تخطي إلى المحتوى
عن القارئ الأخلاقي عن القارئ الأخلاقي > عن القارئ الأخلاقي

عن القارئ الأخلاقي

ذات لقاء مفتوح مع الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو، تحدث عن طقوس القراءة، ومن جملة ما أثارني في حديثه هو التّركيز على ما سمّاه بـ "القارئ الأخلاقي". لأوّل مرة أسمع عن هذا القارئ، وهو ما جعلني أتساءل بيني وبين نفسي: هل ثمة أنواع للقرّاء؟ وما معنى القارئ الأخلاقي، وهل له وجود بالفعل أم بالقوّة؟ وهل يوجد في المقابل قارئ "غاش" أو "غشّاش"؟ تلك أسئلة راودتني على حين غرّة، فحاولت البحث لها عن أجوبة، لكنني أعترف، نعم أعترف، بأنني عجزت عن إيجاد الأجوبة الملائمة عنها.

حين تحدث الكبير كيليطو عن هذا القارئ الذي يدعوه بالأخلاقي، وهو الكاتب الموسوعي والمثقف المتمرّس، كان يعلم تمامًا عمّا يتحدث، فهو يعي أنه يتحدث عن قارئ من نوع خاص. قارئ مرّ من هنا ذات سنوات، واختفى بين تراكمات السنين وغبار الذاكرة. لنقلْ، قارئ يقرأ كل شيء: سيمياء الغلاف، المقدمة، الإحالات والحواشي، المتن، الخاتمة، فهرس المحتويات، وأحيانًا يقرأ حتى ما كُتبَ بين السّطور، فهو قارئ غير  انتقائي، لا يقفز عن الصفحات ولا يغش في أثناء القراءة، خصوصًا تلك القراءات الأولى التي تُصاحب مرحلة التلعثم الكتابيّ الأوّل، حيث المبدع يبدأ أولى خربشاته المليئة بالشغف والدهشة، فيقرأ بفرح طفولي كل شيء، يلتهم الصفحة تلو الأخرى بدون ملل ولا كلل، فالقارئ الأخلاقي كما تصوره عبد الفتاح كيليطو بمقدوره قراءة كتاب أو كتابين أو ثلاثة بدون ملل، وفي ظرف قياسي، فهو يقرأ بحب وشغف، ويقرأ كل شيء، حتى المقدمة وفهرس المحتويات اللتين لا نعيرهما أية أهمية في أثناء القراءة، فنقفز عنهما وندخل مباشرة إلى صلب المتن، وأعتقد أن هذه القراءة انتقائية، غير أخلاقيّة، لا تُضيف للقارئ أي شيء.في طفولتي وأيام الشباب، هناك بين دروب وأزقة مسقط رأسي بمدينة الدار البيضاء، كنت تقريبا أقرأ ثلاثة كتب يوميا: قصص، أعمال شعرية، فكر، روايات، لا أميز في القراءة بين جنس أدبي وآخر، كنت يومها "قارئًا أخلاقيًا" بالمعنى (الكيليطي) للكلمة، ألتهم الكتب بشغف مُضاعف، ليلا ونهارا، لا شيء يمنعني عن القراءة، أقرأ وأقرأ، وكلّما قلتُ إنني اكتفيتُ وارتويتُ، ازددتُ عطشًا للقراءة. إنها زاد المبدع ومفتاح المعرفة وغذاء الروح وأداة لاستكشاف الذات والعلم والإنسان. والآن، ماذا تغير، حتى تتغير طقوس القراءة بين الأمس واليوم؟ هل صرت قارئًا غشاشًا؟ هل صرت - بتعبير أقل حدة-، قارئًا انتقائيا، أختار ما أقرؤه وما يتلاءم مع قناعتي وأيديولوجيتي، (الأدب هو نفسه الأيديولوجيا/ رولان بارت)؟ ما أعرفه، أن سحر القراءة لا يُقاوم، وسواء أكنت قارئًا أخلاقيا أم قارئًا من نوع آخر، فما زلت أقرأ. ما تزال هناك كتب كثيرة لم أقرأها وأحاول قراءتها، بالرغم من كل شيء.

قرأت مرة أن "المبدع مثله مثل الملاكم عليه أن يتدرب يوميًا لكي لا يسقط في الحلبة"، فالقراءة إذًا، تمارين يوميّة، لا تخضع إلى المزاج ولا تحتاج إلى طقوس خاصّة، وعلينا – نحن المبدعين- أن نُهيّئ الجوّ المناسب للقراءة. لا أعرف صراحة، كيف لمبدع أن يُبدع نُصوصًا عميقةً من دون أن يقرأ... من دون أن تنغمس روحه في جماليات الإبداع وتموّجات اللغة والتّخييل؟ لا رؤية ولا تطور للإبداع للمعارف والخبرات ما لم يكن ذلك مرفقًا بقراءة يومية، فهل يجوز الآن أن نتحدّثَ عن "أميّة المبدع"؟ ربّما، نعم ولا، فما يزال هناك "قرّاء أخلاقيون" لم تثنهم رتابة اليّوميّ وقساوة الحياة المتسارعة ومواضعات العولمة والتّقنويّة عن مواصلة القراءة بالشغف الدائم نفسه.

المصدر: 
ضفة ثالثة