منذ نشوءِ الأسرة، والأطفالُ والناشئة لهم خصوصيّتهم في التعاملِ السلوكيّ والشخصي والاجتماعي، وذلك لما لهذه الفئةِ العمرية من خطورةٍ وأهمية، حيث تتشكل خلالها شخصيةُ الإنسان، وتتبلور ملامحُها، ولذلك كان للمحتوى المخصص لهذه الشريحة أهميتهُ الفائقة، وقد اجتهدَ المربّون وأهل الاختصاص في تنقيةِ ذلك المحتوى ليكون مناسباً، يخدم الرؤيةَ البعيدة للأسرة والمجتمع في تنشئةِ الأجيال وفقَ الضوابط والمعايير التي يريدُها الآباء والحكومات.
تطورت صناعة المحتوى من الحكايات الشفوية للثورة الرقمية المتسارعة
ومن هنا ندخلُ للمحتوى الموجّهِ للأطفال، ونمرُّ بسرعة على تطوّره الملحوظ، فقد بدأ بالحكايات الشفوية المنقولةِ شفاهاً من الآباء والأجداد، ثم انتقلَ للرسومات المعبّرة، إلى الكتاب الورقيّ بما يتضمنّه من قصص وأشعار وأخبار وتجارب، وانتقل للمحتوى المرئي والمسموع مع انتشار الإذاعة والتلفاز، وصولاً لمرحلتِنا الراهنة حيث القفزات العلمية والاجتياح الرقمي ووسائط التواصل الاجتماعي التي غزت المجتمعات والأفراد، وقدّمت كلَّ جديد ومتنوع من المحتوى الموجّه للأطفال والناشئة، ومن هنا وجِدت المشكلة، حيث ضاعت البوصلة، وقلّتِ السيطرة على صنّاع المحتوى إذ ليس عليهم رقيب ولا حسيب، متذرّعين بالحرية الشخصية والفضاء المفتوح دون قيود، وقد ساعدهم في ذلك سهولةُ الوصول للمتلقّي، وتوافرُ شبكات الاتصال والأجهزة اللوحية، وحرقُ المراحل التي كانت سائدةً قديماً في وصولِ الفكرةِ للقارئِ، عن طريق التأليف والطباعة والنشر الورقي، إذ يكفي أن يكون لدى هؤلاء هاتفٌ حديث وشبكة اتصال، ليكونوا (صانعي محتوى) وفق ما درجت عليه التسمية، متناسين بقصدٍ أو دون قصدٍ أهميّةَ هذا المصطلحِ وشمولهِ ومسؤوليته نحو فئات المجتمع، وخاصةً شريحة الأطفال.
ومن هنا تبرز الحاجةُ أكثر من أيّ وقت مضى، لتحمّل المسؤوليات لدى الجهات الخاصة بتثقيف هذه الفئة من المجتمع، وأعني مؤسساتِ الطفولة والناشئة ودور النشر، والقنوات الأُخرى الخاصة بالطفولة والشباب، وتتجلى المشكلة والمسؤولية في حلّها من خلالِ سؤالين اثنين يلخصان الموضوع الذي نحن فيه:
ما المحتوى المناسب لأطفالنا؟ وكيف نقدّمه لهم؟
أوّلهما: ماذا نقدّم لأطفالنا؟ وما المحتوى المناسب لهم؟: وهنا سوف نتحدثُ عن المحتوى والمضمون، فقد انتشر المصطلح انتشاراً خاطئاً في الأوساط المجتمعية والإعلامية، وكاد أن يلتصق بما هو موجود في وسائل التواصل الاجتماعي فقط، مع التجاهل المحزن لما هو موجود في الكتب والصحافة واللقاءات الشخصية المباشرة، ولعلّ سبب ذلك هو طغيان وسائل التواصل وخطفُها للاهتمام، وكم تكون المفاجأة محزنةً حينما يُستضاف الشخصُ في الملتقياتِ الكبرى والمحاضرات المزدحمة بالحضور على أنه صانع محتوى، ثم نتأكد أن هذا الضيفَ النجمَ المشهور ليس إلا صانعَ مقاطع قصيرة على (يوتيوب) أو مغرّداً على (تويتر) أو مغناطيسَ جذبٍ على (سناب وإنستغرام)، دون أن نجدَ في سيرته المهنية أو محتواه المصنوعِ عملاً فكرياً أو أدبياً أو فنيّاً ذا قيمة، بل لا نجدُ عنده إتقاناً للغةِ العربية التي هي وسيلةُ التخاطبِ ونقلِ المحتوى من الصانعِ للمتلقّي، وهذه المغالطة في تأويلِ المصطلح، شاعت في كل الأوساط، وبها تقزّم المصطلحُ وضاقَ حتّى ليظنَ عامَّةُ الناس أنّه مقتصرٌ على روّادِ مواقع التواصل وناشطي (اليوتيوب) فقط دون سواهم.
