من الكتابة الشعريّة بدأ كلّ شيءٍ بالنسبة للكاتبة والمُترجمة السورية نور طلال نصرة، بعدما جعلت فنّ القول الشعري أفقًا مُتخيّلًا أساسيًا في سيرتها الإبداعية إلى جانب الترجمة والمقالة. بل إنّ صاحبة "جدران عازلة للصوت" تحرص بشكل قويّ على مواصلة كتابة الشعر رغم شهرتها في العالم العربي كمُترجمة لعدد من الأعمال الأدبيّة الهامّة، مثل: "مذكرات براس كوباس بعد الموت" لماتشادو دي أسيس، و"سيدة تائهة"، و"منزل البروفيسور" لويلا كاثر، و"بني أصفر" لباولو سكوت. وهي روايات تُعيد الاعتبار لنور طلال نصرة كمترجمة سورية، وتنتزعها من سراديب الصمت السوري ومآزقه، صوب مناخات أدبيّة عربية أخرى مُنفتحة على مؤسّسات وثقافات وكُتّاب ومعارض. فحين تُترجم الشاعرة روايات عالمية يشعر القارئ وكأنّها تستثمر كلّ ذلك المخزون الشعري وتُعيد تجديده وبلورته على تضاريس الرواية الغربية المُترجمة. وبما أنّ أغلب المترجمين العرب يتصيّدون الروايات العالمية المُتوّجة حديثًا، فإنّ ضيفتنا لا تجد ضيرًا في هذه الطريقة التي تُحاول استغلال اللحظة للتقرّب من عوالم الكاتب وفهم ميكانيزمات عالمه التخييلي من أجل تحويله إلى لغةٍ أخرى بكلّ ثقافتها وحضارتها. هنا، الترجمة بمثابة مُثاقفة تلقائية تتمّ بين عملية الترجمة، بحيث لا تقوى المؤسّسات الثقافيّة والدبلوماسيات الموازية التي تخترعها الحكومات والأنظمة على محاكاة هذه العملية التوليدية للنصوص والصُوَر والمَشاهد كما عملت نور طلال نصرة على بلورتها داخل لغة الضاد.
عن الشعر والترجمة والجوائز، كان معها هذا الحوار:
(*) بداية، كيف تعيشين هذا التعدّد المعرفي في ذاتك بين الترجمة والكتابة الشعرية ونظيرتها القصصية، وأيضًا فنّ المقالة؟
أعيش هذا التعدد بكل انسجام، فهو لم يأت دفعة واحدة ليتخبط في داخلي، أو أشعر بغرابته، أو عدم تجانسه، بل على العكس تمامًا، كان نتيجة تراكم قراءات ومهارات وخبرات، تجانست شيئًا فشيئًا حتى باتت تصبّ جميعها في مصلحة النتاج الأدبي، سواء كان شعرًا، أم ترجمة. أثمر هذا التعدّد بعد سنوات عن ذائقة جيّدة نوعًا ما كانت كفيلة بإنقاذي من مآزق كثيرة في اختيار الترجمات والمفردات، وكانت كفيلة أيضًا بتأجيلي لبعض المشاريع الأدبية التي شعرتُ أن وقتها لم يحن، ثمة درجة من النضج لم أمتلكها بعد، وإن كنتُ قد خطوتُ نحوها بثقة، لكنني لا أدّعي امتلاكها، فهي تحتاج كثيرًا بعد. ما أدّعي امتلاكه بكل ثقة هو قدرتي على الفصل بين مهنتي في الترجمة وشغفي في الشّعر والكتابة الإبداعية عمومًا، مع تلاقيهما في نقاط مشتركة طبعًا.
(*) رغم شهرتك في السنوات الأخيرة كمُترجمة، إلاّ أنّك تحرصين بقوّة على البقاء أمينة للصنعة الشعريّة ومُتخيّلها. ما السرّ وراء هذا الانجذاب إلى الشعر؟
أحرص أن أبقى في ملكوت الشّعر، وألاّ تبهت صورتي الشّعرية، فالشّعر هو التكوين الأوّل الذي خرجتُ به من شرنقة العزلة إلى فضاء الكتابة، لهذا حاولت جاهدة أن أحافظ على الصنعة الشعريّة، بيد أنّ استغراقي في الترجمة لمدة أربعة أعوام كاملة من دون توقف استنزف طاقتي بقوة، وجعلني رهينة لمهنة الترجمة التي أعشقها بالطبع، لكنها مهنة أنانية، تشغلك بأدّق التفاصيل في العمل، وتوجّه تركيزك لخلق كتاب خالٍ من الأخطاء قدر الإمكان، لهذا أزحتُ الشّعر جانبًا وركنته في زاوية أمينة قدر الإمكان، لأنني رأيتُ كيف بدَت القصيدة خجولة أمام سطوة الترجمة، ولا تمتلك ما تدافع به عن نفسها، وبتّ أشعر أنني في مأزق أمام نفسي كشاعرة رغم يقيني أنني سأعود بقوّة إليه.
