أعلنت جائزة أميرة أستورياس الإسبانية المرموقة قبل أيام فوز الروائي الياباني هاروكي موراكامي بالجائزة لهذا العام، لأنه "صاحب نثر ساحر استطاع من خلاله خلق عالم فريد في أراض تحدوها العزلة والفانتازيا والحميمية". ولقد تأخرت هذه الجائزة كثيرًا، بحسب صحيفة "الباييس" الإسبانية، عن صاحب "كافكا على الشاطئ"، كما تأخرت عليه نوبل، بالرغم من أنه "أحد أهم كتاب العالم الأحياء".
ولد موراكامي في كيوتو عام 1949، وحاز شهرة عالمية لرواياته "طوكيو بلوز"، "كافكا على الشاطئ"، و"IQ84"، ولمجموعاته القصصية مثل "رجال بلا نساء"، أو لكتبه النوعية، مثل "عمَّ أتحدث حين أتحدث عن الركض؟"، و"عمَّ أتحدث حين أتحدث عن الكتابة؟".
يهرب موراكامي من المهرجانات واللقاءات، لكنه شديد الاجتماعية حين يتعلق الأمر بلقاءات صغيرة، مثل زيارته إلى المدرسة العامة بـ جاليثيا لاستلام جائزة منحها له الطلاب. ما عدا ذلك، يعيش الكاتب الياباني منعزلًا في بيته مع زوجته التي ارتبط بها منذ نصف قرن، وأسس معها قاعة للموسيقى قبل أن يتفرغ كلية للكتابة.
في كتابه عن الكتابة، يقول موراكامي: "في بداية طريقي ككاتب، خطر لي أن في استطاعتي بناء عبارات كما أعزف على آلة، وهذه الفكرة لم تتغير حتى الآن. وفيما أضغط على الكيبورد، أفرض على نفسي إيقاعًا محددًا، أبذل جهدًا لأبحث عن صوت وصدى مناسبين".
هذا الإيقاع نما في سرده، وبات معديًا للقراء الذين استحالوا "فانز" له، كما يحدث في أي تجمع موسيقي. ورواياته، الكبيرة وذات السيولة الداخلية الغريبة، والتي لا تستجيب لأي قواعد متفق عليها، بل تخضع لإيقاع وتسلسل شخصي جدًا، لها مدمنون بالملايين في كل أنحاء العالم، قراء ينتظرون كل جديد بإخلاص مجرب في أكثر من خمسين لغة.
في رواياته، حكى موراكامي الفراغ الذي يواجه الشباب في المجتمع الياباني الذي يقصيهم من الحيوية والرغبة المباشرين، ويضع أمامهم صعوبات تتحول إلى مسافات فيزيائية وعقلية من الصعب تجاوزها. لقد رسم الهوَّات، والضيق، وصعوبة الحب، والهجر، ولامس في أحيان كثيرة أجواءً ديستوبية ولا واقعية. ونقل إلى العالم صورة فوتوغرافية كلية عن اليابان المعاصر فرضت نفسها على صور أخرى كثيرة، واقعية أو متخيلة، لا نعرف، لكنها كحقيقة أدبية تتميز بالأصالة.
"في "عمَّ أتحدث حين أتحدث عن الركض؟" يصف التشابه في رياضة الماراثون وما ينقله هو أيضًا إلى الأدب: الإيقاع، سرعة من يركض، والمسافة المقطوعة" |
لو أن هناك كتابًا رسم فيه صورة شخصية بكل شفافية، بعيدًا عن الضبابات والظلمات السائدة في أعماله، سيكون كتيبات حول ما يعنيه له الركض، وكان يشارك في ماراثون يقام كل عام على مدار عقود منذ سن الأربعين، وهو كتاب لا غنى عنه لمن يريد ممارسة هذه الرياضة. هذا ما يعنيه بالنسبة له الكتابة. الركض والكتابة يتحاوران في ما بينهما.
في "عمَّ أتحدث حين أتحدث عن الركض؟" يصف التشابه في رياضة الماراثون وما ينقله هو أيضًا إلى الأدب: الإيقاع، سرعة من يركض، والمسافة المقطوعة. ويعترف أنه في ساعة الجري يستخدم الخدعة نفسها التي يستخدمها في الرواية الطويلة: "أتوقف عن الكتابة في اللحظة التي أشعر فيها أن بوسعي أن أواصل الكتابة".
وفي كتابه الثاني "عما أتحدث حين أتحدث عن الكتابة؟"، يقارن الأدب بحاجز كل من يريد أن يتجاوزه سيتجاوزه. إنه بمثابة القفز فوقه والصراع. وتجاوزه سهل، معتاد. لكن قليلين من يقاومون، بحسبه. قليلون من ينتصرون، وهو انتصر.
يقول الكاتب الياباني: "العالم مشيد بأحجار ثمينة، جذابة وملغزة. والكتاب مزودون ببصر كاف ليعملوا في هذه الحجارة. بالسلوك المناسب يمكن جمع واختيار كثير من هذه الأحجار ونحتها كما يشاء. هل ثمة مهنة أخرى تقدم هذه الفرصة الرائعة؟".
الباحث عن الأحجار الكريمة الذي كان موراكامي، يفوز الآن بجائزة عاندته كثيرًا، كما عاندته نوبل. وعامًا وراء عام، يصل إلى اللائحة النهائية، إذ يتمتع بمدافعين كافين ليصل إلى النهائيات والأصوات المؤيدة، لكن أيضًا له من يقف أمام فوزه النهائي.
"أنا لا أحلم. أو لا أتذكر أحلامي، لكن أدبي مليء بالأحلام، أتخيلها. لي صديق طبيب نفسي اعتاد أن يقول لي: ’اكتب، ليس عليك أن تحلم’"، يقول في حوار له لجريدة "الباييس" عام 2019. وسواء تحقق حلمه أم لا، فهذه المرة دق الحظ بابه.
وفي تعليقه على نوبل، قال: "إن الأكاديمية لا تنشر الأسماء المرشحة. كلها تكهنات من ناشرين ولا تهمني. لكني سعدت بفوز ديلان، وإيشيجورو، لأني أقدر أعمالهما. إن الكتابة بالنسبة إليّ مثل الهواء، وأنا أستمتع بمتعتها الصافية والسعادة النابعة منها: وهذا هدف حياتي. أنا سعيد بذلك. وكل ما عداه لا يهمني".
سواء همّه غير ذلك أم لا، يصعد موراكامي اليوم السلم الكبير إلى جائزة أميرة أستورياس للأدب.