ومع الظلمِ الذي لحق بمصطلحِ صناعة المحتوى، فلا بدَّ من لجنةِ تقييمٍ للمطبوع والمنشور والمسموع قبل وصوله للمستهدَفين، ليكون منسجماً مع المعايير الفنية والأخلاقية والسلوكية المنشودة، وبالتالي لا يمكننا طباعة كتاب من المؤلّف مباشرةً، إلا بعد قرارٍ تربويّ تأخذه لجنة مختصة، وهذا الأمر يجعل العملَ الذي تقدمه دور نشر كتب الأطفال أمينَ المضمون لا يُخشى من محتواه، وفي الوقت نفسه يكون بمواصفاتٍ فنيّةٍ عالية، قادرةٍ على المنافسة جاذبةٍ للقارئ لأننا في عصر الجودة والمنافسة الذي لا مكان فيه للنتاج الرديء.
ثانيهما: كيف نقدم المادة للطفل؟: في الإجابة عن هذا السؤال يجب أن نبحثَ عن أفضل صيغة لإيصال المحتوى، سواء أكانت في كتابٍ مقروء أو مسموع أو عرضٍ متلفز، أو عبر الأجهزة اللوحية الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعيّ، وهنا تقع مسؤوليةٌ كبيرة على دور النشر التي لم تطوّر عملَها وتواكب المستجداتِ الجديدة، وظلّت مقتصرةً على إنتاج المحتوى في كتاب ورقيّ فقط، إذ عليها أن تتغيرَ وفقَ التطوراتِ التقنية المتقدمة، فتصنعَ المحتوى الرقميَّ الموازيَ للكتاب الورقيّ بعدّةِ طرقٍ منها:
- القرص المدمج: ويتضمن القرص الموزَّع مع الكتاب محتوى الكتاب والصور ليقرأه الطفل رقمياُ كما يقرؤه ورقياً.
- العرض المرئي: ويكون بتحويل القصة من الكتاب لعرض بصري (فيديو قصير) فذلك شائق للأطفال أكثر من الكتاب ويتناسب مع رغباتهم وميولهم.
- موقع شبكة المعلومات: حيث تحجز دور النشر موقعاً على الشبكة الدولية للمعلومات وبوساطة التخزين السّحابيّ يمكنها تحويل المحتوى الموجود في الكتاب، إلى ملفٍّ رقمي ثابت يدخل إليه الأطفال لقراءته ومشاهدته دون كتاب ورقيّ أو بثّ تلفزيوني.
ولا يخفى على الباحثين والآباء كثرة المحتوى المعروض في وسائط التواصل الحديثة (تويتر، إنستغرام، سناب، فيسبوك، واتس أب، يوتيوب...) وسهولة تصفحّها حتى من الأطفال دون سنّ الخامسة أحياناً، ومن المظاهر العجيبة التي تلفت الانتباه في المقام أن يتحدث طفل لم يبلغ العاشرة من عمره عن نجوم كرة القدم، أو أبطال المسلسلات، أو ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي، أو الماهرين من الطبّاخين، وكأنه خبير استراتيجيّ في هذا الشأن، وذلك بما يشكله من ضياعِ الوقت والجهد وأذى العيون المحدّقة في الأجهزة، مع ضحالة الحصاد المفيد لهؤلاء الأطفال، وهنا تكمن مسؤوليةُ الآباء في تنظيم وقتِ الأطفال، وفي توجيههم نحو المحتوى المفيد لهم في حاضرهم ومستقبلهم.
