سقف المدارس التي ينظر إليها أولياء الأمور انخفض مع الأزمة الاقتصادية، بارتفاع الأسعار شبه اليومي أو الأسبوعي لسلع أساسية وثبات الرواتب أمامها، انخفضت أمام الطبقة المتوسطة فرص التعليم الجيد، والفصول الواسعة والمدرسين المتخصصين.
ألقت الأزمة الاقتصادية في مصر ظلالها على موسم العودة إلى المدارس، وككل عام يتلفت ولي الأمر حوله ليبحث عن مخرج أو بديل أو جمعية.
مع تزايد الأسعار وارتفاع نسبة التضخم تتزايد الأعباء على الميزانية، فلم تعد البدائل محصورة في تقليل بنود الإنفاق على الـالأدوات المكتبية، والشراء من أماكن أرخص تبيع بأسعار الجملة كمنطقة الفجالة في وسط القاهرة، ولا في خفض حصة “اللانش بوكس” من ساندوتشين إلى واحد، أو إهمال بند الملابس لهذا العام وإعادة تدوير/ تبادل الزي المدرسي بين الأسر تفادياً لشراء ملابس جديدة، بل ظهرت هذا العام طريقة جديدة اتّبعها العديد من أولياء الأمور مرغمين، وهي تحويل انتساب أبنائهم من مدرسة ذات مصروفات أصبحت عبئاً على الميزانية، إلى مدارس أقل في المصاريف، ما يعني عودة الكثير من التلاميذ إلى الدراسة، ولكن إلى مدارس غير مدارسهم ومناهج مختلفة وجودة تعليم أقل.
لماذا يختلف هذا العام عن سابقه؟
بخلاف استمرار الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر والتي بدأت قبل الحرب الروسية الأوكرانية، فإن تداعيات رفع الدعم عن بعض السلع، أثر بشكل كبير على ترتيب أولويات الإنفاق لدى الأسر المصرية.
وفقاً لدراسة أعدها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فإن 74% من الأسر خفضت استهلاكها من السلع الغذائية بسبب زيادة الأسعار بعد حرب روسيا على أوكرانيا، و90% من الأسر خفضت استهلاك البروتين الحيواني، فيما خفضت 74.7% استهلاك الأرز.
كما أن نسبة الفقر اقتربت من 30%، ما يعني أن نحو 30 مليون مصري يقبعون تحت خط الفقر، وتعريف الفقر المدقع هو الاكتفاء بالإنفاق على الطعام والشرب فقط من مجمل مقومات الحياة.
كما احتلت مصر المرتبة الثالثة عالمياً على مؤشر تضخم الغذاء الحقيقي، وهو المؤشر الذي يقيس الفجوة بين معدلات زيادة أسعار الغذاء (السلع الأساسية الأهم) وأسعار السلع الأخرى.
28 مليون طالب بدأوا عامهم الدراسي الجديد في المراحل التعليمية الأساسية الثلاثة، يقدّم لهم التعليم مليون و100 ألف مدرّس، في 71 ألف و800 مدرسة ومعهد أزهري على مستوى مصر كلها.
لذا فالوضع المالي لمئات الآلاف من الأسر المصرية، هو وضع سيئ، مما دفع بالكثيرين من أولياء الأمور إلى نقل أبنائهم إلى مدارس أقل في المصروفات الدراسية، في محاولة لإمساك العصا من الوسط: استمرار تعليم الأبناء وكذلك استمرار توفير وجبة طعام وكتاب وزي مدرسي وإيجار مسكن ووسيلة مواصلات.
يؤكد مصدر في وزارة التربية والتعليم رفض ذكر اسمه ل”درج” أن “أعداد الطلاب المحوّلين من مدارس إلى أخرى خاصة من خاص/ لغات إلى حكومي أو أزهري، كبيرة هذا العام مقارنة بالأعوام السابقة”، ولكنه لا يستطيع أن يقدّم رقماً محدداً، لأن كل إدارة تعليمية تحتفظ بأرقام التحويلات ولا ترفعها إلى الوزارة، فهي إجراءات إدارية بين المديريات التعليمية ليس لمكتب الوزارة يد فيها.