(*) صدرت لك قبل شهور ترجمة جديدة بعنوان "بُنيّ أصفر" للكاتب البرازيلي باولو سكوت. ما الذي تُقدّمه هذه الرواية في نظرك إلى القارئ العربيّ؟
تقدّم الرواية أمرين هامين للقارئ العربي؛ أوّلهما: تُعدّ بتفاصيلها الكثيرة رحلة ممتعة في شوارع وأحياء مدينة بورتو أليغري، وهي استكشاف ومسح للتصنيفات العرقية والأطياف اللونية في ذلك المجتمع المتنوّع والمتشعّب. فهي تتناول البرازيل وتقدّمه للقارئ العربي البعيد جدًا، جغرافيًا وأدبيًا، عن البرازيل، والذي بالكاد يعرف القليل عن هذا البلد المتنوّع عرقيًا وثقافيًا، المعروف أنّه بلد "الديمقراطية العنصرية"، البلد الذي يسير نائمًا على حد وصف كاتب الرواية باولو سكوت، حيث يتسبب له تنوّعه العرقي بلعنة مستدامة تسم أكثر من ثلث سكانه. ففي البرازيل، لا يكفي أن تكون فاتح البشرة لتنأى بنفسك عن التصنيف العرقي وتهمة العنصرية وشعور الذنب أنك من العرق الأسود.
والثاني: تقنية السرد التي اعتمدها الكاتب بمفردات بسيطة ولغة سريعة وبعيدة عن اللغة الكلاسيكية الروائية، حتى ليشعر القارئ أنه أمام مشهد سينمائي، بدلالات بصرية واضحة، تفرض إيقاعًا ومواكبة سريعة لأحداث الرواية وتقاطعات الحوارات، وتجاذبات الشخصيات وصراعاتها، وكأنّ الكاتب اعتمد تقنية الديكوباج في تقطيع أحداث الرواية إلى مشاهد مرئية.
(*) من المُلاحظ أنّ باولو سكوت قد وصلت رواياته "الأنماط الظاهرة" إلى اللائحة الطويلة من جائزة البوكر الدولية. كيف تنظرين إلى هذا النوع من الترجمات الذي يتصيّد هذه السياقات. هل ترينه صحيًا؟
نعم، لا ضير في أن تتصيّد الترجمات الأعمال التي تبرز في قوائم الجوائز، على العكس تمامًا، أرى أنه من الضروري الاهتمام والإضاءة على هذه الأعمال المهمة في غالبيتها، والتركيز على ما ينتجه الأدب اللاتيني والأوروبي. وأريد هنا أن أشير إلى أنّ عنوان الرواية باللغة الإنكليزية "الأنماط الظاهرية"، الذي وضعه المترجم دانيال هان، مختلف عن العنوان الأصلي، لكنني فضّلت، بعد التشاور مع الناشر، أن يبقى العنوان كما هو باللغة البرتغالية "بُنيّ... أصفر"، لتكون النسخة العربية أقرب للأصل، علمًا أنّ المترجم دانيال هان مُبدع وأمين في نقل الرواية إلى اللغة الإنكليزية حتى في أبسط تقنيات السرد التي استخدمها الكاتب سكوت.
(*) بغضّ النّظر عن القيمة الحضارية التي يمنحها فعل الترجمة، وما تُمارسه من مثاقفةٍ تلقائية بين المجتمعات؛ كيف تفهمين عملية الترجمة في الزمن المعاصر؟
عملية الترجمة هي حركة ثقافية تتوالد دائمًا وتنتعش دون توقّف، كما أنها امتداد لما قدّمته الثقافات والحضارات على امتداد العصور، ولا تختلف المنهجية الحديثة في العصر الحديث كثيرًا سوى أنها أصبحت أكثر انتشارًا واطلاعًا وإدراكًا لمفاصل وأهمية هذه العملية الثقافية. ثمة متعة في الإنجاز وتقديم عمل بكامل تفاصيله وأجوائه وطقوسه ومفرداته، إنّها فسحة ثقافية، لا تخلو من المشاكسات، فهي مهنة متعبة ومرهقة جدًا، تتطلب بحثًا كثيفًا، تركيزًا عاليًا، وقتًا وصبرًا وهدوءًا، ليخرج العمل بصورة جيدة وشبه متكاملة. إنّها عمل شاق ومُرهق، وتستدعي توازنًا نفسيًا وصفاءً في الذهن، كما تتطلب جرأة من المترجم ليتغلغل عميقًا ويكشف أبعاد النص بدون أن يحيد عن المدلول الصحيح، فالمترجم أمام مسؤولية أخلاقية ومهنية.
