لا شكّ في أن كل التحديات التي عرفها المسرح العربي انضافت إليها تحدياتٌ أخرى، وبشكل أكثر حدّة مع ظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما زاده غربة وانعزالًا، لاسيما وأن مسرحنا العربي كان يفتقر دائمًا إلى العمق المسرحي الذي يلهمه ويسدده ويرسم له نفس خارطة الطريق التي رسمها الشعر العربي من قبل للشعراء فجعل لهم علامات وعمودًا به يهتدون.
من المُسلَّم به أن الفن المسرحي إذا لم ينبثق من ذواتنا وإشكالاتنا فإنه سيعيش وهْم الإبداع، وسيلاحظ الممثل والمتفرّج على السواء أن في العرض خللًا، وأنه لم يحقق الهدف المنشود، وبالأولى لم يحرك الشخصية الثقافية ولا الذائقة الفنية التي كان من المفروض أن يحركها ويؤثر فيها.
إن هذا النشاز الذي يحسّه المتلقي العربي أثناء العرض المسرحي مردّه إلى مجموعة من العوامل يمكن إجمالها بالأساس في غياب الرؤية المؤطرة للعمل المسرحي كتابةً وأداءً، ذلك بأن الرؤية هي التي تنطلق من العمق الثقافي للمجتمع، وبناء عليه تتحدد الغايات المتوخَّاة من العمل المسرحي، وبالمثل تتأسس المفاهيم المجددة والمحافظة على الشخصية الثقافية في نفس الآن.
يُسْلمنا الخلل السابق إلى لاحقه الذي يتجلى في افتقار الفعل المسرحي إلى تحديد الصلة بالوجود والأشياءِ والعالمِ والثقافةِ، حتى إنْ اعترض علينا معترض بأن ثقافة الإنسان العربي نتاج واحد، صرنا إلى تذكيره بأن الإشكال كان في طبيعة صلتنا بها اندماجًا معها أو انسلاخًا.
يزداد هذا الخلل اتساعًا حين يحيد العمل المسرحي عن طبيعته الفنية، فيصبح مقاولة تخدم الغرض السياحي والهدف التجاري بعيدًا عن كل اعتبار للفنّ في علاقته بالقيمة الرافعة.
أمام كل هذه الهموم تزداد هموم أخرى إلى المسرح عامة وإلى المسرح العربي خاصة بظهور الذكاء الاصطناعي، الذي يبدو أنه يسعى حثيثًا لتأسيس صورة جديدة للمسرح لم نعهدها من قبل، وهذا سيجعل كل المسرح الإنساني في دُوامة شديدة بغض النظر عن كونه عربيًا أم لا، ذلك بأن الخطر سيضحي أكبر حين يهدد هذا الذكاء الوجود البشري من أصله فضلًا عن فنّه.
إن الأصل في الفن أنه انعكاس لنظام الكون دون بحث منه في مقاييس هذا النظام وقوانينه كما يفعل العلم الذي يسعى إلى اكتشاف القواعد والمعايير، ولذلك حتى إذا تدخّل الذكاء الاصطناعي في إنتاج الفنون ومنها المسرح، فسينتجها على طريقة العلم لا على طريقة الفن، وهنا نقطة الارتكاز التي على أساسها ينبغي أن نميز بين الفن باعتباره إبداعًا إنسانيًا وبين(الفن) باعتباره حرفة وإنتاجًا اصطناعيًا، وحتى مصطلح تقنية (TECHNO) يحيل في المعاجم الغربية وفي اللسان اليوناني خاصة على معنى الحرفة التي إن انفتحت على معنى الفن، فإن انفتاحها عليه هو انفتاح آلة على سَنَن العلم الذي يُعنى بالكمّ والعلاقات والتركيب، وليس انفتاح آية على سبيل الفن الذي يُعنى بالمعنى والأشواق والأذواق.
وبالتالي يكون الفن إشارة إلى عالم آخر يختلف عن العالم الذي يعقله العقل الاصطناعي والآلي إلى درجة ادعائي أنه لولا وجود منظومة أخرى مغايرة في مبادئها لمنظومة العالم المادي لما وجد الفن، وإلا لِمَ اختلفت شخصية فيتغنشتاين (LUDWIG WITTGENSTEIN) العلمية والحسابية عن شخصيته الفنية والشعرية؟، وأكيد أنه لم يختر أن يبيع روحه للشيطان كما باع فاوست (FAUST) بطل مسرحية غوته (GOETHE).
إذا كانت الآلة امتدادًا لحواس الإنسان وجوارحه بحيث وسّعت مجالات سمعه وبصره ولمسه وشمّه وذوقه، كما قوّت عضلاته فجعلته قادرًا على ما لم يكن يستطيعه من قبل، كما أنه إذا كان الذكاء الاصطناعي امتدادًا لعقل الإنسان بحيث وسّع أفعال عقله ذكاءً وسرعة بما لم يكن يخطر على باله من قبلُ، فإنّ السؤال الملح هو، ماهي الأداة أو الوسيلة التي يمكن اعتبارها امتدادًا للروح، ما دامت الآلة قد اختصت بتمديد الجوارح والعضلات، وما دام الذكاء الاصطناعي قد اختص بتمديد العقل وما في الذهن من قدرات، ليكون الجواب أن أهم شيء في الإنسان لم يتوسع ولم يتمدد، لا بفعل الآلة المختصة بالحواس، ولا بفعل الذكاء الاصطناعي الخاص بالعقل، هذا إن لم تكن هاتان الأداتان قد أضرّتا بمجال الروح؛ نظرًا لحجبها عن مجالها، وإدخالها الإنسان بسبب قوة تقنيتها في غيبوبة الانبهار وفي سطوة الاغترار، فنسي روحه، وظن أنه حيوان ينتمي إلى الطبيعة باعتباره حيوانًا كاملًا.
