بعد أكثر من قرن ونصف قرن على ميلاده، لا يزال سيغموند فرويد ونظرياته موضوعاً مثيراً للجدل في دوائر علم النفس، وبين أوساط المثقفين من كل الأطياف. صورته كمفكر عبقري فذّ أصيبت بالاهتزاز في السنوات الأخيرة، بعد صدور عدة بحوث تناولت فكره وشخصيته بالنقد اللاذع.
الحملة المُناهضة لنظرياته أتت بثمارها عند النخبة الأنجلوسكسونية التي يبدو كأنها رمت بتراثه في سلّة المهملات، بعد أن طردت التحليل النفسي نهائياً من المشهد العلمي.
اليوم الإرث الفرويدي شبه غائب في الولايات المتحدة باستثناء مراكز تاريخية كنيويورك وشيكاغو؛ حيث يوجد أقل من 300 محلّل معتمد حسب تقارير رسمية، إضافة لتراث سينمائي ضخم؛ لا سيما أعمال هيتشكوك وأودي ألان التي رسخت في الذاكرة الجماعية صورة المحلّل الغامض الذي يستمع بهدوء لمريضه المسترخي على الأريكة. فماذا بقي من إرث سيغموند فرويد؟
اللّوحة التي يرسمها المراقبون عن مستقبل التحليل النفسي في فرنسا -مثلاً- والتي تعتبر آخر معاقل مؤيدي الأطروحات الفرويدية، تبدو قاتمة. في عمود بصحيفة «لوموند» كانت المؤرخة المختصة في علم النفس إليزابيث رودينسكو قد كشفت عن تراجع كبير في تدريس نظريات التحليل النفسي في العيادات والجامعات، وحتى في وسائل الإعلام، إضافة لوجود جو من التشكيك المستمر في مساهمة التحليل النفسي كمشرب فلسفي وفكري.
مفاهيم «الكبت» و«اللاوعي» و«عقدة أوديب» لم تعد تقنع كثيرين، بعد أن شهدت السنوات الأخيرة توجيه عدة اتهامات لفرويد وورثته، كالبروفسور لاكان الذي يعد أشهر أتباعه في فرنسا وفي العالم.
ماذا حدث لنَصِل لهذه الانتكاسة؟ جاك فون ريلر، أستاذ علم النفس في جامعة لوفان ببلجيكا، وأكثر من هاجم فرويد ومناهجه العلاجية، يشرح في كتابه «أوهام التحليل النفسي» (دار نشر مرغادا) ما يلي: «وصلنا إلى خلاصة مفادها أن التحليل النفسي لم يكن أكثر من ظاهرة ثقافية عرفت الرواج في حقبة تاريخية، كان فيها التوجه السائد للنخبة هو تبجيل كل ما يأتي في السياق الحداثي، لكن سرعان ما استيقظ الكلّ ليكتشف أنه لم يعالج أحداً، وأننا نعيش في أوهام منذ عقود...» وهو الرأي نفسه لزميله الفرنسي جون كوترو الذي ساهم مع مجموعة من الكُتاب في تأليف «الكتاب الأسود للتحليل النفسي» (دار نشر ميار) الذي كان بمثابة مرافعة شديدة اللّهجة ضد فرويد وإرثه، حيث يكتب كوترو: «رواج الفكر الفرويدي في فرنسا يعود بالدرجة الأولى إلى أولئك الذين قادوا أو انضووا تحت لواء ما تسمى (ثورة الطلبة) في فرنسا عام 1968، شباب مثقف كان يرى في (الفرويدية) مصدراً لـ(هواء الحرية)... لكن المتمردين السابقين هم حماة المعبد اليوم، وذلك من باب حرصهم على موقعهم المسيطر في الجامعات والمستشفيات ووسائل الإعلام». الهجوم زاد حدّة بعد فتح الأرشيف الخاص بأعمال فرويد، حيث بدأ بعض المؤرخين البحث والتحقيق في تطابق منهجه مع التجارب التي كان قد أعلن عنها.
