بمناسبة الذكرى الثانية لرحيل الأستاذ محمد عدنان سالم ، رحمه الله، نعيد نشر مقالته حكايتي مع الكتاب.
1-حكاية طويلة تستدعي الإبحار إلى عقد الأربعينات الذي تنتمي طفولتي إليه، وفيه بدأت صلتي بالكتاب، وبدأ وعيي الثقافي والفكري يتشكل وينمو.
لم تكن والدتي تكتب أو تقرأ، ولا كان والدي على درجةٍ كبيرة من العلم، ولم يسبقني أخٌ يأخذ بيدي إلى عالم القراءة الفسيح، فأنا الطفل البكر لأبوي.
لكن مناخ القراءة والشغف بطلب العلم والمعرفة، كان يخيم على أسرتي وعلى المجتمع آنذاك، وكـان الشعور السائد لدى الناس كافةً، هو الرغبة في تعويض نقصهم العلمي عن طريق أبنائهم، فكانوا يوفرون لهم كل الشروط الملائمة للقراءة والتحصيل، ويتطلعون إلى غدٍ أفضل على يد الأجيال الصاعدة التي يبنونها.
2-ولن أستنفر ذهني كثيراً، لأتذكر أول كتاب -خارج المنهج الدراسي- قلبت صفحاته وكنت أعود إليه بين الحين والحين، فقد كان كتاب (إحياء علوم الدين للإمام الغزالي) بأجزائه الأربعـة، وحرفه الرديء الذي تتواصل جمله دون تفقير ولاعلامات ترقيم، وتتلاحق كلماته دون تشكيل ولا تهميز.
ربما كان مستغرباً أن يبدأ طفلٌ صلته بالقراءة، بمثل هذا الكتاب، وألا تصرفه رداءة طباعته، ولون ورقه، ومستوى المعلومات فيه عن عالم القراءة والكتاب. وتنقضي الغرابة حين نعـرف أنه كان الكتاب الذي لفت نظري في مكتبة والدي المتواضعة، التي كان فيها إلى جانبه فيه الآجرومية، ومتون وشروح أخرى في النحو والفقه والتفسيرلم أستطع آنذاك أن أوغل في شيء منها.
كان والدي تاجراً، وكان من عادة الناس آنذاك أن يقصدوا مجالس العلم في المساجد، وأن ينتظموا في مجموعات علمية يشرف على كل منها أحد العلماء، يعقدون مجالسها دورياً في بيوتهم. وكان والدي يصطحبني إلى بعض هذه الدروس، وكنا - أطفال الأسرة وأنا - ننتظر بشوق كبير عندما يحين عقد الدرس في منزلنا، وكان الشيخ يخصص لنا وقتاً قبل نهاية الدرس، يستقرئنا فيه بعض ما نحفظ، ويسألنا ويساعدنا على الإجابة، فنشعر بنشوة عارمة، وهو يشركنا بكل تلطف مع تلامذته الكبار.. وكنا ننتظر بفارغ الصبر خاتمة المطـاف: صواني الحلوى الشامية، وزبادي المهلبية، والشاي الأخضر الذي يصنع على عين الشيخ وبإشرافه، ثم نقف في طرف الصف نتلقى من الزوار تحيات الوداع، وآيات الشكر.
لقد شاركنا الكبار في إصغائهم، وأُشركنا معهم في المذاكرة واسترجاع المعلومات.. هل ثمة مناخ للتشجيع على طلب العلم ومدارسته أرقى من هذا المناخ؟
هذا في الأسرة وفي المجتمع خارج المدرسة، أما في المدرسة - سقا الله أيام المدرسة في مراحلهـا الابتدائية والإعدادية - فقد كانت لنا حصصٌ للمطالعة الحرة في مكتبة المدرسة، وحصص للمطالعة الخارجية، يلخص كل منا كتاباً يستعيره ليقرأه، ويناقشه مع المدرس،وكان لذلك كله درجات وشهادات تقدير وجوائز وكنا نعتز بما نناله من هذه الجوائز .
وقد استهوتنا في هذه المرحلة المبكرة كتب المنفلوطي، وكنت كثيراً ما أختار من (النظرات) و(العبرات) جملاً أسجلها في دفتري، لأستخدمها في واجبات (التعبير).
3-وأذكر في بداية المرحلة الإعدادية أن أستاذ الأدب العربي -وكان شيخاً وقوراً لطيفاً ومحبباً - قرأ علينا نصوصاً من كتاب (الكامل) لأبي العباس المُبَرِّد، فأعجبنا أيما إعجاب بمتانة لغتها وقوة بلاغتها، ورحنا نجوب المكتبات بحثاً عن هذا الكتاب، فوجدنا منه عدة طبعات، أثمانها تفوق قدرتنا الشرائية، وخجلنا أن نطالب الأهل بشراء كتاب غير مدرسي، فقررنا أن نؤسس صندوقاً بيننا لشراء الكتب النفيسة، نوفر له من مصروفنا الذي نتقاضـاه من الأهل؛ كان الواحد منا يمشي ليوفر أجور المواصلات ويكف عن شراء الحلوى وما تعود الأطفال أن يشتروه، لنغذي صندوقنا المشترك، الذي ساعدنا في شراء كتب طه حسين ودواوين شوقي وكتب مصطفى صادق الرافعي وأحمد فارس الشدياق وغيرها من الكتب التي تداولناها أيام الدراسة، ثم اقتسمناها قبل أن نفترق.
