الرجوع عن الخطأ فضيلة (وإنْ بطريقة موارِبة)، علمًا أنّ وقوع ذوي الألباب فيه لا يمكن السكوت عليه والتغاضي عنه، فكيف إذا كانت الجهة التي ارتكبت الخطأ هي على صلةٍ عضويّة بصورة فرنسا الثقافيّة، وبالشعر والحرّيّة.
حسنًا فعل "سوق الشعر" في فرنسا بتراجعه عن قراره سحب استضافته الشعر الفلسطينيّ ضيفًا شرفًا لعام 2025 تحت ضغط اللوبي الصهيونيّ في فرنسا والحكومة الإسرائيليّة. وأكّد جان ميشال بلاس بصفته الرئيس المؤسِّس لمؤسّسة CIRCÉ التي تنظّم "سوق الشعر"، وبالاتفاق مع مجلس الإدارة، "أنّ الشعر الفلسطينيّ، سيكون كما هو متوقّع، ضيف الشرف في سوق الشعر لعام 2025".
لكنْ، ما الذي أدّى إلى هذا التراجع؟
في التفاصيل، أنّ الجهة المنظّمة لـ"السوق" كانت أرسلت قبل أيّام كتابًا إلى الشاعر المغربيّ الفرنكوفونيّ المقيم في فرنسا عبد اللطيف اللعبي تبلغه فيه بقرارها سحب استضافة الشعر الفلسطينيّ ضيفًا شرفًا لنسخة 2025، فكتب اللعبي رسالة جوابيّة من العيار الثقيل ونشرها على صفحته الفايسبوكيّة، الأمر الذي تحوّل إلى كرة ثلج، وإلى فضيحة ثقافيّة وأخلاقيّة وقيميّة وسياسيّة في الآن نفسه، كانت مفاعيلها وأصداؤها لا تزال تتردّد إلى ما بعد ظهر يوم السبت 8 حزيران، حاصدةً أكثر من 700 توقيع لشعراء وأدباء ومثقّفين وناشرين وقرّاء فرنسيّين ومن العالم (ليس بينهم أدونيس ولا الطاهر بن جلّون وليلى سليماني وكمال داود وبو علام صنصال وأمين معلوف) يستنكرون هذا الإرهاب الثقافيّ والسياسيّ والعنصريّ، الأمر الذي حمل إدارة المؤسسة على إعلان التملّص من قرار السحب، بلسان رئيسها جان ميشال بلاس الذي أعرب عن أسفه قائلًا: "إنّ إعلانًا متسرّعًا، غير مدروس وغير موفّق، جعل البعض يعتقد أنّنا تخلّينا عن استضافة الشعر الفلسطيني".
وأضاف: بصفتي الرئيس المؤسس لـ"سوق الشعر"، وبالاتفاق مع أعضاء مجلس الإدارةـ أؤكد أنّ الشعر الفلسطينيّ هو شيف الشرف في دورة "سوق الشعر" للعام 2025".
عود على بدء. "سوق الشعر"، هو تظاهرة شعريّة فرنسيّة وعالميّة تقام سنويًّا منذ العام 1983 في ساحة كنيسة سان سولبيس في باريس، وتجمع شعراء وأدباء ومثقّفين وناشرين وقرّاء وذوّاقة من أنحاء العالم للاحتفاء بالشعر. ويبدو أنّ الضغوط الإسرائيليّة والمؤيّدة لإسرائيل (في فرنسا) كانت من الجبروت بحيث "أجبرت" مؤسسة "سوق الشعر"، على ما يبدو، على سحب موافقتها على استضافة الشعر الفلسطينيّ. وأبلغت الشاعر عبد اللطيف اللعبي الموكل اليه تنظيم هذه المشاركة قرار السحب إلى أجلٍ غير مسمّى.
لن أسترسل في استعادة التفاصيل، فالكلّ بات يعرف بحكاية هذه الفضيحة التي ستظلّ توصَم بها الجهة المرتكِبة (ومَن وراءها، على رغم التراجع عنها)، ما دام هناك شاهدٌ يشهد للحرّيّة والشعر، ولقيم المساواة، والأخوّة، والحرّيّة التي قامت عليها الثورة الفرنسيّة.
لن أتوقّف طويلًا أمام الحيثيّات التي أملت على مَن اتّخذ هذا القرار المشين والأرعن، أنْ ينزلق إلى مطبّاته وفخاخه، التي ترتدّ، أكثر ما ترتدّ، على فرنسا نفسها، باعتبارها حاضنةً كبرى للشعر في العالم، بل أمّ الثورات المنادية بالحقّ والحرّيّة والعدالة والمساواة والحداثة والعلمنة في العالم.