(*) ما الدوافع المعرفية والأنماط الفنّية والمُحدّدات الجماليّة التي تجعلك تختارين رواية دون أخرى؟
الاكتشاف في حدّ ذاته دافع لكل ترجمة، وأنا شغوفة بكل جديد في ما يخص الترجمة واكتشاف النصوص الجديدة وسبر عوالم الكتابة، والاطلاع على الثقافات. لهذا، قلّما أرفض ترجمة، فلكل ترجمة جمالياتها وتقنياتها. أحبّ الأعمال التي تتناول موضوعًا اجتماعيًا، أو ثيمة ما، كما رواية "بُنيّ... أصفر"، ثمّة حوارات وقضايا ثقافية وسياسية واجتماعية وعنصرية وعرقية في رواية واحدة، عنف، واحتجاجات، واعتقال، وحب، وصراعات داخلية، وسخرية، وارتباطات عائلية، ونزاهة ومبادئ ثابتة، نقرأها من دون ملل في رواية واحدة. فالكاتب لا يترك لنا مجالًا لالتقاط أنفاسنا، كما أنه بتكثيفه وطرحه العميق وغير المألوف يجعلنا نتساءل طيلة الرواية عن الحادثة التي تقلب حياة بطل العمل رأسًا على عقب، الحادثة التي تدفعه إلى مسار حياة مختلف. يمكنني القول هنا إنّ لتقنية السرد جمالية كبيرة تورط المُترجم أحيانًا وتتحدّاه.
"ما تزال حركة الترجمة غير مرضية في العالم العربي، فهي تسير ببطء مقارنة بحركة الترجمة العالمية" |
أغلب ترجماتي من اختيار الناشرين، وما من سبب يجعلني أمتنع عن ترجمة عمل سوى أن يكون مترجمًا من قبل، فهنا هدر للجهد ومضيعة للوقت. أميل إلى اللغة الرصينة الرشيقة، ولا تستهويني الروايات الأميركية الحديثة، فثمة استسهال في الكتابة، أو لنقُل كتابة سريعة تلائم متطلبات العصر الحديث، لهذا فهي ليست المفضّلة لدي.
(*) ألاّ تعتقدين أنّ الأدب قد حظي بعددٍ هائلٍ من الترجمات التي لا يستطيع المرء عدّها، مقارنة بالكتابة النقديّة، ونظيرتها الفكريّة؟
صحيح أن عدد الترجمات الذي يصدر كلّ عام هائل، لكن بالرّغم من ذلك ما تزال حركة الترجمة غير مرضية في العالم العربي، فهي تسير ببطء مقارنة بحركة الترجمة العالمية. رغم تسارع بعض الدور مؤخرًا لشراء حقوق أهم الروايات عالميًا، لكن هذا لا يكفي. كما نفتقر إلى مشاريع كبيرة تدعم المترجمين، أو مؤسسات تحمي حقوقهم. ونفتقد للتنسيق بين دور النشر، فيحدث أحيانًا أن يُترجم عمل واحد من قبل مترجمَين في آن معًا، من دون علمهما طبعًا، وفي هذا إهدار لجهد المترجم ومضيعة لوقته. وهنا لا أنفي أننا مُقلّون جدًا بالكتابة النقدية والفكرية. وأعزو السبب، حسب رأيي، إلى المنظومة الفكرية والدينية في العالم العربي، التي تتسبب بتقييد كبير أدى إلى تقليص دور النقد والفكر، وحصره في بعض الأسماء التي انتشلت نفسها باكرًا وتحررت من قوقعة الكبت الفكري.
(*) من أصعب الترجمات الأدبية تلك الخاصّة بالشّعر، إذ يُفترض أن يكون المترجم شاعرًا في الأساس، أو يمتلك ذوقًا جماليًا رفيعًا. ما السّر وراء عدم ترجمتك للشّعر، رغم أنّك شاعرة؟
على العكس تمامًا، بدايتي في الترجمة كانت مع الشّعر. ترجمتُ قصائد كثيرة للشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث في أثناء دراستي الجامعية، وقصائد لشعراء آخرين، لكن اختيارات دور النشر ترجّح كفّة الروايات أكثر، ولهذا لم أصدر عملًا شعريًا من ترجمتي. وقد تكون موهبتي الشعرية هي ما دفعتني لترجمة الشّعر آنذاك، فلم أكن أعلم حينها أن ترجمة الشعر هي أصعب أنواع الترجمة. امتزجت موهبتي الشعرية بشغفي في الترجمة، فأخرجت نصوصًا جميلة، مقارنة بإمكانيات مترجمة مبتدئة. شعرتُ حينها أن الأمر ليس مجرد تسلية، وأنه بالفعل ثمة مترجمة في داخلي، وأن دراستي الجامعية لم تكن فقط لمجرد الحصول على شهادة تخوّلني العمل. نشرتُ بعدها ترجمات عدة لقصائد في صفحتي على فيسبوك، ثم انتقلت إلى النشر في المواقع والمجلات الإلكترونية. كان هذا قبل أن أنشر أول عمل.
