ما بين النكبة والنكسة 19 عاماً... وحرف يتغير، وعمر وحياة مليئة بالأحلام والكثير من الذكريات، وأقل من شهر يفصل بين ذكريي الحدثين واحتلال مدينة القدس كاملة، نتحول خلاله إلى عاطفيين أكثر ربما لأن أجندتنا اليومية تحمل الكثير من الحوادث المأسوية التي أصبحت أكبر من طاقتنا وقدرتنا على التحمل، تواريخ لا تنتهي وخسارات لا تُحصى لم تعد تتسع للمزيد من الأحزان.
تخطت النكبة والنكسة الزمن وأصبحتا تعيشان فينا، كيف لا ونحن نعيش عواقبهما حتى اليوم. حقبة تاريخية تلتصق بالذاكرة ولا تفارقها، وكأن الزمن توقف، فما قبل النكبة لا يشبه أبداً ما بعدها... أصبحت نقطة محورية في حياة كل فلسطيني، ورغم أني لم أعشها لكني كبرت وعايشت جيلاً كاملاً كان يروي القصص والحكايات التي عاشها خلالها، ويحرك مخيلتي لأسمع أكثر وأفهم أعمق حجم المأساة التي عاشها الجيل الأول من الأجداد والجيل الثاني من الأبناء، وأنا الجيل الثالث من الأحفاد.
خلال طفولتي تكاتفت العائلة على أن تكون سعيدة وطبيعية قدر الإمكان، مليئة بالكتب والألعاب والرحلات. كيف لا وأنا الحفيدة الأولى لجدين عاشا النكبة بكل تفاصيلها بعد أشهر قليلة على زواجهما، تزوج كامل جلوق ونهيل دوغان في آب (أغسطس) عام 1947 وهما جداي لأمي، وعاشا في حي "الطالبية" في بيت الجد الأكبر جورج مقابل المتحف الإسلامي، كان جدي يعمل في مكتب سياحة قريب من فندق "فاست الشهير" قرب باب الخليل، ويقوم بتنظيم رحلات للحجاج المسيحيين والسياح الوافدين إلى الأراضي المقدسة، من لواء الإسكندرون وحتى دير سانت كاترينا في سيناء، إضافة إلى نشاطه السياسي في المقاومة الذي كان سرياً بعض الشيء، وكأي زوجين في بداية حياتهما كانا يحلمان بحياة هادئة، عائلة وأطفال يوفران لهم التعليم والاستقرار.
في أيار (مايو) 1948، حضر جدي مسرعاً إلى البيت بعدما اشتدت وتيرة المعارك والاشتباكات مع العصابات الصهيونية في القدس، ومن أشهرها المعركة التي اندلعت بين قوات "الجهاد المقدس" وعصابات "الهاغاناه"، واستمرت حتى آخر رصاصة، وطلب من جدتي أن تحضر حقيبة وتضع فيها الأوراق المهمة وكل ما يلزم لأنهما سيغادران على عجل لبضعة أيام فقط.
بعدما بدأت أخبار مجزرة دير ياسين تنتشر بين الفلسطينيين المرعوبين من هول الوحشية والقسوة التي ارتُكبت بها وقتل الأطفال واغتصاب النساء، انتقلا إلى منزل أقاربهم في حي المصرارة، وبعدما سقطت أحياء القدس الواحد تلو الآخر واقتربت القوات الإسرائيلية من الحي الملاصق للبلدة القديمة، كان لا بد من مغادرة القدس إلى بيتهم في مدينة رام الله "مصيف فلسطين".
كان جدي مرعوباً، فجدتي كانت حاملاً بابنهما البكر، على الطرف الآخر من مدينة القدس كان والدي طفلاً صغيراً يستعد مع عائلته لمغادرة منطقة "باب الواد" التي جرت بالقرب منها معركة القسطل الشهيرة، لكن وجهتهم كانت البلدة القديمة، وقد حوّلت إسرائيل بيوت العائلة الثلاثة اليوم إلى متحف محاط بالدبابات.
وعلى أمل العودة إلى بيوتهم في القدس خلال أيام، مرت الأشهر وأنجبت جدتي أولادها الأربعة بعد النكبة، مرت السنوات وتوفي جدي وجدتي خلال الانتفاضة الأولى، ووالدي خلال الانتفاضة الثانية ودفنوا جميعاً في رام الله.
بعد النكبة....
وجد جداي نفسيهما خارج المكان وأن لا مفر لهما إلا البدء من جديد والتعايش مع الصعوبات والتغييرات الجديدة التي فرضت عليهم واقعاً مغايراً لكل ما حلموا به وخططوا له سوية. كانت جدتي السند والمفكر والداعم اللامتناهي والدائم، لم تكتف بالعمل الجديد لجدي مع وكالة غوث اللاجئين الفلسطينين، فأنشات مع شقيقتها حنة ورشة تعليم الخياطة والتطريز والصنارة "الكروشيه" التي استمرت حتى عام 1968 تقريباً، وخرجت مجموعة من الفتيات من عائلات لاجئة أصبحن المعيل الرئيسي لعائلاتهن أو من أشهر الخياطات في رام الله.
