تخطي إلى المحتوى
عن مصائر الكتب ومكتبات غزّة المُدمّرة والمكوّمة تحت الركام 1ـ2 عن مصائر الكتب ومكتبات غزّة المُدمّرة والمكوّمة تحت الركام 1ـ2 > عن مصائر الكتب ومكتبات غزّة المُدمّرة والمكوّمة تحت الركام 1ـ2

عن مصائر الكتب ومكتبات غزّة المُدمّرة والمكوّمة تحت الركام 1ـ2

"عندما يُقدِمون على حرق الكتب، فسيؤول الأمر بهم أيضًا إلى حرق البشر أنفسهم".
الشاعر الألماني هاينريش هاينه (1797 ــ 1856م).

بالتوازي مع الإبادة الجماعية التي يمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة، تجري إبادة ثقافية، كشفنا في موقع "ضفة ثالثة" تباعًا، في عدد من المقالات  التي كتبتها وكتبها غيري من الزميلات والزملاء الصحافيين والكتّاب، مأساوية ملامح هذه الإبادة، والمحو الثقافي الذي يواصل جنود الاحتلال فعله في غزّة، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023 وحتى يومنا هذا، بوحشية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر.
وعلى مدار أكثر من 600 يوم من العدوان الإسرائيلي الهمجي على القطاع، دَمّرت قوات الاحتلال عشرات المكتبات العامّة والخاصّة، ودور النشر، بالإضافة إلى الأرشيفات الفلسطينية الرسمية، وهو ما سنتناوله في هذا المقال.

تاريخ الإسرائيليين في إبادة الكتب ونهبها
يقول الشاعر الإنكليزي جون ميلتون (1908 ــ 1674م)، إنّ "قتل كتاب أشبه بما يكون بقتل إنسان، بل إنّ من يقتل إنسانًا يقتل مخلوقًا عاقلًا. أما من يُدمّر كتابًا نافعًا فهو إنّما يقتل العقل نفسه". هذا بالفعل ما تقوم به "إسرائيل" في حربها على الثقافة الفلسطينية؛ حربٌ "كانت، وتظلّ، ركيزة تأسيسية في الفكر الصهيوني، أسوة بالتطهير السكّاني العِرقي، والاستيطان، وتدمير القرى والبلدات، واقتلاع أشجار الزيتون"(1).
"إنّ العدوان الإسرائيلي لا يتضمّن القتل وحسب، بل الاعتداء على الثقافة الفلسطينية، وتدمير النسيج المكوِّن لهذا الشعب المناضل والمهجّر من أرضه"(2)- هكذا كتب المفكّر والناقد الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 ــ 2003م)، في مقال نشر في صحيفة "نيويورك تايمز" في سبتمبر/ أيلول من عام الاجتياح الإسرائيلي لبيروت (1982)، بعد نهب الإسرائيليين لأرشيف "مركز الأبحاث الفلسطيني"، الذي كان يتّخذ من العاصمة اللبنانية مقرًا له.
تاريخ الإسرائيليين في إبادة ونهب الكتب والمخطوطات والمكتبات الفلسطينية يعود إلى عام النكبة 1948م. ويحضرني هنا كتاب للمؤرّخ الإسرائيلي، آدم راز، بعنوان "نهب الممتلكات العربية في حرب 1948"، صدر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية ــ مدار (رام الله- 2023م)، بترجمة عربية أنجزها أمير مخّول، ومقدّمة حرّرها الكاتب والناقد الأدبي الفلسطيني أنطوان شلحت، الباحث في الشؤون الإسرائيلية، والتي يبيّن فيها أنّ الهدف من وراء الكتاب هو، في رأي راز، "تسليط الضوء على جانب منقوص من تاريخ تلك الحقبة، ألا وهو تورّط عدد من شرائح الجمهور الإسرائيلي ــ من المدنيين والمحاربين على حدّ سواء ــ في نهب ممتلكات السكّان العرب". وهو يشدّد على أنّ هذه ليست قصّة نهبٍ بحتٍ فحسب، بل أيضًا قصّة لها أبعاد سياسية ذات دلالة. وادّعاؤه الجوهري، على صلة بهذا، هو أنّ النهب لم يكن أكثر قبولًا من جانب شخصيات معينة في المؤسّستين السياسية والعسكرية عمومًا، ورئيس الحكومة الإسرائيلية الأوّل ديفيد بن غوريون على وجه الخصوص، فقط، ولكنّه كذلك أدّى دورًا سياسيًا في تشكّل المجتمع الإسرائيلي، وتقاسم السلطة السياسية في الدولة الفتية، وفي تبلور العلاقات بين هذه الدولة (إسرائيل) والعالم العربي، سواء في أثناء الحرب، أو بعدها. كما ينطلق من أنّ أعمال النهب التي انتشرت مثل النار في الهشيم بين الجمهور اليهودي، تم دمجها في السياسة العامّة الداخلية والخارجية التي نفذها بن غوريون وشركاؤه السياسيون في تلك السنوات(3).

