تخطي إلى المحتوى
حتى لا نقتل أفكار مالك بن نبي حتى لا نقتل أفكار مالك بن نبي > حتى لا نقتل أفكار مالك بن نبي

حتى لا نقتل أفكار مالك بن نبي

لقد فكرت أن أعود إلى الكتابة عن مالك بن نبي لسببين: الأول هو دخول الطبعة الثانية من كتاب: “وثائق مالك بن نبي في الأرشيف الوطني الفرنسي” للباحثين علاوة عمارة ورياض شروانة التي صدرت عن “دار الفكر” ببيروت إلى الجزائر، والثاني هو تصريح رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم في إحدى مقابلاته الإعلامية (قناة الجزيرة: برنامج المقابلة) أن مالك بن نبي كان من الشخصيات التي تأثر بها في تكوينه الفكري.

لكن ما أكتبه للقراء اليوم ليس تعريفا أو تقديما لفيلسوف الحضارة، ولكنه تساؤلٌ عن المفارقة الكبيرة بين الاهتمام بأفكاره على المستوى الأكاديمي، واستدعائه في السنوات الأخيرة كرمز فكري في وسائل التواصل الاجتماعي تفكك من خلال كتاباته مسألة التخلف، وبين غياب المشاريع الحقيقية التي تنطلق من الرؤى التي عبّر عنها، وتنقلها من عالم الأفكار المجردة إلى الواقع العملي، وهو ما يذكّرنا بمقولات له حول الصنمية، وانعدام الفاعلية، وموت الأفكار، فهل يمكن الاستناد إلى بن نبي ذاته لتقديم رؤية عن سيرورة أفكاره؟

اهتمامٌ لافت

يلاحَظ في السنوات الأخيرة أن أفكار مالك بن نبي تحتل مساحة هامة في الأبحاث الأكاديمية في مختلف التخصصات (الفلسفة، علم الاجتماع، التاريخ…) وقد طُرحت أفكاره كإشكاليات بحثية في رسائل الدكتوراه، ومذكرات الماستر والليسانس، أما في المقالات العلمية في المجلات الجزائرية المحكّمة فإن إطلالة سريعة على موقع المنصة الوطنية للمجلات على شبكة الأنترنت توضح العدد الكبير من المقالات التي تصدر كل سنة عنه، ويضاف إلى هذا الاهتمام الوطني اهتمامٌ عربي أيضا؛ يدل عليه أن مجلة بحثية عريقة مثل: “الفكر الإسلامي المعاصر” التي يصدرها “المعهد العالمي للفكر الإسلامي” قد خصصت العدد: 104 لشهر ديسمبر 2022 لهذا المفكر الجزائري المميز.

لم يتوقف استرجاع بن نبي في ساحة الجدل الفكري على الجامعة والنخب الأكاديمية؛ بل تعداه إلى المجتمع بمختلف شرائحه، وقد أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي إسهاما كبيرا في هذا الحضور، ويمكننا القول إن بن نبي أصبح اليوم من أكثر الشخصيات الجزائرية المفكرة حضورا لدى قطاع كبير من الشباب المهتمّ بعوالم الفكر والثقافة، وصورته تغمر العالم الرقمي، وأقواله تتكرر كثيرا باعتبارها حكما ونتائج موثوقة في تشخيص عوامل التخلف، وإيضاح مشكلات الحضارة، ووضع اليد على مكامن الضعف ومقومات القوة وممكنات النهوض، ومع أن هذه العوالم الرقمية في بعض الأحيان تنسب إلى بن نبي أقوالا لم يكتبها، أو تقدِّم فكره بطريقة انتقائية في سياق سجالات إيديولوجية؛ إلا أن الأكيد هو أن هذا العلم الجزائري صار رقما فاعلا في بناء الأفكار.

هل انتقلنا إلى اجترار التنظير؟

يلاحَظ على الأعمال التي تهتم ببن نبي أنها قد جنحت في المدة الأخيرة إلى نوع من التكرار والاجترار، وعجزت عن إبداع طرق جديدة في تسويق أفكاره لتمارس دورها الوظيفي وفعاليتها الواقعية، ويمكن القول باطمئنان إن ما يسمى “البحوث العلمية” و”الكتابات الأكاديمية” أصبحت تعيد نفسها، وهذا الأمر لا يقتصر على أفكار بن نبي فقط؛ بل إنه حالة عامة تدل على غياب الإبداع وتراجع مستوى المنجز في ميادين العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، ولذلك يبدو أن تحذير بن نبي من فقدان الفعالية قد مسَّت أفكاره ذاتها، وأن تحذيره من تصنيم الأشخاص وإعلاء عالمهم على عالم الأفكار قد بلغ إلى شخصه أيضا، بسبب حالة الإغراق في التحديد المفاهيمي الذي لم يصاحبه مشروعٌ واضح يبلور أفكار بن نبي لتمارس دورها.