وفي محاولة منها للسيطرة على ارتفاع مصروفات المدارس الخاصة والدولية، أرسلت وزارة التربية والتعليم خطابات إلى المديريات التعليمية لتحديد الزيادات للمدراس وتصنيفها إلى شرائح، فمثلاً المدارس الدولية التي تبدأ مصروفاتها من 30 ألف جنيه حتى 50 ألفاً تزيد مصروفاتها عن العام الماضي 10%، بينما التي تبدأ من 50 ألفاً وحتى 80 ألفاً فالزيادة 8%، والمدارس الخاصة التي تبدأ مصروفاتها من5 آلاف حتى 10 آلاف فالزيادة 20%، ومن 10 آلاف حتى 15 ألفاً فالزيادة 15%، أما التي أقل من 5 آلاف فالزيادة 25%.
بخلاف استمرار الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر والتي بدأت قبل الحرب الروسية الأوكرانية، فإن تداعيات رفع الدعم عن بعض السلع، أثر بشكل كبير على ترتيب أولويات الإنفاق لدى الأسر المصرية.
هل التحويل حل مفيد؟
يحلّ شهر سبتمبر/ أيلول من كل عام على الأسر التي لديها أبناء في مراحل التعليم المختلفة، وهو يحمل لهم قلقاً وعبئاً، فهو يملك بنوداً كثيرة لقائمة الإنفاق، بينما الدخل لم يتغير عن الشهر الذي قبله، بعض الأسر تلجأ إلى حل اجتماعي شهير يُسمى “الجمعية” وهي عبارة عن مجموعة من المعارف والزملاء يقومون بتجميع مبلغ معين كل شهر، ليقبضه كل واحد منهم بالترتيب، بحسب اختياره للشهر الذي سيحتاج فيه المال.
ليس هناك مبلغ محدد للاشتراك في الجمعيات، فهناك جمعيات تبدأ من 100 جنيه في الشهر وأحياناً ألف جنيه، وهناك “جمعيات كبيرة” كما يُطلق عليها منظموها، وتكون بمبالغ تصل إلى 5 آلاف جنيه و10 آلاف في الشهر، تعدّد المبالغ يمنح الحرية للمشترك في أن يختار الجمعية التي يستطيع أن يسدد أقساطها. وهي تصبح بالطبع عبئاً على الدخل الشهري لحين انتهاء أقساطها، التي تصل إلى سنة أو سنتين وأحياناً إلى 6 أشهر فقط. ولكن ولي الأمر أو ربة المنزل ترى أن تقسيم العبء على عدة أشهر أفضل من الاقتراض أو دفع المبلغ مرة واحدة.
لذا، فإن حل الجمعية يقتطع أيضا مبلغاً من الدخل ولمدة شهور طويلة حتى تنتهي أدوار الجمعية، فيصبح شهر سبتمبر/ أيلول فرحة للتلاميذ وحيرة للوالدين، فليست المصروفات أقساطاً مدرسية فقط، إنما لا يزال هناك زي مدرسي جديد وحذاء وكتب خارجية بخلاف مصاريف الانتقال من المدرسة وإليها، سواء بالاشتراك مع وسيلة نقل تابعة للمدرسة أو بالمواصلات العامة التي ارتفعت تعرفاتها عن العام الماضي.
الأرقام الرسمية تنقل واقع هذه الأعباء، فقد ارتفع تضخم أسعار السلع والخدمات في شهر أغسطس/ آب الماضي مقارنة بشهر يوليو/ تموز الماضي بنسبة 1.9%، ومقارنة بأغسطس/ آب العام الماضي فقد ارتفعت الأسعار مسجلة تضخماً بنسبة 25.6%، ويُرجع جهاز التعبئة العامة والإحصاء هذه الارتفاعات إلى ارتفاع أسعار الخضار بنسبة 14.3% عن الشهر الماضي، وخدمات النقل 14.9%… وأيضاً ارتفاع أسعار الأجهزة المنزلية والأسماك والألبان والبيض وكذلك خدمات المستشفيات.
