يعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول محطّةً حاسمةً في تاريخ المقاومة الفلسطينية،إذ أعادت العملية النوعية؛ التي نفذتها المقاومة في ذلك اليوم، القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد العالمي، على إيقاع شعار "من النهر إلى البحر"، كما دفعت الجماهير العربية، وأحرار العالم إلى الانخراط مباشرةً في المقاومة الشعبية، بعد العدوان الهمجي على قطاع غزّة، عبر مقاطعة الشركات الإمبريالية الداعمة للاحتلال الصهيوني.
بعد ثلاثة أشهر من بدء الحرب الصهيونية البربرية على قطاع غزّة، لا تزال مسيرات التضامن مع الشعب الفلسطيني تجوب شوارع مدن العالم شتى، ولا تزال المقاومة العربية الشعبية، المتمثّلة في مقاطعة الشركات الغربية الداعمة للاحتلال، في تصاعدٍ مستمرٍّ، بل وصل الأمر إلى إطلاق شعار "الاستغناء" عن منتوجات تلك الشركات، حتّى لا تكون المقاطعة مجرد ردة فعلٍ عاطفيةٍ تنتهي بانتهاء العدوان.
على سبيل المثال، تكبدت شركة "ستاربكس" خسائر هائلةً بلغت 11 مليار دولار، ما يعد انخفاضًا في القيمة السوقية بنسبة 9.4٪. وفقًا لموقع "إيكونوميك تايمز"؛ انخفضت أسهم الشركة بنسبة 8.96٪ منذ 16 نوفمبر/تشرين الثاني، كما أورد الموقع أن تداعيات المقاطعة تجاوزت الحدود"
حاول وكلاء تلك الشركات الغربية في الدول العربية التخفيف من آثار المقاطعة من خلال رفع أعلام فلسطين، أو كتابة شعاراتٍ مؤيدةٍ للقضية الفلسطينية على واجهات مطاعم الوجبات السريعة، حتّى إنّ أحدّ فروع سلسلة "ماكدونالدز" وزع دمى تمثّل القائد القسامي أبو عبيدة مع وجبات الأطفال. وكان فرع الشركة في الكويت قد أعلن؛ في بيانٍ نشره على مواقع التواصل الاجتماعي، التبرع بنحو 160 ألف دولار للشعب الفلسطيني في غزّة، أما فرع "ماكدونالدز" في قطر فقد تبرع بنحو 275 ألف دولار، في حين تعهد فرع الشركة في مصر بتقديم 650 ألف دولار دعمًا لأهالي غزّة.
من جهتها نشرت وكالة رويترز تقريرًا في 24 نوفمبر/تشرين الثاني، بعنوان: "حملات المقاطعة إثر حرب غزّة تضرب العلامات التجارية الغربية في بعض الدول العربية"، لفتت فيه إلى أنّ بعض مطاعم الوجبات السريعة باتت مهجورةً إلى حدٍّ كبيرٍ، وأوردت أنّه "مع بدء انتشار الحملة، اتسعت دعوات المقاطعة المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي لتشمل عشرات الشركات والمنتجات، ما دفع المتسوقين إلى التحوّل إلى البدائل المحلية". الوكالة أكّدت أيضًا أنّها قامت بجولةٍ في سبعة فروعٍ لكلّ من "ستاربكس" و"ماكدونالدز" و"كنتاكي" في العاصمة الكويتية، ووجدتها شبه فارغةٍ.
كذلك نشرت صحيفة "هآرتس" العبرية في 9 ديسمبر/كانون الأول، تحت عنوان: "مقاطعة، وملغية، ومعزولة: هل تصبح إسرائيل روسيا الجديدة بسبب الحرب في غزّة؟"، جاء فيه: "لقد أصبح الفنانون الإسرائيليون منبوذين من قبل المجتمع الثقافي العالمي منذ اندلاع الحرب. بعضهم ألغى خططه المتعلقة برحلاتٍ إلى الخارج، وأصبح من الصعب إحضار فنانين أجانب إلى هنا، هل باتت إسرائيل كروسيا؟".لم تقتصر المقاطعة على البلدان العربية، بل وجدت أصداءً لها في مختلف دول العالم، إذ ارتفعت الأصوات المنادية بمقاطعة المنتجات الصهيونية في بقاع الأرض كلّها، بيد أنّ الإمبريالية الأوروبية؛ المنحازة كلّيًا للاحتلال الصهيوني، بدأت بحملاتٍ مسعورةٍ لحماية هذا الاحتلال من سلاح المقاطعة، الذي تجاوز مجرد مقاطعة إسرائيل إلى مقاطعة الشركات الداعمة لها، ففي بريطانيا، على سبيل المثال، قرر سكرتير المجتمعات المحلية، مايكل جوف، تقديم مشروع قانونٍ يحظر على الهيئات العامة البريطانية مقاطعة إسرائيل، وفقًا لصحيفة "الغارديان"، التي نقلت في تقريرها المنشور بتاريخ 19 أكتوبر/تشرين الأول أن ريشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني، قال لنظيره بنيامين نتنياهو خلال لقائه في دولة الاحتلال: "سنقف معك متضامنين، سنقف مع شعبك، ونريدك أيضا أن تنتصر".
