ما الذي يحدث للإمبراطوريات حين تنضج؟ وإلى أيّ مدى ينطبق عليها قانون نيوتن للجاذبية؟
للثمار في الأعلى دوْرتها، حتى تلك التي تبقى متشبثة بمكانها في الأعلى حين تنضج وحين تجفّ، (تتقاضمها) الطيور الجائعة في عزّ نضوجها، وتتقاضم طيور أخرى ما تبقى منها في فصول الشتاء الطويلة، ويتحول ما يسقط منها إلى سماد. تلك الثمار التي لا يبقيها على الأغصان غير أعناقها الدّقيقة الشائخة.
تسقط بعض الإمبراطوريات فتتحول إلى آثار؟ بيوت مهدمة وصروح وقصور؟ لحسن الحظ أن الكيان الصهيوني الذي يبدو اليوم أكبر إمبراطورية (افتراضية) على سطح الأرض في تحكُّمه في كل شيء تقريباً، لن يترك أيّ آثار تمتُّ إليه، بقدر ما سيترك مئات الملايين من أطنان الدمار التي خلّفها وهو يحاول محو كل ما تطاله طائراته ودباباته وجنوده وكلاب أثره، في فلسطين ولبنان واليمن، وفي كل مكان وصل إليه اليوم، أو وصله ذات يوم.
(إمبراطورية) لا تملك شيئاً على الإطلاق يمتّ للحضارة، أو لما تركته الإمبراطوريات السابقة، التي كانت أطول عمراً منها بكثير، تلك التي وطأ جنودها واحتلوا بلاداً كثيرة في قارات العالم.
كلها انتهت، أو في طريقها إلى ذلك. لقد شهدنا بأعيننا، نحن الذين عاصرنا تحولات قرنين، إمبراطوريات تسقط وإمبراطوريات تضمر، وإمبراطوريات تجفّ.
ربما كانت أكبر التراجيديات ليست تلك التي أرّقت شكسبير ومسرحياته، من هاملت إلى عطيل ومن ماكبث إلى الملك لير، بل تراجيديات سقوط الإمبراطوريات وطغاتها وحلفائها وأذيالها، الذين لم تُتِحْ لهم هذه الإمبراطوريات أن يصعدوا لا طائرات النجاة ولا قوارب النجاة. وإن سمحت لبعضهم، كان للكلاب؛ الكلاب الحقيقية، أولوية الصعود وأولية التمتّع بمزايا الدرجة الأولى.
تتشبث الامبراطوريات كالثمار الجافة دائماً بمتانة أغصانها، وهي تؤكَل أو تجف معلّقة من أعناقها، أو حبلها السريّ الذي يبدأ بالجفاف ممهداً طريق النهاية، حتى وإن أصبح أصلب، لكن لا حياة في الحديد رغم كونه أصلب من الأعناق كلها.
الإمبراطوريات الكبيرة تترك خلفها عادة صروحاً أعلى وأكبر، وتبدو رمال الأرض ورياحها في حالات كثيرة غير قادرة على دفن هذه الصروح التي تشير إلى وجود صروح خفية لا تقل عظمة عن تلك الظاهرة، وهناك إمبراطوريات تترك خلفها ما يرهق علماء الآثار في التنقيب عنه، وهناك إمبراطوريات وهمية تنقّب للعثور على أي شيء، حتى لو كان وهميّاً مثلها، وهناك كيانات تصرّ على ارتداء ثوب الإمبراطوريات فتضيع فيه، فهي ليست بحاجة لأكثر من طوفان أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة، حتى لا يبقى لها أثر، غير ما تركته من بيوت مدمرة سيعاد بناؤها، وضحايا كثر لا تستطيع رياح النار أن تمحو حروف أسمائهم، وسلالات ضحايا كلما شبّوا أنجبوا آباءهم من جديد وهم يحملون رايات من سبقوهم.
.. اليوم، تتكثف الصهيونية كما لم تتكثف من قبل، في كل ما هو كاف لزوال كل قوة طاغية على وجه الأرض، هي التي تحتل هذا الوطن الصغير الجميل من بحره لنهره، وتسطو على تاريخه وتدعيه، وتنقّب فلا تصل إلا برهان غيابها، وتنشر ذراعيها في كل اتجاه تحتضنها فيه أذرع أنظمة عربية باتت مذ فعلت ذلك في حاوية التاريخ، ولا نقول هاويته، وفي كل اتجاه خارج عالمنا العربي تهيمن على أنظمته بالنفوذ والمال والترهيب والخرافة أيضاً.
تتكثف الصهيونية اليوم في أربعة عناصر يمكن أن تضيف إليها قارئة/ قارئ هذه السطور عناصر أخرى: العنصرية المطلقة، الإبادة، الغطرسة، والدّمار الشامل.
حتى زماننا هذا، على الأقل، لا تستطيع الروح الإنسانية أن تكون متوائمة أو متصالحة في جوهرها مع أي من هذه العناصر السّوداء؛ ومهما بلغنا من يأس في هذه المساحة الخانقة التي يُحشر فيها الفلسطيني، فإننا لا نستطيع أن نكون بلا عينين، لأن أولئك الذين يفقأ هذا الكيان الهمجي أعينهم ويُقطِّع أصابعهم في الضفة الغربية وفي غزة ولبنان تتضاعف قوة بصيرتهم وقدرتهم على تدوين التاريخ الحقيقي لجماليات المقاومة وقباحة الغطرسة، فقد مضى الزمن الذي كان المنتصرون يكتبون فيه تاريخ الضحايا.
من السخريات الكبرى لقوانين الطبيعة وبلاغتها أن للاكتمال دائماً توأم اسمه النهاية.
وبعـــد:
كان الحاج خالد في «زمن الخيول البيضاء» يقول: عمر الرجال أطول من عمر الإمبراطوريات، وتذكروا، لا يمكن لأحد أن ينتصر إلى الأبد، لم يحدث أبداً أن ظلّت أمّة منتصرة إلى الأبد.
وربما يمكننا اليوم أن نضف شيئاً آخر، قاله أحد الأجداد الذين لا يختلفون عن الحاج خالد، في مواجهتهم للرياح العاتية، ونحن نرى هذا الموت يتضاعف، وهو يسأل: أتعرفون ما الأهمية الحقيقيّة لكل واحد منكم إذا استُشهِد رفيقه؟ ردّ أحدهم، أن يستشهد إلى جانبه، فردّ الجدُّ: لا، بل أن ينجو ليواصل المعركة التي لم تنتهِ. أفضل ما يمكن أن نقوم به هو ألّا نسمح للمعارك أن تنتهي، إلّا حين نحدّد نحن موعد نهايتها، ولنهايتها موعد واحد لا غير؛ هو حريتنا.