قلتُ إنّ فرنسا، بهذا القرار، تخون نفسها بنفسها. أمّا الباقي فتفاصيل، ومن هذه التفاصيل التي ليست بتفاصيل، يحتلّ الرتبةَ الأولى الرضوخُ الأوروبيّ والعالميّ للإرهاب الصهيونيّ الذي يريد استئصال لا الشعر الفلسطينيّ فحسب بل فلسطين برمّتها، بأرضها، بموروثها، بأغنياتها، بأطفالها، بأمّهاتها، بشابّاتها وشبّانها، وبسلالتها البشريّة مطلقًا.
لم أستطع أنْ أصدّق أنّ الشعر يمكن أنْ يُمنَع في فرنسا، ويُتلاعَب به، ويُفرَّق فيه، ويُستعبَد، على غرار ما عرفته الأمم والشعوب في تواريخها من "مآثر" الإلغاء والإقصاء والعبوديّة والتفرقة العنصريّة والعرقيّة.
وإذا مُنِع الشعر، أيّ شعر، لسببٍ غير شعريّ، هناك، (وأين؟!) في فرنسا، فماذا يبقى لتتباهى به فرنسا، غير الانحطاط السياسيّ الذي تغرق في وحوله المهينة، والذي يُساق إليه العالم، شرقه والغرب، شماله والجنوب، كما تُساق القطعان البشريّة إلى الذبح؟
قلتُ إنّها "الذمّيّة الفرنسيّة" المستجدّة بعد الزمن الديغوليّ المشرّف! وقلتُ: ها هي العبارة المنشودة. ها هي. لقد عثرتُ عليها. وهي تنطبق على ما آلت إليه فرنسا اليوم بعدما راحت تساوم على قيمها، وتقايض، وتبيع وتشتري، وتسمسر، وتحني هامتها، وتقبّل الأيدي، وتتنشّق رائحة الزفت بأصوله ومشتقّاته البتروكيميائيّة، وسواها.
يتذكّر العالم بأسره كيف عاقبت فرنسا الجنرال ديغول إسرائيل، أيّام كانت فرنسا أمينةً لكرامتها وشرفها بين الأمم، كوجدانٍ فريدٍ من حيث القيم والمعايير والأخلاق والنوع بين الدول، عندما ضرب الطيران الحربيّ الإسرائيليّ مطار بيروت الدوليّ ودمّر 13 طائرة من أسطول الطيران المدنيّ اللبنانيّ في 28 كانون الأوّل 1968.
وقلتُ: حرام فرنسا. والحرام الحرام، وبالثلاث، هو أنْ يوضع الشعر في البازار (الفرنسيّ) الرخيص، وأنْ تعهّره السياسة، والعلاقات والمصالح، وأنْ يُجعل رأسه الجميل تحت مقصلة هذا الحرام.
وماذا كانت تظنّ الجهة القليلة البصيرة أنّها تفعل عندما ارتكبت هذه الشناعة، وسحبت موافقتها على استضافة الشعر الفلسطينيّ؟ أكانت تعتقد أنّ أمرًا كهذا سيتوقّف عند هذا الحدّ، أم سينسحب ليطاول كرامة الأمّة الفرنسيّة، وكرامة الشعر مطلقًا، وكرامة كلّ الشعراء الذين أنجبتهم فرنسا، وهم شعراء الحرّيّة والحبّ والحقّ والثورة والخيال والحلم والوجدان والألق والموهبة والعبقريّة والأنسنة في كلّ زمان ومكان؟
كان على "وجدان" تلك الجهة أنْ يسأل شارل بودلير، فيكتور هوغو، شاتوبريان، ألفونس دو لامارتين، ألفرد دو موسيه، ألفرد دو فينيي، بول إيلوار، أرتور رامبو، بول فيرلين، بول فاليري، جاك بريفير، أندره بروتون، أنطونان أرتو، إدمون روستان، لويس أراغون، برنار نويل، إدمون جابيس، ريمون كينو، رينه شار، إيزيدور لوسيان دوكاس (لوتريامون)، إيف بونفوا، غيوم أبولينير، سان جون بيرس، فرنسيس بونج، فيليب جاكوتيه، فيليب سوبو، كلود استيبان، هنري ميشو، وكثيرين آخرين، هل يجوز أنْ نفعل شيئًا كهذا؟!