لا بدّ من التصدي للسلبيات ومحاصرة المحتوى الردي والهدّام
وبالنظر إلى المحتوى المصنوعِ في معظم تلك القنوات والوسائط، فإننا نجد فيه القليلَ من السمين المفيد للطفل، والكثيرَ من الغثّ الهدّام الذي ينبغي للطفلِ ألّا يشاهده، ومن الأمثلةِ المؤلمة على ذلك أن إحدى الأمهات من ناشطات (إنستغرام) نشرت مقطعاً لابنتها ذات السبع سنوات، وأسمعتها مطالعَ أغنيات لأكثر من عشرين مغنياً ومغنية، وتسألها: من هذا؟؟ أو من هذه؟؟ فتجيب الطفلةُ إجاباتٍ صحيحةً من معرفة الصوتِ فقط، دون الصورة، لكن _ والحالة هذه _ لا تعرفُ تلك الطفلةُ اسمَ عاصمة بلادها، ولا أسماءَ شهور السنة، ولا ألوان علم دولتِها، كما بدا من استفسارات المعلّقين الذين تفاعلوا مع الفيديو، وهذا يدلّ بالحجّة والبرهان على التسطيحِ في صناعة المحتوى، وتحميل براءة الأطفال أكثرَ مما تتحمّل من انحرافاتٍ ومساوئ واتجاهاتٍ غير محمودة العواقب.
وفي ظاهرةٍ خطرةٍ أخرى نجدُ صانعي المحتويات الهدّامة قد جعلوها مصدرَ ثرائهم ووسيلةً لكسب المال، فكلّما زادَ عددُ متابعيهم زادت مكافأتهم المادية، لذلك تراهم يحرصون على استقطاب الجمهور وجذبِ المتابعين، بتحطيم الحواجز وكسر القيود والخروج عن المألوف، والتوسّل المثير للشفقةِ وهم يطلبون الانضمام والإعجاب، ضاربين عُرض الحائط بقيم المجتمع وأمانته وسلامته الفكرية والمادية، مقابل الحصول على المالِ، وكأنّ المعادلةَ أصبحتْ مقلوبةَ المعايير، فكلما أغويتَ وأضللتَ أكثر كانت شهرتُكَ أقوى ومكاسبُك أكبر، لدرجةِ إحالةِ بعضهم إلى محاكم الجرائم الإلكترونيّة جزاء ما انتهكوا من مبادئ أساسية راسخةٍ في البنيةِ الثقافية والدينية والسلوكية للمجتمع.
الكسب المادي والركض وراء الشهرة والانتشار أفسد المحتوى المصنوع
ومن هنا تكمن خطورة صناعة المحتوى، إذ نرى نسبةً كبيرة من صنّاع المحتوى لا هدف لهم إلا الظهور والكسب المادي وجذب المتابعين، دون النظرِ لأهمية المحتوى الذي يقدمونه، وما فيه من تحطيمٍ للقيم وتمزيق لتماسك المجتمعات وإثارةِ النَّعرات والانقسامات، والتدخل في المعتقدات الدينية والمسائل السياسية، والتحريض العدواني، وخلق الإشاعات الكاذبة والمُغرِضة وتداولها، وتزوير صفحات رسميّة أو اختراقها، وما إلى ذلك من قرصنةٍ وتجسّس وتنمّر إلكتروني، وهنا تكمن المسؤوليةُ الجسيمةُ على دور النشر الخاصةِ بالأطفال والناشئة، والذي يجب أن ينصرفَ إلى غربلة محتواها المصنوع بالدرجة الأولى، ثم مواكبةِ التطور التقني وسد الفراغ الذي سيملؤه المحتوى الهدّام، وهناك قول لأحد المربين مفاده بأن العقول أوعية فارغة، فإذا لم نسارع لملئها بالمفيد فإنها سوف تمتلئ بالشرّ والأذى والنتن، وبالتالي نكون قد خسرنا الرهان على جيلٍ بأكمله....