مقتلة الكتب والمكتبات الغزّية

لم يوفّر العدوان الإسرائيلي الوحشي، بطائراته وصواريخه وقذائفه، أي شيء في حياة الغزّيين، ولم يترك شيئًا من دون موت، أو دم، أو خراب. عدوانٌ فتك بالبشر والحجر والشجر، وبحيوات الناس وأفراحهم وابتساماتهم وأدق تفاصيل حياتهم اليومية، وحتى بأوراقهم ودفاترهم وكتبهم ومكتباتهم، ليتحوّل المشهد إلى جحيم أرضي بكل ما في الكلمة من معنى.
في مقاله "عن المكتبة والمقتلة: شهادة روائي على تدمير المكتبات في قطاع غزّة"، يذكر الروائي الغزّي يسري الغول: أنّه "قبل سنوات عدة، قام الاحتلال بتدمير المكتبة الوطنية في مدينة غزّة، وجعل المبنى الشاهق أثرًا بعد عين، وانتهى بذلك حلم تأسيس مكتبة تضم الأعمال الفلسطينية القديمة والحديثة في هذا الفضاء الذي أصبح لاحقًا منصّة لرفع رايات الأحزاب وصور القادة فقط. وسبق ذلك التدمير حصار الكتب، إذ كان يعتقد الفلسطيني أنّ الاحتلال سيحاصر المواطن المكلوم بالطعام والوقود والسفر فقط، لكنّه لم يعرف أنّ الاحتلال قرّر حصار العقول، وسجن الكتب، ومنع تداولها، أو إدخالها، بينما ينام العالم عن حقّ الفلسطيني في التمتع بحرّية القراءة، وهي أبسط الحقوق التي يمكن أن يتمتع بها أي مواطن في أي مكان من هذا العالم."... ويشير الغول في مقاله إلى كيف قام الناس بسرقة الكتب من مكتبة بلدية غزّة العامّة كي يشعلوا النار لطهي الطعام، "لم تعد هنالك مساحة للكتب بين الدم، فقد سقط القناع عن النخبة العربية الصامتة، وجاء دور النساء اللاتي فقدنّ أنوثتهنّ لحرق تلك الحروف والكلمات كي ينضج الطبيخ؛ خشاش الأرض الذي قمنا بجمعه من الأراضي المغمّسة بالبارود والدماء وبقايا صواريخ متناثرة".
يتابع صاحب "نزوح نحو الشمال: سيرة الجوع والوجع" قائلًا: "في أثناء ذلك، عدت إلى بيتي، فوجدت المكتبة ــ التي أرهقني جمع العناوين فيها لأكثر من عشرين عامًا ــ قد دُمّرت بالكامل، ولم يبقَ منها سوى الرماد، لكنّني، على الرغم من ذلك، حاولت توثيق المشهد بتصوير الكتب وهي تبكي الوجع على تراب مدينة غارقة في حزنها"(4).
وخلال فترة العدوان الإسرائيلي المستمرّ منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023م، دُفنت تحت ركام المباني المُدمّرة في غزّة كثير من المكتبات التي نزح أو قتل أصحابها.
وكما لم تنجُ أي مكتبة في القطاع من محرقة العدوان الإسرائيلي، فقد نالت النيران من مكتبة أكبر وأقدم مساجد غزّة، المسجد العمري الكبير، الذي دُمّر في 7 ديسمبر/ كانون الأوّل 2023م، والذي بُني في القرن السابع الميلادي. وتُعَدّ المكتبة العمرية من أهمّ دور الكتب والمخطوطات في فلسطين التاريخية، وهي تضاهي بذلك مكتبة المسجد الأقصى المبارك، ومكتبة أحمد باشا الجزار، وغيرها من المكتبات ودور الكتب التي احتوت على ذخائر ونفائس التراث.
كما دمّر جيش الاحتلال مكتبات وأرشيفات الجامعات، كالمكتبة المركزية في الجامعة الإسلامية، والتي تُعدُّ من أكبر المكتبات في القطاع، إذ كانت تحتوي على آلاف الكتب والوثائق النادرة، ورسائل الماجستير والدكتوراه، والأبحاث العلمية، قبل أن يُدمّرها جيش الاحتلال بالكامل بعد قصف عنيف على مباني الجامعة، ويشعل النار فيها بعد أن توغل بريًا إلى حرمها وسط مدينة غزّة.
كذلك دَمّر جيش الاحتلال جامعة الإسراء، التي تقع جنوب مدينة غزّة بالكامل، بعد نسف المبنى عن بعد، بما في ذلك المكتبة والمتحف الوطني الذي يحتوي على أكثر من 3000 قطعة أثرية. وقد نُهب المتحف قبل التفجير.
كما دَمّرت قوات الاحتلال مكتبة جامعة القدس المفتوحة بالكامل. إضافة إلى تعرّض مكتبة جواهر آل نهرو لأضرار بالغة وجسيمة، وهي تقع في حرم كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الأزهر وسط مدينة غزّة.