4-ثم تنامت عندي الرغبة في القراءة، وفي اقتناء الكتب، مع تدرجي في مراحل الدراسة الثانوية والجامعية، ومع اتساع الآفاق الثقافية، في مجتمع كان يمور بالحركة والمناقشـات بين مختلف التيارات الفكرية، وكان ذلك مما يدفع الشباب المثقف آنذاك لتتبع النشاط الفكري، وحركة النقد التي كان يقودها كتاب كبار أمثال الزيات والعقاد والمازني وطه حسين وعلي الطنطاوي.. من خلال مقالاتهم في المجلات التي كان أبرزها، وأكثرها أثراً فينا (مجلة الرسالة)، ومن خلال كتبهم التي كانت تتبارى دور النشر في إصدارها، وكنا نتسابق لاقتنائها، وتنمية مكتباتنا المنزلية بها.
5-مكتبتي الخاصة ليست كبيرة، وعدد العناوين فيها - بين موسوعات ومجموعات أو كتيبات - لا يتجاوز خمسة آلاف عنوان.. ولم يكن ذلك بسبب قلة مشترياتي من الكتب، وإنما كان بسبب إهمالي لفهرستها، وإسرافي في الإعارة منها دون قيود مسجلة، وأنا على الرغم من عدم قناعتي بما يقال من أن آفة المكتبات الإعارة، فإني أنصح باستخدام بطاقـات الإعارة، لكل كتاب بطاقة ترافقه، لا تنفصل عنه إلا عندما يعار الكتاب، فيدون عليها اسم المستعير وتاريخ الإعارة وتودع في درج خاص لتكون مذكرة لك للمطالبة بالكتاب.
وكنت أهتم بالكتب الفكرية والأدبية واللغوية والتربوية، فظلت مكتبني فقيرة بالموضوعات الأخرى العلمية والنفسية، عدا بعض الموسوعات العربية، وهي قليلة.
6-مارست المحاماة بعد تخرجي في كلية الحقوق عام 1954 لمدة قصيرة،لم أنسجم معها، ولم تُرض تطلعاتي الفكرية والثقافية، فاغتنمت أول فرصة سنحت عام 1957 لتأسيس دار الفكر بالاشتراك مع الزميل الأستاذ محمد الزعبي، الذي كان يشاطرني الميول والطموحات، وكانت نواتها مطبعة صغيرة ما زالت تنمو لتواكب تطور دار الفكر وجهودها المميزة والجادة في صناعة النشر.
7-ومنذ البداية وضعنا معايير لما تتبنى الدار نشره، ترتكز على أسس من الموضوعية والعلم والإبداع، والتطوير، والحوار من دون تقوقع أو انغلاق أو انكفاء إلى الماضي أو اجترار للمحصول المعرفي المتراكم.واعتمدنا هذه المعايير لتكون أساساً في تقويم ما يقدم إلينا من المخطوطات للنشر.
وهكذا كان كل مخطوط يقدم للدار خاضعاً لنوعين من التقويم: أولهما علمي، ينظر في جدواه العلمية من حيث الصحة والإبداع ويبحث عن الإضافة التي قدمها على المتراكم في موضوعه، وثانيهما اقتصادي ينظر في جدواه الاقتصادية ومدى حاجة الناس إليه واهتمامهم به. فإذا سقط الكتاب علمياً، رُفض مهما تكن جدواه الاقتصادية. كما إن الدار ترفض جميع الكتب الهابطة، وكتب ا لغرائب والعجائب والأبراج والأحلام غير آسفة على ما يمكن أن تحققه لها هذه الكتب من أرباح تستغل حالة الجهل والاسترخاء الفكري عند شريحة عريضة من المجتمع.
ونحن في دار الفكر لا ننتظر ورود المخطوطات إلينا بشكل عشوائي، بل نحاول سلفاً أن نرصد الحاجات الثقافية للمجتمع، وحاجات المكتبة العربية، لنسدها؛ إما عن طريق التكليف الذي نختار له أفضل المختصين، وإما عن طريق مكتب الدراسات والبحوث الذي أسسناه في الدار مزوداً بمكتبة واسعة للمراجع، وببرامج متطورة على الحاسوب، مكنتها من بناء قاعدة بيانات واسعة تساعدها على دقة الإنتاج وسرعته.
8-على الرغم من تنوع إصدارات الدار في شتى فروع المعرفة العلمية والإنسانية، ومن تعدد برامجها الثقافية، وحسن تقبل الناس لها، وتحقيق بعض إصدارات الدار أرقاماً عالية في المبيعـات، فإن الكتاب الأكثر رواجاً متواصلاً لديها هو (الفقه الإسلامي وأدلته) للدكتـور وهبة الزحيلي، الذي أصبح في طبعته الرابعة 1997 مؤلفاً من أحد عشر جزءاً، بعد أن كان في طبعاته السابقة يتألف من ثمانية أجزاء.
وهذا الكتاب، من مفاخر دار الفكر، قدمت فيه عملاً موسوعياً يعرض الفقه الإسلامي بشكل مقارن بين كل المذاهب، ملبياً حاجات العصر بلغة العصر، وفهرست له بطريقة علمية تسهل على الباحث الرجوع فيه إلى أي موضوع يلتبس عليه أو يستفسر عنه.. فكان بمثابة المفتي في كل بيت أو مؤسسة أو مدرسة.