حتى أن خدمة إصلاح الأحذية ارتفعت أسعارها 1.5%، وهذا ينطبق مع ما قالته لنا صفاء السيد التي تعمل في محل تصليحات أحذية مع زوجها في أحد أحياء الجيزة المتوسطة: “الناس بتصلح شنط وأحذية كتير هذا العام، ومع دخول المدارس زاد التصليحات بدال من شراء جديد… فاللي يقدر يتصلح ويتلبس الآباء والأمهات بيعملوا كدة عشان يوفروا فلوس لكتب أو المواصلات لأبنائهم”.
إذا أردنا أن نقارن وبأرقام الحكومة نفسها بين المصاريف على التعليم لهذا العام والعام الماضي، فسنجد أن بيان التضخم الذي أصدره جهاز التعبئة العامة والإحصاء يشير إلى زيادة 12.3% بسبب ارتفاع أسعار التعليم الأساسي وما قبله بنسبة 10.2%، والتعليم الثانوي والفني بنسبة 6.5%، أما التعليم بعد الثانوي والمعاهد الفنية فزادت بنسبة 6.9%، والتعليم العالي سجل ارتفاعاً بنسبة 32.5%.
داليا موسى وهي محامية وأم لطفلين توأمين هما علي وورد، في الصف الرابع الابتدائي، تقول ل”درج”: “كانوا مع بعض في مدرسة خاصة ناشيونال، المصروفات لكل واحد فيهم 20 ألف جنيه غير مصاريف الباص.. فاضطرينا مع زيادة الأسعار من سنتين أن ننقلهم لمدرسة حكومي، وفعلاً عملنا كدة السنة دي وحولناهم لمدرسة قومية مصاريفها أقل تقريباً النصف، بادفع للاتنين 21 ألف جنيه، كما أن المكان أقرب فالمواصلات أرخص من المدرسة الناشيونال”.
أيضا سامية مبروك وهي أم لثلاثة أطفال في مرحلة التعليم الأساسي، تقول إنها وزوجها قررا تحويل دراسة الأبناء من مدرسة خاصة إلى مدرسة حكومة، وتقول ل”درج”: “الأسعار كل شوية بتزيد والمرتب كما هو… فنقلنا البنتين من المدرسة الخاصة التي كانت مصاريفها 7 آلاف جنيه بدون اشتراك الباص، بينما المصاريف لكل منهما 350 جنيها في العام… وأدخلنا الصغير معهما في مرحلة رياض الأطفال منذ البداية، ودفعنا له 500 جنيه رسوم لأن كتبه مختلفة عن مرحلة ابتدائي”، وتضيف أن “مستوى المدرسة الحكومية أقل من ناحية تخصص المدرسين، ففي المدرسة التجريبي والخاص يكون المدرس متخصصاً في تدريس مادته للأولاد، بينما في الحكومي من الممكن جداً أن نجد مدرس لغة عربية يشرح دروس الدراسات الاجتماعية الذي هو غير تخصصه”.
الدروس الخصوصية تلتهم التوفير
وعلى الرغم من أن داليا وفرت ما يقرب من نصف المصروفات بنقل الأبناء من مدرسة خاصة إلى حكومية، إلا أنها ستضطر إلى دفع ما وفرته في بند الدروس الخصوصية، وتضيف ل”درج”: “الأعوام السابقة لم يكن الأولاد يحتاجون دروساً خصوصية، لأن المدرسة كان مستواها ممتازاً ولكنني مع هذا العام سأحتاج إلى دروس خصوصية، خاصة وأن الصف الرابع الابتدائي ثقيل وصعب متابعته مع المدرسة فقط، على الأقل في اللغة الأجنبية والرياضيات باللغة الإنجليزية… فاللي وفرناه هيروح للدروس”.