يمكننا في هذا السياق أن نعدّ الأعمال التي قدمت نظرية مالك بن نبي حول فلسفة التاريخ، فسنجد أنها كثيرة ومكرَّرة، إذ لم يعد الجديد -في الأعمّ الأغلب-يقدِّم إضافة للقديم؛ وكل الثلاثيات المميزة التي أسس نظريته عليها يعاد تدويرها باستمرار، بينما يتباين التركيز على زاوية من الزوايا بحسب مشكلة البحث: (ثلاثية: الروح والعقل والغريزة، ثلاثية: الأفكار والأشخاص والأشياء، ثلاثية: غار حراء، صفين، الموحدين)، لكن هذا التنظير لم يصاحبه العمل على تأسيس طرح يعيد الأمة والمجتمعَ إلى الدورة الحضارية، أي أن فكرة الفعالية المفقودة التي حدّدها مالك بن نبي كتمظهُرٍ لانهيار المجتمعات وانسحابها من حلبة التدافع لم تعالَج بصورة واقعية ليعاد تأهيل الطاقات المهدَرة في البناء الحضاري، وهكذا لا نجد الاشتغال على ثلاثية: القلق، الخوف، الشعور بالخطر؛ التي أبرز في كتابه: تأملات (والنص في الأصل محاضرة ألقاها في بيروت سنة: 1959) أنها المقدمة الضرورية التي تُخرج المجتمع من حالة الركود والكساد التي يواكبها استقرارٌ نفسي خادع لا يستوعب الواجبات التي تناط بالأفراد والمجتمعات في حالات الأفول الحضاري، وتستسلم لمسار التاريخ دون أن أي تفكير في التدخل فيه لتوجيهه لصالحها، بل العكس هو الذي يلاحظ في كثير من الأحيان؛ أي أن هناك نفخا مبالغا فيه في الإنجاز المتشكِّل في الماضي في محاولة لتجاوز الهوة الحضارية الكبيرة والتي تتسع كل يوم بين العالمين المتقدم والمتخلف.

إن الفرار إلى الماضي هو تعبيرٌ عن عدم امتلاك أدوات المنافسة في الحاضر، كما أنه -لو أحسنا استثماره- يصبح منطلقا لبناء النهضة عندما يكون استدعاء لما يسميه بن نبي “الأفكار الحية” وإعادة تأهيلها بحسب السياقات الجديدة، واستغلال انتسابها إلى منظومتنا المعرفية وإنتاجها ضمن العقل الإسلامي لأجل علاج بعض أمراضنا التي لا تنفع معها الحلول المستورَدة التي جنت على أمتنا، فهل عجزنا في هذه الحالة عن استدعاء أدوية بن نبي بينما استغرقنا الاشتغال على تنظيراته في تحديد عوامل النكوص؟ وعندما أدركنا الأدوية المقترَحة وفهمنا منطقيتها وصواب ملاحظاته فيها، فلماذا لم تتحول هذه الأفكار إلى واقع عملي واستمرت رؤية تنظيرية جافة حتى كأنها أفكارٌ ميتة يجترها المشتغلون على هذه القامة العلمية المتفردة؟ نحن في هذه الحالة نقتل أفكار مالك بن نبي حتى ونحن ندّعي إحياءها واستدعاءها.

إعلاءُ الفكرة ورفض التصنيم

القضية الثانية التي صارت تلاحَظ في الدراسات التي تتناول فكر مالك بن نبي أنها في كثير من الأحيان تتجاوز أهم أداة وظفها في قراءة مشكلات الحضارة، وهي النقد، والنقد هو الذي يسمح دوما بالتصويب والتطوير، بينما يؤدي غيابه إلى التصنيم والتقديس الذي أنكره بن نبي ذاته، وقد نبَّه دوما إلى خطر إعلاء عالم الأشخاص على عالم الأفكار، ومما يدل على ذلك أن صدور كتاب “وثائق مالك بن نبي في الأرشيف الفرنسي” لم يُثر ما كان ينبغي أن يثيره من نقاش عميق يعيد موضعة أفكاره في سياقها التاريخي لحسن فهمها وتوظيفها، والتفريق بين ما كان مزاجا حادا وردود فعل عنيفة، وما كان تنظيرا هادئا ناتجا عن قراءة عميقة، ما يحتم الحفر في جذور الأفكار التي استقى منها بن نبي والتي أثرت فيه، وهو موضوعٌ عالجته بعض الأبحاث واشتغل عليه في الأيام السابقة الدكتور عبد الرزاق بلعقروز في إحدى مقالاته حول حضور الفيلسوف الألماني: نيتشه عند مالك بن نبي، فالفلسفة البنّابية لا تزال في حاجة إلى تفكيك عميق، كما أن السرديات التي خلّفها: (العفن، مذكرات شاهد على القرن، الدفاتر)؛ جاءت الوثائق الأرشيفية لتقدم إيضاحات بالغة الأهمية تسمح بإدراك الفرق بين التاريخ والذاكرة والانطباعات والسرديات، وتسمح للباحث في السيرة الذاتية لبن نبي بفهم مختلف الظروف التي كتب فيها مؤلفاته قبل الاستقلال في ظلها، وهي أداة مهمة جدا في تحليلها.

القضية الثانية التي صارت تلاحَظ في الدراسات التي تتناول فكر مالك بن نبي أنها في كثير من الأحيان تتجاوز أهم أداة وظفها في قراءة مشكلات الحضارة، وهي النقد، والنقد هو الذي يسمح دوما بالتصويب والتطوير، بينما يؤدي غيابه إلى التصنيم والتقديس الذي أنكره بن نبي ذاته، وقد نبَّه دوما إلى خطر إعلاء عالم الأشخاص على عالم الأفكار.

إن مالك بن نبي شخصية استثنائية، وأفكاره تستحق أن تُفعَّل وتُستغلّ، ومن الواجب أن لا نسمح لبن نبي الشخص أن يعلو بن نبي الفكرة، وأن لا نساهم في قتل أفكار رجل عاش يحذر من الأفكار الميتة والمميتة، ولا في تصنيم رجل ناضل ضد الوثنيات والزعامات لصالح ثقافة الواجب، وتحمَّل الكثيرَ من الألم والقهر لكشف مخططات الاستعمار التي تهدف إلى الحفاظ على سبات الشعوب المستضعَفة فلا تنتبه إلى تخلُّفها ولا تطمح إلى تحقيق نهضتها.

المصدر: 
جريدة " الشروق"