القذائف الخارقة هذه لم يسبق أن اختبرناها، وهي أفقدتنا ثقتنا بأي وسيلة أمان كنا دأبنا على اللجوء إليها في السابق. فإسرائيل تقول إن القذيفة يمكنها أن تخرق 14 طابقاً. قد يبدو أن هذا ادّعاء غير منطقي، لكن لا شيء منطقياً في هذه الحرب.
“أيهما أقوى، قصف مقر حزب الله في حارة حريك حيث استُهدف أمينه العام السيد حسن نصرالله، أم الغارة التي استهدفت خليفته المفترض السيد هاشم صفي الدين؟”، هذا السؤال استيقظنا عليه صبيحة يوم الجمعة متفشياً في غروبات “الواتس آب”، التي رحنا في الأيام العشرة الأخيرة في بيروت نعتمدها مصدر أخبارنا الأول عن الحرب التي تدور عند خاصرتنا.
لا يبدو أن لهذه المقارنة قيمة تتعدى بعدها الهذياني، فالخلاف كان شديداً بين المتراسلين، والأمر لا يستحق هذا القدر من الاستقطاب.
الأصوات هي ما نصدقه هنا في بيروت طالما أننا لا نرى، ولطالما صدقت هذه الأصوات توقعاتنا. الضاحية الجنوبية المستهدفة شبه خالية من السكان، ونحن لسنا مجرد مشاهدين، ذاك أن الحدث ينطوي أيضاً على بعد عاطفي، فما نشاهده يهوي أمام ناظرينا هي أبنية لنا فيها أهل وأصدقاء وزملاء، والعقاب الذي تنفذه إسرائيل جماعي. لكن الأهم فيما نرى ونسمع هو أن القذائف التي زودت بها واشنطن إسرائيل مؤخراً تصل إلى عمق 14 طابقاً تحت الأرض، وهو ما يجعل مبانينا في بيروت عرضة لاهتزازات لم يسبق أن اختبرناها، نحن أبناء الحروب والاجتياحات.
الحرب إذاً تحت الأرض أيضاً، تحت أرض بيروت، وهذا جديدها، فالقذائف لاحقت نصرالله إلى عمق الأرض، وها هي تتعقب صفي الدين إلى مسافة أعمق، والسيدان ليسا وحدهما من تلاحقهما، فنحن أيضاً تصلنا الارتجاجات قبل الأصوات، وبهذا المعنى ذهبت كل خبراتنا بالحروب هباء.
القذائف الخارقة هذه لم يسبق أن اختبرناها، وهي أفقدتنا ثقتنا بأي وسيلة أمان كنا دأبنا على اللجوء إليها في السابق. فإسرائيل تقول إن القذيفة يمكنها أن تخرق 14 طابقاً. قد يبدو أن هذا ادّعاء غير منطقي، لكن لا شيء منطقياً في هذه الحرب.
فمن قال إن لدى إسرائيل خارطة أهداف بهذه الدقة، وهي ساقت لتحقيقها أقوى أنواع القذائف في العالم؟ فكيف نحتمي من الصاروخ الجديد؟ ربما علينا أن نباغته بأن نبقى فوق الأرض. من يدري، فلا نصائح حتى الآن لكيفية النجاة. وما ضاعف من انعدام الثقة الشعور بأننا مكشوفون، وأن إسرائيل تعرف كل واحد منا ماذا يفعل، ومع من يتحدث، وإلى من يمت بقرابة. هذا تماماً ما خلفته مجزرة الـ”بيجرز”.
وإسرائيل إلى جانب عدوانيتها التي لا يحدها مدنيون، صغيرة العقل في حربها علينا. فهي قررت مثلاً أن يرافق قصفها الضاحية ارسالها صوت المسيرات المتواصل إلى آذان أهل بيروت، والنازحين إليها. هذه “الزنانات” بحسب التسمية الفلسطينية، و”أم كامل” بحسب التسمية الجنوب لبنانية، لا تفارق سماء بيروت، وترسل صوتاً قوياً ورفيعاً يعيق أي محاولة لالتقاط الأنفاس بين الغارة والغارة.
عليكم يا أهل بيروت ويا أيها النازحون إليها ألا تشعروا للحظة واحدة أنكم خارج زمن الحرب! الموت قريب جداً منكم ولا تتوهموا أماناً في الأماكن التي لجأتم إليها. الموت قادم، وسيخرج عليكم قريباً جداً أفيخاي أدرعي ليقول لكم عليكم المغادرة خلال دقائق قليلة. نعم على هذا النحو نهذي في بيروت، وهذا ما تُشعرنا به “الزنانات”.
الليل جحيم في بيروت. نستيقظ في الصباح لنحصي المساحة المدمرة. كل في محيطه. اليوم كان زميلان في المكتب يشيران إلى بعضهما بعضاً بأن غارة الليل الفائت سوت الحي الذي كانا يقيمان فيه بالأرض. منطقة المريجة لم يعد فيها مبنىً على حاله. أما أنا فقد وصلني على هاتفي فيديو جديد من بلدتي شقرا. لقد دمرتها إسرائيل مجدداً. المشاهد تفطر القلب، ووقعها على ناظري مختلف عن وقع الدمار العميم الذي يصلني من كل حدب وصوب.
صور المنازل المتهاوية التي لا أعرف معظمها، والجدران التي خلعتها القذائف، تردني إلى أزمنة كنت أعتقد أنها أفلت. الفيديو أعادني إلى أزقة غائرة في وجداني. أعادني إلى شقرا التي غادرتها طفلاً وكنت أعتقد أن أثرها عليّ لا يعدو أن يكون أكثر من ذكريات قليلة.
رحنا نقيس في هذه الحرب لبعضنا بعضاً طبقات النوم، فأنا وصديقنا جود “deep sleepers” بينما ديانا “light sleeper” ويترتب على هذا التوزيع محاولات تفسير نفساني صرنا جميعنا خبراء في تناولها وردها إلى أسباب من المرجح أنها واهية، ذاك أننا نمضي ليلنا الجحيمي في بيروت محاولين الاستعاضة عن القلق بالهبل.