(*) ما الذي يجعل تجربتك في مجال الترجمة مقتصرة على الروايات، مقارنة بالنقد، وما يشهده من تحوّلات؟
غالبية القرّاء يميلون لقراءة الروايات في العالم العربي، وهذا ما يجعل دور النشر تركز على ترجمة الروايات أكثر، لكن تجربتي في الترجمة لم تقتصر على الروايات فقط، لقد ذكرتُ سابقًا أنني بدأتُ مع الشّعر، كما ترجمتُ الكتاب النقدي "الأدب الإيطالي" الصادر عن مشروع كلمة في أبو ظبي. هذا الكتاب جزء من سلسلة "مقدمات موجزة" الصادرة عن مطبعة أكسفورد، وهو من تأليف الكاتبين بيتر هينسوورث، وديفيد روبي، وهما أستاذان محاضران في جامعة أكسفورد متخصصان في الأدب الإيطالي. يُعد هذا الكتاب مدخلًا إلى عالم وأجواء الأدب الإيطاليّ، ضمن رؤية غير تقليدية وغير متبعة في الاطّلاع على سمات الآداب. ينقسم الكتاب إلى ستّة فصول: التاريخ، والتّقليد، والنظرية، والسياسة، والعلمانية، والمرأة. كما ينطوي الكتاب على كثير من أسماء المبدعين الإيطاليين؛ ابتداءً من تيجان الأدب الإيطالي الثلاثة، وهم: دانتي، وبترارك، وبوكاتشيو، وانتهاءً بالكتّاب المعاصرين. علاوة على تبيانه للتاريخ الإيطاليّ الطويل، بما يشتمل عليه من حروب وانقسامات وتجاذبات سياسية وفكرية، إضافة إلى الاضطهاد الديني والفاشي، والنهضة والتحرر، وكيفية تشكل الأدب من جهة أخرى وظهور اللغة الوطنية في ظل هذه الصعوبات. الكتاب قيّم وشيّق، وغني بالمعلومات والتفاصيل عن تاريخ الأدب الإيطالي. يتناول كاتبا هذا العمل جميع مراحل الأدب الإيطالي وتاريخ إيطاليا ابتداءً من القرن الثاني عشر وحتى العصر الحديث. كما يدحض كاتبا هذا العمل الرأيّ الشائع بأنّ الأدب الإيطاليّ أدب بسيط، ويثبتان من خلال تناولهما للأعمال الإيطاليّة المختارة أنّه أدب ذو خلفيّة تاريخيّة وسياسيّة، ويتّسم بأصداء معقّدة وبعيدة المدى، وتداخلات وثنائيّات مؤثّرة، ولا يكتفي بطرح فكرة بمعزل عن دلالاتها، ولا يذكر حدثًا من دون أن يستحضر ارتباطه بشخوص معيّنة، ولا يمكن فهم كل هذا من دون الاطّلاع على المسار الخاص بالأدب الإيطاليّ على حدّ تعبيرهما. كما أريد أن أنوّه أن ترجمة الروايات ليست سهلة على الإطلاق كما هو شائع، على العكس تمامًا لكل رواية أجواءها المختلفة، وعلى المترجم الإلمام بها، والبحث في أسلوب الكاتب والفترة الزمنية. سأعطي مثالًا؛ في ترجمتي لرواية "منزل البروفيسور" للكاتبة الأميركية ويلاّ كاثر، اعترضني تفصيل يبدو بسيطًا وهامشيًا في أحداث الرواية، وهو تناول الكاتبة لاختراع قام به البطل في مجال الطيران، وأحدث فارقًا في الحرب العالمية الأولى آنذاك، لكنها لم توضّح شيئًا عنه طيلة العمل، ولم تذكر ما هو الاختراع، وبما أنني أمام مسؤولية أخلاقية، دفعني الأمر إلى البحث والقراءة لأكثر من أسبوع لأتبيّن في إحدى المقالات المنشورة منذ أكثر من أربعين عامًا لأحد النقّاد الذين كتبوا عن ويلاّ، أن الكاتبة حذفت هذا التفصيل في الطبعة الثانية للرواية، والاختراع هو "غاز لمحرك الطائرات العسكرية"، فأشرتُ حينها للأمر بكتابته كهامش ضمن الرواية.