ومن خلال معايشة واقع النشر في دولة الإمارات، والمرور على معارض الكتب وزيارة أجنحة دور النشر المختصة بالطفل، نتفاءل خيراً بهذا الكمّ المنتَج من أدب الطفل والناشئة، وذاك الإتقان والإبداع الفني في الإخراج والتسويق، كما نلمسُ عن قربٍ التطوّر الملحوظ في مواكبة التقنية والثورة الرقمية، فنرى الكتبَ الورقية يوازيها المحتوى الرقمي والكتاب السمعي – بصري، والمنتديات والمواقع المهتمة بأدب الطفل، وهذا يدلّ بدورهِ على اليقظة التامة من ناشري كتب الأطفال لخطورة عملهم، وأهمية انتباههم للمحتوى الذي يسوّقونه، انطلاقاً من مسؤوليتهم التربوية والأخلاقية، وشعورهم العالي بأهمية دَورهم في توجيه البوصلة توجيهاً صحيحاً، ومحاصرةِ المحتوى الرديء كي لا ينتشر، وفي هذا السياق برزت دور نشر رائدة في صناعة المحتوى للطفل، من خلال حضورها الفاعلِ واستقطابها لأهمّ الكتّاب، وتبنّيها للنتاج الجيد في الأعمال الأدبيّة الموجّهة للأطفال، كما ساهمت المؤسسات الحكومية والخاصة في دولة الإمارات والدول الأُخرى من خلال مسابقاتها الثقافية وجوائزها الخاصة بأدب الطفل، أن تسدّ الفراغَ وتعدّل الكفّة لصالح المستوى الهادف من المحتوى القرائي والكتابي، والتي أفرزت عشراتِ الأعمال الجيدة لأدباء وشعراء يصنعون المحتوى الراقي الهادف بموهبتهم واجتهادهم ومنها على سبيل المثال لا الحصر في دولةِ الإمارات العربية المتحدة جائزة الشارقة للإبداع العربي مجال أدب الطفل، وجوائز وزارة الثقافة والشباب في قصة الطفل، وجوائز الهيئة العربية للمسرح في كتابة مسرحيات الأطفال، ومراكز الأطفال والناشئة في الشارقة، وجمعيّة المرأة الظبيانية، وجمعية النهضة النسائية الراعية لجائزة الشيخة لطيفة لإبداعاتِ الطفولةِ في دبيّ، وجمعيّة أم المؤمنين في عجمان، وخارج الدولة هناك الكثير من الجوائز منها جائزة مصطفى عزوز لأدب الطفل في تونس، وجائزة عبد الحميد شومان لأدب الطفل في الأردن، وجوائز المجلس الأعلى للثقافة في مصر، ومنافساتٌ أُخرى تنفّذها جهاتٌ رسميّة أو خيريَة أو شخصيات ثقافيّة في معظم الدول العربية.
تضافر جهود المؤسسات والجهات المعنيّة يجعل المهمة ناجحة
إن ناشري كتب الأطفال لا يمكنهم النجاحُ في تحسين صناعة المحتوى وحدَهم، إذ لابدّ من تكامل الجهود مع المؤسساتِ الأخرى من جهات تربوية (وزارات التربية والمدارس) ومع الجهات الإعلامية (تلفاز وصحافة) وجهات اجتماعية (الأسرة والجمعيات النسائية) ومع الجهات التقنية
(الاتصالات، إدارات منصّات التواصل الاجتماعي) من أجلِ أن نرقى بصناعة المحتوى الموجّه للطفل، وتساهم تلك الجهات كلٌّ من موقعها وطبيعةِ مهامها، في تنقية المحتوى من الشوائبِ والعواملِ الهدّامة، وتقديم أفضل ما يمكن من محتوى ورقي ورقمي، يساهمُ في بناء شخصية الطفل، ويعمل على نموّها المعرفي والفنّي والجمالي والسلوكي، ويجعلها منسجمةً مع الرؤيا العامة للدولة والمجتمع، ليكون أطفالُ اليومِ رجالَ الغدِ النافعين لأنفسِهم وأسرتهم وبلادهم وأمّتهم.
درو الشارقة الريادي في صناعة المحتوى المقدّم للطفل العربي
ختاماً لا يمكننا ونحن في نهاية هذا الموضوع أن نشيحَ بأنظارنا عن الجهدِ الجبّار الذي تقوم به إمارةُ الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة، وبتوجيهات أبويّة سامية من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي؛ عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في هذا الصدد، من خلال مؤسسة ربع قرنٍ لصناعةِ القادة والمبتكرين، التي ترأسها الشيحة جواهر بنت محمد القاسمي، حرمُ صاحب السمو حاكم الشارقة، وما تشمله من مراكز الطفولة والناشئة والفتيات، وما تقوم به من أنشطة ثقافية وفعاليات جماهيرية، وما تصدره من منشورات، وما تقوم به من أعمال خيرية وإنسانية ومبادرات ثقافية، وقنوات التلفاز والمواقع الرقمية، وملتقى ناشري كتب الأطفال والناشئة، والاتحاد الدولي للناشرين، وصناعة النشر في هيئة الشارقة للكتاب ودائرة الثقافة، والمهرجان القرائي السنويّ للأطفال، حيث تكون الجهود منصبّةً في الاتجاه الصحيح، للارتقاء بالمحتوى الموجّه للطفل الإماراتيّ خاصّةً والعربيّ بوجهٍ عام، حتى استحقّت الشارقة تاجَ (الشارقة صديقة الطفل)، من خلال رسالتها الهادفة، وأهميّة دورها الرياديّ في صناعةِ المحتوى اللائق بالطفل العربي، ومواكبة التطوّرِ المتسارعِ في هذا المجال.