أحدهم وهو الفرنسي ميكال بورغ جاكوبسن نشر في كتابه «مرضى فرويد: المصائر» (دار نشر سيانس هومان) ما اكتشفه عن حقيقة الحالات التي قيل إن فرويد عالجها بفضل جلسات التحليل، حيث يكتب: «كل نظريات فرويد بُنيت على دراسة حالات كـ(دورا) و(آنا هو) و(رجل الذئاب) و(الرئيس شريبر) وهي التي اعتمد عليها في الكتاب الذي صنع شهرته، وهو (دراسات حول الهيستيريا) لكننا حين نبحث في الأرشيف، الذي تمكنا من الحصول عليه بعد عقود طويلة ظل فيها مسجلاً تحت (سرّي)، نجد أن ثلاثاً أو أربع حالات فقط كُتب لها الشفاء، وهذا رغم تأكيداته المعاكسة».
المؤرخ الفرنسي ذهب إلى أبعد من ذلك، حين اتهم فرويد بأنه محتال وكاذب، وأنه لم يكن يولي للحقيقة أي اهتمام، فهو لم يكتفِ بعدم العلاج فقط، بل تسبّب أيضاً في تدهور بعض الحالات وتعتيم الحقائق. كشف الباحث بدراسات موثقة أن ثلاثة من مرضى فرويد انتحروا دون أن يقوم بتسجيل هذه الوقائع.
بعض المثقفين كالفرنسي ميشال أونفري الذي يعتبره كثيرون «متفلسفاً» أكثر منه فيلسوفاً بسبب إنتاجاته المتواضعة مقابل حضور إعلامي مكثف، استطلع مسيرة فرويد العلمية؛ بل وحتى مسيرة حياته الشخصية، في كتاب ضخم من ستمائة صفحة بعنوان: «أفول صنم، الأكذوبة الفرويدية» وشن هجوماً شرساً على فرويد الإنسان وعلى فرويد المفكر من جهة أخرى، واعتبره بمثابة زعيم «طائفة» دينية جديدة كانت تستغلّ سلطتها الرمزية لابتزاز المرضى.
يكتب أونفري: «فرويد الرجل كان جشعاً لا تهمه إلا الشهرة والمال، جرَّب أولاً التنويم المغناطيسي، وحين أدرك أن طريقة التحليل النفسي ستدرّ عليه أموالاً كثيرة، قام باستبعاد جميع منافسيه، وكان لا يعالج إلا أعيان المجتمع النمساوي الراقي. تكاليف جلسة واحدة مع فرويد كانت تصل إلى 25 دولاراً، وهو ما يعادل اليوم 450 يورو، وهو مبلغ باهظ لا يستطيع دفعه إلا أغنى الأغنياء، ولذا فحين أقرأ أن فرويد كان مفكراً كبيراً كرّس حياته لخدمة المرضى فإني أفقد أعصابي...».
ولعل النقد الأكثر دقة يتمثل في تفنيد المزاعم الفرويدية بأنها تمتلك حقائق لا يمكن أن يتوصل إليها إلا أولئك الذين يلجأون إلى التحليل النفسي والإصرار على تفسير «الألغاز» المتعلقة بمختلف مظاهر المرض النفسي، بالكبت والغرائز الجنسية وتفسير الأحلام، أو التعصّب لبعض المفاهيم، كعقدة أوديب.
الباحث البلجيكي جاك فون ريلر في كتاب آخر بعنوان: «فرويد ولاكان محتالان» (دار نشر مرغادا) كتب أن فرويد كان شخصية بارعة لأنه نجح في إقناع العالم بأنه «وراء عدة مفاهيم كزلة اللّسان واللاوعي، بينما ما فعله هو جمع أفكار ونظريات من هنا وهناك ونسبها لنفسه، وقد يكون أذكى (محتال) عرفه التاريخ؛ لأنه أقنع أجيالاً كاملة بأن الشفاء من المرض النفسي سيتم بمجرد... الكلام».