استهداف الأرشيفات الفلسطينية الرسمية

من أشهر المكتبات ودور النشر التي تعرّضت لدمار كامل في العدوان الجاري "مكتبة سمير منصور"، التي تعرّضت أكثر من مرّة لدمار هائل، وفي كل عدوان إسرائيلي على غزّة يكون مصير الكتب المركونة على أرفف المكتبة الحرق، وما ينجو منها يتبعثر بين الركام وتحت الأنقاض.
دُمّرت المكتبة أوّل مرّة في شهر مايو/ أيار 2021م، جراء قصف إسرائيلي، وافتتحت أبوابها من جديد في فبراير/ شباط 2022م، بعد أن أُعيد بناؤها على بعد مائة متر من موقعها السابق، ورافق حفل افتتاحها ملصقات كتب عليها "كالعنقاء من تحت الرماد نُبعث من جديد".
المكتبة التي يعود تاريخها إلى تسعينيات القرن الماضي، يُمثّل فقدها اليوم فقدٌ للحكايات والقصص والذكريات والمواقف المؤثّرة التي لم تكن يومًا تخلو منها، إذ شكّلت المكتبة كمكان حيوي في القطاع منبرًا ثقافيًا، ومتنفسًا علميًا طوال العقود الثلاثة الماضية. كما ساهمت المكتبة؛ ومن ثم دار النشر التي حملت الاسم نفسه "مكتبة سمير منصور"، في التعريف ونشر الأدب والثقافة الفلسطينية، بعدما نشرت لأكثر من مائة وخمسين كاتبة وكاتبا فلسطينيا، وشاركت بمؤلّفاتهنّ/م في معارض كتب عربية ودولية.
إضافة إلى المكتبات العامّة والخاصّة، ودور النشر، في القطاع، استهدف جيش الاحتلال مقرّات الأرشيفات الفلسطينية الرسمية، مثل مبنى الأرشيف المركزي لبلدية غزّة، الذي دُمّر في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023م، وكان يحتوي على آلاف الوثائق التاريخية والوطنية عن غزّة، والتي تعود إلى أكثر من قرن.

 

في مارس/ آذار 2024، قصف الجيش الإسرائيلي مقرّ دائرة العمل والتخطيط الفلسطيني، الذي يوجد فيه مكتبة وأرشيف متخصّصان بالدراسات والبحوث حول قضية فلسطين، وما يمت إليها بصلة. وكانت المكتبة تحتوي على 60 ألف عنوان تؤرّخ للصراع العربي ــ الإسرائيلي منذ مائة عام. وهذه الدائرة كانت في الأصل مركز التخطيط الفلسطيني، الذي تأسّس عام 1968م في بيروت، كأحد مشاريع منظّمة التحرير الفلسطينية، والذي أدّى الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م، لتدميره واستشهاد وجرح عدد من العاملين فيه، ليعاد تأسيسه في تونس عام 1985م، ثم تم نقله عام 1994م إلى مدينة غزّة، ليواصل كـ (دائرة العمل والتخطيط الفلسطيني) إصدار عدد من الدراسات والبحوث إضافة إلى مجلة دورية.
من الأرشيفات التي أبادها الاحتلال، أيضًا، أرشيف مُجمّع المحاكم المعروف باسم "قصر العدل"، الواقع في منطقة الزهراء وسط القطاع، حيث لم ينجُ المبنى من الاستهداف المباشر والهدم، بعد أن عمد جيش الاحتلال، في الرابع من ديسمبر/ كانون الأوّل 2023م، إلى تفجير وتدمير المُجمّع الذي يعود تاريخ بنائه إلى عام 2018، وهو يضم أهمّ محاكم القطاع، بما فيها الآلاف من الدعاوى، ما يعني أنّه جرّاء هذه الجريمة النكراء فقد الغزّيون سجلّاتهم، بما في ذلك الحُجج والصكوك وعقود الملكيات، الأمر الذي يُصَعب عليهم في ما بعد أن يُثبتوا حقوقهم المدنية.
ولم يقتصر بنك أهداف الجيش الإسرائيلي على تدمير المعالم الأثرية والتاريخية فحسب، بل شملَ جميع الأماكن الحيوية التي ترتبط بالثقافة، لطمس التراث الفكري والإبداعي والبحثي الفلسطيني، فقبل هذا العدوان الهمجي المستمرّ كان في غزّة 76 مركزًا ثقافيًا، دَمّر الاحتلال معظمها. واستهدفت الضربات الجوية الإسرائيلية مراكز ثقافية عدّة، مثل مركز رشاد الشوا الثقافي، والمعهد الفرنسي في غزّة، وهو المركز الثقافي الأجنبي الوحيد في المدينة، وقد تعرّض للقصف، وسرقت معداته

المصدر: 
ضفة ثالثة