أذكر عندما كنت صغيرة أن معظمهن كن يزرن جدتي باستمرار ويقمن بعمل "صبحية قهوة"، يتبادلن خلالها مجلات بوردا الشهيرة المختصة بالتصميم والأزياء، أو يستشرن جدتي بخصوص رسمة أو دمج رسمات مختلفة واختيار الألوان وتدرجها على المفارش التي كانت مليئة بالتطريز الفلسطيني التقليدي.
في عام 1948 كانت رام الله مدينة هادئة نسبياً، تبعد 16 كيلومتراً إلى الشمال من القدس، خالية نسبياً من العمران، بيوتها متفرقة لكنها جميلة البناء، ولم تكن جاهزة اقتصادياً أو عمرانياً، فبنيتها التحتية كانت ضعيفة نوعاً ما لاستقبال الأعداد الكبيرة من اللاجئين، لم يكن جداي وحيدين، فقد توافد اللاجئون من اللد والرملة ويافا والقرى المهجرة حولها، ومن القدس وقراها المهجرة، وعسقلان وأسدود، والناصرة وحيفا.
استوعب الفلسطينيون يومها معنى التشرد والفقدان والتشتت، قصص كان يرويها الأصدقاء والجيران عن عائلات تفرقت وفقدت بعض أبنائها أثناء المشي على الأقدام، وهي تغادر مدن اللد والرملة ويافا إلى المجهول، آخرون فقدوا أعينهم أو أصيبوا خلال الهرب من المجازر.
خلال السنوات التي تلت النكبة تمكن اللاجئون من الاندماج مع المدينة وروحها وإيقاعها، ولأن الكثير من عائلاتها الأصلية كانوا قد غادروها خلال الهجرة الأولى نهاية الدولة العثمانية إلى الولايات المتحدة الأميركية وأميركا الجنوبية، أصبح اللاجئون العصب الأساسي للحركة الاقتصادية والعمرانية في المدينة، لكنهم لم ينسوا مدنهم أو قراهم، لكن لا حل آخر. شهدت المدينة على مدار السنوات حركات سياسية ووطنية، من أبرزها الجبهة الوطنية الفلسطينية، ولجنة التوجيه الوطني التي كانت تقوم بتوجيه المقاومة ضد الاحتلال، تحول النسيج الفلسطيني خلال السنوات التي تلت النكبة والنكسة إلى انسجام وتجانس كبيرين، وشهدت المدينة حركة ثقافية نشطة، وكانت دور السينما الثلاث "الجميل" و"الوليد" و"دنيا"، وكنت أذهب برفقة جدي لمشاهدة أفلام "الويسترن"، وكانت تعرض باستمرار آخر الأفلام الغربية والعربية حتى أغلقت بسبب الأوضاع الأمنية الصعبة التي شهدتها المدينة خلال الانتفاضة الأولى.
بعد نكسة 1967 وصلت موجة أخرى من اللاجئين وكبرت المدينة أكثر، وهكذا عندما وصلت إلى عمر الذهاب إلى المدرسة كان أغلب أصدقائي وزملائي من عائلات لجأت إلى رام الله خلال النكبة، جمعتنا النكبة والنكسة والمصير، حفزتنا أكثر على العمل السياسي والاجتماعي وعلى أن نفهم أنه لا يمكننا المساومة على حقوقنا، كان أهل اللد والرملة ويافا يعودون أدراجهم إلى مدنهم التي هجروا منها زواراً كلما سنحت لهم الفرصة بذلك، وما زالوا، خلال الأعياد والمناسبات وأشهرها "عيد اللد" أو عيد الخضر "مار جريس" من كل عام.
تطورت رام الله تطوراً كبيراً خلال السنوات الماضية، ومع انتهاء الانتفاضة الأولى شهدت حركة عمرانية كبيرة حولتها إلى الشكل الحالي مركزاً سياسياً وتجارياً للضفة الغربية، لكنها خلال السنوات الأخيرة تحولت إلى "فقاعة" لأسباب أخرى.
حرب الأيام الستة
لا تزال والدتي ابتسام تتذكر ذلك اليوم كما لو أنه أمس، كانت طالبة في المدرسة، وذهبت لزيارة عمة جدي في شعفاط خلال العطلة الصيفية "عند غروب اليوم الذي سبق كانت هناك اشتباكات متفرقة وكنا نسمع الأصوات بوضوح، وكان لدينا شعور بأن شيئاً كبيراً سيحدث، في صباح اليوم التالي اتصل والدي وأخبرنا أن نحضر فوراً إلى رام الله، لكن عمته رفضت المغادرة وقالت إنها تريد أن تموت في بيتها، فعدت إلى رام الله وحدي، وما كدت أصل إلى السيارة حتى سمعت صوت الانفجار الأول في ملعب الشيخ جراح، تلاه الانفجار الثاني مباشرة مقابل منزل العمة، استهدفوا معسكراً للجيش الأردني، كان يفصل بيننا بينهم سور وأشجار، على طول الطريق إلى رام الله كنا نسمع أصوات الانفجارات، وكان الطيران يحلق تحليقاً مكثفاً. كانت حرباً حقيقية".