الباحث البلجيكي استشهد بمثال أشهر أتباع فرويد في فرنسا، وهو البروفسور جاك لاكان الذي دعا إلى تجديد الانتباه إلى نصوص فرويد الأصلية، وكان قد ابتدع جلسات تحليل باهظة الثمن لكنها سريعة، لا تدوم أكثر من عشر دقائق، لا يكاد المريض ينزع فيها معطفه حتى تنتهي الجلسة، وتمكن بفضل ذلك من جمع ثروة طائلة قُدرت قبيل وفاته بأربعة ملايين فرنك فرنسي.
الباحث جاك فون ريلر استغرب أيضاً من حال بعض الشخصيات التي «تتفاخر» لأنها وقعت في مصيدة التحليل النفسي، كالسيدة كارلا بروني زوجة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، التي أعلنت في الصحافة أنها تتابع جلسات تحليل منذ أكثر من عشر سنوات! والممثل المعروف فابريس لوكيني الذي كشف أنه يتلقى جلسات علاج بالتحليل النفسي منذ أكثر من ثلاثين سنة! وهنا تساءل ريلر: إلى متى سينتظر هؤلاء للوصول إلى الشفاء؟
وكان الباحث السويدي نيلز ويكلند قد نشر في المجلة الفرنسية «الأزمنة الحديثة»، التي توقفت عن الصدور، مقالاً تم تداوله كثيراً بعنوان «لماذا لم يحصل فرويد على جائزة نوبل؟» شرح فيه الأسباب التي جعلت لجنة «نوبل» ترفض منح فرويد جائزة الطب، رغم أنه رُشح لها 12 مرة ما بين 1915 و1938، مُلخصاً الدوافع في انعدام الثقة لدى الأوساط العلمية في أفكار فرويد، بسبب غياب الدلائل العلمية التي تبرهن على صحّتها. والأدهى -كما يضيف- هو أن الطبيب الذي فشل في إقناع المجتمع العلمي بقيمة نظرياته، قد نجح لحدّ ما في الحصول على اعتراف الأوساط الأدبية بقيمة أعماله، حيث مُنح جائزة «غوته» التي تكافئ أحسن الأعمال الأدبية الألمانية عام 1930، كما رشّحته بعض الشخصيات كالكاتب الفرنسي رومان لوران لجائزة نوبل للآداب عام 1936؛ حيث كتب هذا الأخير في رسالة التوصية التي بعث بها لأعضاء لجنة نوبل ما يلي: «أعلم أنه للوهلة الأولى سيبدو ترشح العالم اللامع أكثر توافقاً مع جائزة في الطب، لكن أعماله العظيمة فتحت طريقاً جديداً لتحليل الحياة العاطفية والفكرية، وأثرت على الأدب بقوة على مدار ثلاثين سنة...».
ورغم أنه أخفق أيضاً في الحصول على جائزة نوبل للآداب، فإن أود زيتريش أحد أقطاب الأكاديمية السويدية كشف في مذكراته، وبعد مضي أكثر من ثمانين سنة، عن أن «النقاش كان حاداً تلك السنة في كواليس الأكاديمية حول ترشيح فرويد للجائزة، قبل أن يُحسم الأمر بفوز الكاتب الأميركي أوجين أونيل...»؛ علماً بأن سيغموند فرويد كان شغوفاً بالأدب، وقريباً من بعض الأدباء، كستيفان تسفايغ وآرثر شنيتزل، وكان يقول إننا نستطيع قراءة الحالات الإكلينيكية التي كان يعالجها كـ«قصص روائية». ألبرت أينشتاين نفسه وبعد أن رفض دعم ترشيح فرويد عام 1928 لجائزة نوبل للطب وتلميحاته بغياب قواعد علمية صلبة لنظريات فرويد بخصوص التحليل النفسي، وجّه له بعد قراءة عمله الأخير «موسى والتوحيد» عام 1939، مجاملة غامضة جاء فيها ما يلي: «أنا معجب بشكل خاص بهذا العمل، ولكن أيضاً بجميع كتاباتك» قبل أن يضيف بنبرة ماكرة: «من وجهة نظر أدبية».