوبات والعراقيل التي تعترض طريق هذه المشاريع، مثل التهميش والتقصير المادي".
لكن تبقى هذه الفضاءات المفتوحة قليلة جداً وغير كافية، لأسباب يذكر منها أستاذ الأدب العربي الدكتور عابد لزرق مشكلة غياب الدعم المادي، لأن ثقافة التسويق الثقافي في الجزائر غائبة تماماً.
وهذا الميدان، بحسب لزرق، هو "آخر هموم المؤسسات الاقتصادية ورجال المال والأعمال، لسبب وحيد، وهو أنه ليس ميداناً ربحياً ونفعياً، فجميع الأنشطة والفعاليات التي تحتضنها هذه الفضاءات وليدة جهود فردية أو جماعية"، الهدف منها تقريب الفعل الثقافي من المجتمع، فهي فضاء يجمع المثقف بالجمهور، كما تسهم في إخراج المثقف من عزلته، لتدمجه في عمل ثقافي تفاعلي وتجعله يحتك بهموم الشارع.
ويضيف: "ولهذه الأسباب يجب على القائمين أو المشرفين على تأسيس مقهى ثقافي التحلي ببعض المبادئ، كالصبر والإيمان المطلق بهذه الفكرة من أجل ضمان ديمومتها واستمراريتها، وهي الميزة التي تفتقدها العديد من المقاهي الثقافية الحديثة النشأة نتيجة أسباب تتعدى العامل المادي وأيضاً التنظيمي إلى عوامل أخرى مرتبطة بالرغبة لدى المثقف الجزائري، فروحه تفتقد روح المبادرة".
المقاهي بين المثقف والسلطة
ويقول لزرق، أستاذ الأدب العربي في جامعة تيسمسيلت، إن "تجربة المقهى الثقافي تطرح إشكالية العلاقة الجدلية بين المثقف والسلطة، فالعلاقة بينهما يمكن وصفها بالشائكة والمعقدة لأسباب عدة، أهمها أن المثقف يبحث دائماً عن حرية الفكر والإبداع بعيداً من الرقابة، وفي هذه الفضاءات يعثر عما يبحث عنه ولو جزئياً لأنها تخلو من الطابع الرسمي، عكس المؤسسات الثقافية الحكومية التي تركن إلى النسقية ورسم الحدود، وهي تعمل وفق برامج مسطرة وتوجهات لا تستطيع الحياد عنها ولو بشبر واحد".
ورغم العراقيل والصعوبات، تشهد الجزائر بحسب لزرق بعض الحركية الثقافية وعودة تدريجية إلى فكرة المقاهي الثقافية، بخاصة مع بروز أنماط تعبير جديدة وظهور مواقع التواصل الاجتماعي التي حررت الفعل الثقافي ونقلته من طابعه التقليدي إلى نشاط تفاعلي، وأيضاً ببروز نشاط شبكي شبابي عبر منتديات إلكترونية تحفز على المطالعة والقراءة من خلال استغلال مواقع التواصل الاجتماعي.