أيضًا؛ سعت الولايات المتّحدة إلى تجريم مقاطعة الاحتلال الصهيوني خلال عهد دونالد ترمب، الذي أعلن صراحةً أنّ "من يقاطع إسرائيل ستقاطعه الولايات المتّحدة ".
على أيّ حال، صحيحٌ أنّ مقاطعة منتجات الاحتلال الصهيوني، والشركات الغربية الداعمة له قد بلغت أوجها بعد الحرب الأخيرة على قطاع غزّة، إلّا أن سلاح المقاطعة ليس وليد اليوم، ولا الأمس القريب، بل يعود إلى خمسينيات القرن الماضي، وقد سلطت صحيفة "العربي الجديد" الضوء على وثائق تاريخيةٍ تعود للحكومة البريطانية صدرت في العام 1957، تكشف تداعيات المقاطعة العربية ليس على الاقتصاد الإسرائيلي فقط، إنّما على اقتصاد المملكة المتّحدة أيضًا.
بحسب الوثائق، التي أشارت إليها "العربي الجديد" في تقريرٍ بعنوان: "آثار عميقة للمقاطعة العربية.. وثائق بريطانية تُظهر قوّة الظاهرة في خمسينات القرن الماضي"، نشر بتاريخ 20 ديسمبر/كانون الأول، فقد "أدت تلك المقاطعة إلى تأثير خطير على التجارة البريطانية، وتكبّدت بعض الشركات البريطانية خسائر في التجارة والأرباح".
في النصف الأوّل من عام 2023، أي قبل بدء هذه الحملة الواسعة لمقاطعة منتجات الاحتلال، والشركات الداعمة له، حققت حركة مقاطعة إسرائيل "BDS" إنجازاتٍ هامّةً، أبرزها: إعلان العاصمة النرويجية، أوسلو، "حظر سلع وخدمات الشركات المتورطة بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ في المستعمرات الإسرائيلية، كونها انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي". وكذلك "إعلان بلدية بيليم البرازيلية نفسها منطقةً خاليةً من الأبارتهايد الإسرائيلي". إضافةً إلى إعلان مدينتي فيرفييه ولييج البلجيكيتين "قطع جميع العلاقات مع نظام الأبارتهايد الإسرائيلي تضامناً مع الشعب الفلسطيني".
كما "جمّدت رئيسة بلدية برشلونة العلاقات مع نظام الأبارتهايد الإسرائيلي، بما يشمل إلغاء اتّفاقية التوأمة مع بلدية تل أبيب، ما لاقى دعمًا عالميًا من قبل أكثر من 54 شخصيةً بارزةً، من ضمنهم حائزون على جائزة نوبل، ونجوم هوليوود، وكتّاب، بالإضافة إلى جماعاتٍ وأفرادٍ يهود تقدميين من 15 دولةً حول العالم"، وفقًا لما نشرته الحركة على موقعها الإلكتروني.
في النهاية، أثبت سلاح المقاطعة أنه الأكثر فاعليةً في سياق المقاومة الشعبية السلمية، على التوازي مع الكفاح المسلّح، الذي هو بلا شكٍّ حقٌّ مشروعٌ لأصحاب الأرض الفلسطينية الأصليين، في مواجهة أكثر أنظمة العصر الحديث عنصريةً وهمجيةً، لا بدّ من التمسك بهذا السلاح، حتّى بعد انتهاء الحرب على غزّة، فالنضال ضدّ العدوّ الصهيوني، ومشروعه الاستيطاني التوسعي لم يبدأ في 7 أكتوبر الماضي، إنّما هو كفاحٌ مستمرٌ منذ 15 أيار/ مايو 1948، حتّى تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.