حتى عام مضى، كان الكتّاب الإسرائيليون مثار ترحاب في الساحة المعولمة للثقافة، وبالأخص المحسوبون على اليسار والمناهضون لحكومة نتنياهو. الأمر نفسه ينسحب على المؤسسات الثقافية الإسرائيلية، سواء الحكومية أو الخاصة. تاريخياً استولت الدولة الإسرائيلية على التراث الثقافي للكتاب اليهود السابقين على تأسيسها، بمن فيهم الكتاب المناهضين للصهيونية، لتراكم رأسمال معنوي له طابع قومي. كما طوعت نظرية الأصول اليهودية-اليونانية للثقافة الغربية للادعاء بأنها خط الدفاع الأول للحضارة ضد البربرية ممثلة في جيرانها.
وعلى تلك الخلفية، نالت الجوائز الإسرائيلية الأدبية مكانة معتبرة، وعلى رأسها جائزة القدس التي قبلها عدد من ألمع الأسماء الثقافية، بدءاً من برتراند راسل وماكس فريش وبورخيس وأكتافيو باث، وصولاً إلى إسماعيل كاداريه وهاروكي موراكامي. ولعل أوضح مثال للتدليل على المكانة المتميزة التي حظيت بها الكتابة الإسرائيلية هو أن أكثر الكتّاب مبيعاً في عالمنا اليوم هو الإسرائيلي يوفال نوح هراري، أما كتابه "العاقل: تاريخ موجز للجنس البشري" فيأتي على رأس معظم لوائح الكتب الأكثر تأثيراً والكتب الواجبة القراءة والكتب الأكثر ترجمة في القرن الحادي والعشرين.
إلا أن الأهوال المنقولة على الهواء مباشرة من غزة على مدار العام، واستعراضات العنف الوحشي للآلة العسكرية إسرائيلية هناك، دفع إلى حشد أكبر حركة مقاطعة ثقافية لإسرائيل في في تاريخها. أكثر من 6000 آلاف كاتبة وكاتب من بينهم حاصلون على جوائز نوبل وبوكر وبوليتزر، وقعوا على بيان يدعو إلى مقاطعة صناعة النشر الإسرائيلية. البيان الصادر في 28 من الشهر الماضي، يصف ما تواجهه الثقافة اليوم بسبب الحرب في غزة بأنه "أعمق أزمة أخلاقية وسياسية وثقافية في القرن الحادي والعشرين".
الحملة التي أطلقها "مهرجان الأدب الفلسطيني" مع مجموعات أخرى، من بينها "كتب ضد الإبادة" و"كتب بلا وقود أحفوري"، لا تكتفي بتفصيل "الظلم الساحق الذي يتعرض له الفلسطينيون" و"الحرب الحالية التي دخلت بيوتنا واخترقت قلوبنا"، بل والأهم تشير إلى "دور الثقافة في تطبيع هذه المظالم. لقد لعبت المؤسسات الثقافية الإسرائيلية، التي غالبًا ما تعمل مباشرة مع الدولة، دورًا حاسمًا في التعتيم والتمويه والغسيل الفني لعمليات سلب الملكية والقمع التي تعرض لها ملايين الفلسطينيين لعقود". ويضيف النص أن "العمل مع هذه المؤسسات يعني إلحاق الضرر بالفلسطينيين".
من بين الموقعين سالي روني، وهي التي رفضت في العام 2021 عرضاً من ناشر إسرائيلي لترجمة روايتها الثالثة "أيها العالم الجميل، أين أنت؟" إلى العبرية. كما كانت من أول الموقعين، آني إرنو وعبد الرازق قرنح، الحاصلان على جائزة نوبل، بالإضافة إلى ثانه نغوين وجونت دياز وراشيل كوشنر وناعومي كلين وجوديث باتلر وميريام مارغوليس. وعلى خلاف دعوات المقاطعة السابقة التي استهدفت فعالية بعينها أو مؤسسة بالاسم، فإن البيان المعنون "رفض التواطؤ" مدّد دائرة المقاطعة لتصير شاملة لمجمل صناعة النشر الإسرائيلية، داعياً إلى عدم التعاون مع "المؤسسات الإسرائيلية بما في ذلك الناشرين والمهرجانات والوكالات الأدبية والمطبوعات". ويذكر البيان بأن ذلك هو الموقف نفسه "الذي اتخذه عددٌ لا يُحصى من الكتّاب ضد جنوب أفريقيا؛ فقد كانت هذه مساهمتهم في النضال ضد الفصل العنصري هناك".
في المقابل، أطلقت منظمة "المجتمع الإبداعي من أجل السلام" المؤيدة لإسرائيل بياناً مضاداً وقع عليه ألف كاتب وشخصية عامة، كما توعدت منظمة "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل" الداعين للمقاطعة بالملاحقة القانونية. لا يبدو أن إسرائيل ستعاني قريباً من عزلة تشبه تلك التي تعرض لها نظام الابرتهايد في جنوب أفريقيا قبل سقوطه، لكن الأكيد هو أن تلك المكانة الأخلاقية التي تمتعت بها الثقافة الإسرائيلية في الماضي قد انهارت وبلا رجعة.