مع تطوير المناهج الذي أقرته وزارة التربية والتعليم منذ 5 سنوات أصبح منهج الصف الرابع الابتدائي يتطلب أبحاثاً يقوم بها التلميذ بشكل شبه أسبوعي، كما أن المناهج أصبحت كثيفة، لذا فالصف الرابع يعتبره أولياء الأمور من أثقل السنوات التي يتلقى فيها أبناؤهم التعليم، فيلجأ كثيرون إلى الدروس الخصوصية في هذه السنة الدراسية، ليس لصعوبة المنهج بل لكثرة الأبحاث المطلوبة والمصطلحات الجديدة على تلميذ منقول من الصف الثالث بتعليم بسيط يمكن تحصيله بسهولة.
سامية أم جيداء وردينة ومازن قالت ل”درج” إن “ضعف مستوى المدرسة الحكومية سيجعلها تلجأ للدروس الخصوصية، وهو أمر وارد مع تدرج الأبناء في الصفوف الدراسية وصعوبة المناهج كلما كبروا”، وتضيف: “في المدارس الخاصة والتجريبي أسعار الدروس مرتفعة، فمثلاً الحصة ب150 جنيهاً لطفلين حيث ينقسم المبلغ عليهما، ولو أن هناك مجموعة كبيرة من 15 طالب يصبح الاشتراك الشهري لأربع حصص ب 120 جنيهاً”.
لا يعني أن الطالب في المدرسة الخاصة لا يحتاج إلى دروس خصوصية، فحسب ما قالته سامية فإن “التعليم في مصر كله محتاج دروس”، فالدروس الخصوصية تساعد على المراجعة وتثبيت المعلومات، فزمن الحصة في المدرسة لا يتيح للمعلم أن يؤكد الشرح أو يحل التدريبات أو يشرح بعض النقاط باستفاضة، فينتظر التلميذ الحصة الخصوصية مع عدد تلاميذ أقل ليستطيع أن يسأل ويفهم أكثر، كما أن أغلب التلاميذ في المدارس الخاصة والحكومية يفتقرون إلى مهارات القراءة والكتابة باللغة العربية، لأن هذه المهارة تختلف من طفل إلى آخر، وتحتاج متابعة من المدرس الذي يؤسس لكل طفل على حدة، سامية تقول إنها لجأت إلى مدرّس اللغة العربية ليؤسس ابنتيها في القراءة والكتابة بجانب المنهج الأساسي لعامهم الدراسي الجديد.
تُنفق الأسر المصرية على بنود التعليم 5200 جنيه سنوياً، وهذا الرقم هو متوسط إنفاق الأسر على مستوى مصر، أي أنه سيكون أكثر أو أقل لأغلب الأسر، ويأتي بند الدروس الخصوصية ومجموعات التقوية ليستولي على 38% من هذا المبلغ، أي أنه أكبر بند يستنزف ولي الأمر طوال العام، يليه الإنفاق على الكتب والأدوات بنسبة 14% ثم 10% للمواصلات والنقل عامة.
في دستور عام 1923 أقرت الدولة المصرية مجانية التعليم في المادة رقم 19، وبدأ العمل بها في العام الدراسي 1943/1944، ومع تولي عميد الأدي العربي طه حسين أعمال وزارة المعارف في 1951 تم إتاحة التعليم المجاني للتعليم الثانوي والفني أيضاً، وكان هذا شرطه لقبول المنصب.
أما الآن وبعد 90 عاماً على هذا القرار، يبدو أن مجانية التعليم انقرضت على أرض الواقع، بل وتضاءل حلم الالتحاق بالمدارس الخاصة أمام أولياء الأمور.
منذ أن انتشرت المدارس الدولية البريطانية والأميركية والألمانية، والقسم الأعظم من أولياء الأمور يعتبرونها مدارس للنخبة، وتمثل شريحة رقيقة من المجتمع، ولا يقدر على مصروفاتها إلا طبقة معينة، حيث أنها تكون بالدولار أو بما يساوي مئات الآلاف من الجنيهات.
أما الآن، فسقف المدارس التي ينظر إليها أولياء الأمور انخفض مع الأزمة الاقتصادية، بارتفاع الأسعار شبه اليومي أو الأسبوعي لسلع أساسية وثبات الرواتب أمامها، انخفضت أمام الطبقة المتوسطة فرص التعليم الجيد، والفصول الواسعة والمدرسين المتخصصين.