هؤلاء غيضٌ من فيض الشعر والشعراء (بالآلاف بل بعشرات الآلاف) في فرنسا. ولا بدّ أني تخيّلتُ عظام هؤلاء الشعراء الفرنسيّين وأرواحهم قد انتفضت واستيقظت من هجعات القبور، لتطارد الخنوع الفرنسيّ، وتلعن الخانعين، وتحتقرهم، وتبصق في وجوههم المقيتة، وتدعوهم إلى العودة عن الخطأ الجسيم، بل الجريمة النكراء التي ارتكبوها في حقّ فرنسا الشاعرة.
لا بدّ أنّ تلك الجهة، ومن ورائها فرنسا السياسيّة، قد رضخت للقوى المؤيّدة لإسرائيل، وللوبي الصهيونيّ ولحكومة الإبادة في إسرائيل. لكنّ الوجدان العالميّ العميق ما عاد في مقدوره أنْ يتحمّل الإبادة الإسرائيليّة لفلسطين والفلسطينيّين في غزّة ورفح والضفّة الغربيّة، وحيثما كان. هذا الوجدان راح يتحرّك، ويغلي، ويثور، ويقذف حممه، ويفجّر تظاهرات طلّابه وطالباته، والشباب مطلقًا، والأكاديميّين والمثقّفين والفلاسفة والأحرار، في عواصم العالم ومدنه الكبرى، وفي جامعاته ومرجعيّاته الأكاديميّة والعلميّة والفلسفيّة والثقافية والإنسانيّة.
لقد ضاق وجدان العالم بالصلف والاستبداد والعنجهية والاستعباد، ولم يعد في مقدور هذا الوجدان أنْ يسكت، وأنْ يطمس هذه الحقيقة.
إسرائيل تريد أنْ تزوّر التاريخ والأرض والبشر والحجر والزمان والمكان، وليس من سبيلٍ في يديها لتحقيق ذلك سوى ما تقدّمه إليها الدول الكبرى والترسانة الهمجية العالميّة من أسلحة الإبادة، لمنع فلسطين من الوجود.
لكنّ ذلك من رابع المستحيلات. كأنْ تقرّر اغتيال الشعر، واستئصاله، وإبادة سلالاته. هل مَن يستطيع أنْ يغتال الكلمات؟!
كان سحب الاستضافة وصمة عار على جبين فرنسا. لكنّ فرنسا الجوهريّة والعميقة، "فرنسا الحرّة"، فرنسا الشعر والأدب والثقافة والحرّيّة، لا بدّ أنّها أكثر وأعمق وأشرف وأعظم من فرنسا العار السياسيّ. كثرٌ منّا (وأنا) ينتمون إلى هذه الجوهرة الفريدة، إلى هذه الفرنسا، وينتمون إلى الحرّيّة وإلى الشعر. وينتمون في هذا المعنى، وعلنًا، إلى فرنسا الثورة الفرنسيّة وفرنسا الشاعرة والقيم التي قامت عليها الجمهوريّة الخامسة.
أنا اللبنانيّ الذي ذاق الأمرّين من العهر المحلّي والإقليميّ والدوليّ، ومن تأييد القوى العالميّة للقاتل ضدّ القتيل، وللجلّاد ضدّ الضحيّة، ومن الذمّيّة السياسيّة، ومن استجداء المناصب (والرئاسة) من الطاغية، لم يكن يسعني سوى أنْ أستنهض فرنسا العميقة لتقول لا. وقد استنهضت نفسها في اللحظة الحاسمة، وها هي تعترف بالخطأ، وتقول لا علنًا جهارًا، مؤكدّة استضافة الشعر الفلسطينيّ ضيفًا شرفًا في السنة المقبلة.
موجة الرفض والانتفاضة التي أطلقها ردّ الشاعر اللعبي فعلتْ فعلها. أكثر من 700 توقيع يمثّلون وجدان الشعر في فرنسا والعالم، كسروا الإرهاب. وفي تعليق على ما جرى قال اللعبي: "أنا شخصيًّا أشعر بالسعادة لهذه العودة إلى العقل واحترام الكلمة المعطاة. هل أحتاج إلى القول إنّني كنت أعتبر دائمًا أنّ "سوق الشعر" كان حدثًا ثمينًا سمح على مدى عقود بتكريم الشعر في بيئة سياسية وفكرية سعت إلى تهميشه؟ بناءً على ذلك، أقترح إنشاء لجنة لمرافقة التحضيرات للدورة المقبلة، تكون الجهة المتحدثة باسم الجمعية المنظّمة لـ"سوق الشعر"، والتفكير في جميع الترتيبات التي يمكن اتخاذها لضمان استقبال الشعراء الفلسطينيّين، في الظروف التي يستحقّونها، في فرنسا (في باريس كما في بقيّة المناطق والمدن) في عام 2005".
شكرًا لعبد اللطيف اللعبي. شكرًا للشعر وللشعراء!