هنا تأتي الفنون لتُذكّر الإنسان بأصله الروحي وبأنه الكائن الحيواني الوحيد الذي يتمرد على حيوانيته في تطلع دائم إلى السماء، فلا تمديد لروحه إلا بمدد من الأخلاق التي هي من جنس عالم الروح، لا من جنس عالم المادة، ولأجل ذلك كانت غاية المسرح الكبرى هي التطهير (CATHARSIS) والعودة بالإنسان إلى صفاء فطرته ونقاء عمقه.
وعليه، فهل للذكاء الاصطناعي غاية روحيّة كالتي كان يقصدها أرسطو حين تحدث عن التطهير وإثارة عاطفتي الفزع والشفقة لتخليص النفس لا شعوريًا من نزعات الشر والطغيان، وحتى لو ألّف هذا الذكاء مسرحية، فهل سيسعى إلى تحقيق القيمة؟
ثم ما هي الحدود الفاصلة التي ستجعلنا نميّز بين فنّ المسرح والسينما إذا أُطلِق العنان للذكاء الاصطناعي؟
إن المسرح يقوم على الاحتفال والمشاركة في هذا الاحتفال، فهل يمكن تعويض الممثلين والجمهور بالهولوجرام ومشاهد الميتافيرس، أين الاحتكاك إذًا وأين الشعور بالانتماء إلى حس ثقافي مشترك؟، خاصة وأن خشبة المسرح يمكن اعتبارها ثغرًا من ثغور الدفاع عن إبقاء الفضاء العمومي الذي قضى عليه الذكاء الاصطناعي بقولبة البشر داخل غرف رقمية معزولين ومشتِتين لفضائهم العام وحِسهم الثقافي المشترك، وكلٌ يغني على ليلاه.
وإذا افترضنا أنّ الذكاء الاصطناعي (سيحترم) المسرح الذي أَلِفْناه ويدعه وشأنه إلا قليلًا، فإنّه في أحسن الأحوال سيصنع لنا فرعًا جديدًا للمسرح هو المسرح الرقْمي، كما وُجد المسرح الغنائيّ باسم الأوبرا، والمسرح الراقص باسم الباليه، وكما يوجد المسرح الرقْمي باسم الاصطناعيّ.
إن الذكاء الاصطناعي باعتباره نتاج العقل المادي لن تحوجه اللغة أبدًا للتعبير، أما الفن باعتباره تعبيرًا عن روح الإنسان، فإنه في سعي دائم إلى البحث عن وسيلة تعادل الروح.
وبما أن الذكاء الاصطناعي هو وليد العقل المادي، فإنه يسعى إلى الكمال الرياضي (من الرياضيات)، ولذلك وجدنا كل الفلاسفة الماديين يدافعون عن (الطوبيا)، بينما يسعى المسرح في المقابل إلى فضح هذا الكمال الزائف حين يتحدّث عن المأساة الإنسانية عامة وفي المجتمعات المتحضرة خاصة التي بلغت من أسباب الرفاه والغنى، ما يدفع عنها بالمنطق العقلي الاصطناعي كل أنواع التعاسة والمآسي، ولكنها مع ذلك تشعر بالبؤس والقلق والتمزق.
وفي الختام، لا بد من الإشارة إلى أنّ المسرح كان، وما زال، نوعًا من اللغة التي تحايث كل لغة إنسانية، فلما كان المسرح يصور الإنسان ومآسيه وأفراحه، كان يصورها داخل الوجود، فكأنه استجابة لنداء الكينونة كي تعبّر عن نفسها في صورة مسرحية تعتبر صدى للوجود، أما الذكاء الاصطناعي فيدخل في تحدٍ للوجود الأصيل بصناعة وجود وهْمي له سمّاه العالم الافتراضي، وشتان بين الفن الذي يسكن الوجود الأصيل وبين (الفن) الذي يُطرد من هذا الوجود، ليعيش في عالم وهمي، هو دقيق فعلًا، لكنه وجود مزيف ولا يعبّر عن الحقيقة والجوهر.
إنّ المسرحي الحقيقي هو الذي يستطيع أن يعرض الوجود مسرحًا، أي يعرضه على طريقة المسرح، فيرسخنا فيه ويكشف لنا عن جوانبه الخفية التي ينبغي أن نتأملها حتى تثير فينا عاطفة الدهشة والانبهار، أما الذكاء الاصطناعي فيقتلعنا من وجودنا ويطردنا منه ليجعلنا غرباء في عالمه دون ذاكرة ودون تاريخ ودون حِسّ اجتماعي ودون ثقافة.
وإذا كان الفن مسكن الوجود وكان الشعر أرقى الفنون، لزم منه أن يسكن الوجود في الشعر سكنًا لا يستطيعه الذكاء الاصطناعي؛ لأنه أبعد ما يكون عن عالم الشعر وجوهره.
من أجل ذلك على الإنسان أن يكثف شعوره بالوجود حتى يستعيد إحساسه بعالم الشعر، فيشعر بسحر العالم الذي هو علامة على أن الإنسان مَسودٌ فيه ومستأمن ومستخلَف لمن جعله خليفة فيه.