بعد انتهاء الحرب واحتلال القدس بعشرة أيام، ركبت الحافلة من رام الله مع والدي وشقيقي باسم، وصلنا إلى باب العمود ومشينا باتجاه المصرارة حيث كانت العمارات في الجهة الفلسطينية قد دمرت جراء القصف، أما بوابة المندلبوم التي كانت تفصل شرق المدينة عن غربها فكانت مفتوحة، الدمار في كل مكان، اتجهنا إلى حي "الطالبية"، كانت المرة الأولى التي أصل فيها إلى هناك، والمرة الأولى التي يعود فيها والدي بعد عقدين من الزمان، أتذكر أننا كنا نمشي ونرتطم بالحجارة وبقايا الحصى وكانت الأرض ترابية وتغبرت أحذيتنا، مشينا نحو 45 دقيقة حتى وصلنا إلى ميدان فيلا سلامة، عندما وصلنا إلى البيت بدأ أبي البكاء بحرقة وقرع الجرس، لكن العائلة التي استوطنت المبنى المكون من ثلاث طبقات، رفضت أن تسمح لنا بالدخول، بكى والدي بعدها كثيراً ثم أخذنا في جولة حول البيت، وتابعنا بعدها جولتنا في الحي، كان يعرفنا ويعدد لنا من كان يسكن في كل بيت مررنا بجانبه، كانت بيوتاً للأصدقاء وأخرى للأقارب، في طريق العودة مررنا بجانب الكنيسة التي تزوج فيها والدتي، ذهبنا بعدها إلى بيت عمي في المصرارة لنتأكد من أنهم بخير، أخبره عمي عيسى أنه ذهب إلى البيت في الطالبية ولم يسمحوا له أيضاً بالدخول وطلبوا منه الانصراف فوراً، كانت أمنيته الوحيدة أن يرى بيته من الداخل وأن يتأكد مما إذا ما كانوا قد سرقوا الأثاث لأنه كان جديداً، عدنا بعدها إلى رام الله، كانت أمي تقول إنهم سرقوا حتى إطارات الصور واستبدلوا بصورنا صورهم. بقي جدي حزيناً جداً ومصدوماً، مقهوراً معتكفاً في غرفته ولم يتحدث مع أحد أسبوعاً كاملاً.
فيروز والعصافير..
خلال طفولتي وحتى اليوم، لم تفارق مخيلتي صورة جدي وهو جالس على كرسيه المصنوع من القش أمام شباك غرفته يستمع إلى أغاني فيروز، ويقوم بتفتيت بقايا الخبز الجاف ليطعم العصافير، كانت جزءاً من روتينه اليومي، لم يكن يحب رؤية العصافير داخل الأقفاص، كان ذلك يثير أعصابه، فمن خبر سجون الإنكليز خلال الانتداب، وبخاصة سجن مجيدو القديم تحت الأرض لن يفرحه مشهد رؤية عصفور في قفص، وهو الثائر المعروف بسرعته وخفة حركته وتسلقه للمباني هرباً من الجيش والشرطة البريطانية.
أما جدتي فكانت تروي لي القصص، لكنها ليست كأي قصص .. عن هرب جدي من الإنكليز ومقاومته لهم، وكيف تعرف إليها وأحبها وهو مطارد، وكيف كان يزورها خلسة، وكيف عاد بعدما اعتقل ليخطبها، كانت تحدثني بشغف عن بيتها الذي أحبته وجهزته بكامل تفاصيله، وتروي قصصاً عن ثورة 1936 ومجازر الأرمن والنكبة والنكسة وكيف احتلونا.
بعدما كبرت استوعبت أن الصدمة النفسية التي تعرضت لها العائلة خلال النكبة والنكسة كانت حدثاً استثنائياً، وأن جدّيّ كانا بحاجة لتفريغ كل هذا الألم والضغط النفسي اللذين أشعراهما بالعجز والخوف الشديد، رغم أنهما استمرا بحياتهما الطبيعة وقاما بتربية أربعة أبناء والأحفاد، إلا أنهما كان عليهما، كما على كل اللاجئين والمشردين والهاربين من الحروب، تخطي هذه الصدمة والهزيمة أمام قانون "حارس أملاك الغائبين" الجائر الذي صادر الأموال والممتلكات، وتجاوز الحقبة التي لم يعشها ولا يفهمها إلا من عاش تفاصيلها مثل الفلسطينيين.