مع فتح سجون النظام السوري البائد ومراكز التعذيب والإذلال الممنهج، ردّد قرّاء الروايات العربية وذوو الشأن السردي الإبداعي اسم وحيد الطويلة. الصلة ليست مستهجنة لمن يعرف رواية "حذاء فلليني". هذه الرواية الصادرة العام 2017 عن دار المتوسّط في ميلانو روت بعضاً من معاناة الفرد العربي في كنف وأسر وحش التوتاليتارية العربية المتألّه والممعن في إذلال من يحكمهم وسحق كراماتهم. في الرواية يتواجه السجين السابق مع جلّاده.
الآن وقد سنحت فرصة الانتقام ماذا قد يحدث. تجيب شخصيات الرواية عن ذاك السؤال أو تحاول، أمّا الطويلة فله إجابته الخاصّة التي خصّ بها "المدن" مع إجابات عن أسئلة أخرى حول منجزه السردي (3 مجموعات قصصية و8 روايات بينها "باب الليل" الحائزة جائزة ساويرس فرع كبار الكتّاب) وآخر أعماله "سنوات النمش" الصادرة عن 3 دور نشر فى توقيت واحد "المحرّر" فى مصر، و"طباق" فى فلسطين و"مقاربات" فى المغرب، والتي تقارب السيرة الذاتيّة وسيرة المكان في آن.
- بطل رواية "حذاء فلليني" يخرج من سجن سوريّ ويتعرّض لاختبار صعب حول الثأر من الضابط الذي عذّبه وأهانه، أيضاً زوجة الضابط لديها تلك الفرصة، هل استبقت الأحداث أم تنبأت بها؟ ماذا يعني أن يستبق الخيال الواقع؟ هل المبدع مستبصر؟
* المبدع بالطبع ليس عرّافاً ولا متنبّئاً، لكنّه قارئ بارع للواقع ولقدم التاريخ الثقيلة، يعرف بالبصيرة والحدس والتحليل مآل الواقع وإلى أين يتّجه. هذا يجرّنا لسؤال مهمّ جدّاً: هل يكتب الروائيّ ما حدث؟ ما عاشه أو ما يعيشه الآن؟ أم يكتب ما سيحدث أو حدث في زمان آخر لا نعلمه؟ حافظ الأسد خلق واقعاً لا يمكن لبشر أن يتحمّله، إلى درجة أنّ الكتب والفنّانين كانوا يصرخون: "أين أنت يا الله؟" البعض لم يصرخ لأنّهم حقنوه بالجرعة الأكيدة أن حافظ ومن بعده بشار هما الله. في شوارع سوريا رأيت تجمّعاً كبيراً يهتف: "يا الله حلّك حلّك، يقعد حافظ محلّك". مع حكم الأسد ماتت كلمة الأمل، خرجت من اللغة العربيّة. لا أستطيع أن أدّعي استبصاراً ولا أستطيع أيضاً أن أنفيه، قبل ثورة يناير بسنتين أو ثلاث كتبت "أحمر خفيف"، طلب مني الأبنودي أن أحكي له حكاية الرواية، لفقت له ما استطعت، صمت ثم قال: الشعب المصري؟ كان الشعب نائمًا في المستشفى وملائكة الموت يحومون حول سريره والنعش رابض على بوابة المستشفى، تركت النعش على الباب وصرفت الملائكة مؤقتًا، حين قامت الثورة تسابق أكلة الموائد على إدعاءات أنهم تنبأوا، ولديهم الصحف والأصدقاء الخبيثون الذين يقبضون والمنتفعون، لم يلتفت لنبوءتي إلا القلائل.
مع ثقل مرور الوقت تحت الإستبداد وطوله وقدمه الباطشة وحذائه الذي سميته: الكعب العالي، كان من الصعب بل من المستحيل على إنسان أن يحلم بزوال القهر، لكنّني كنت مؤمنًا بجملة فيلليني: لا شيء أصدق من حلم. على أيّة حال، أصطفيك لأخبرك أنّني أحلم بالأموات، وفي لائحة أحلامي كلّ المستبدين والطغاة.
- هل تحلم بما ينتظرهم؟ هل سيتسامح المعذَّب مع معذِّبه والمرأة مع قاهرها؟
* سأحكي لك حكاية وقعت منذ أيّام، حفيد موسوليني أحرز هدفاً مع فريقه الإيطالي بالطبع، حين جرى بعد الهدف فرحاً وضع إصبعاً على فمه بمعنى ألّا يفتح أحد فمه أو يأتي على سيرة جدّه بشيء يوجعه، المفاجأة كانت في هياج قسم كبير من الجمهور وقيامهم في لحظة غريبة بالتحية الفاشية الموسولينية، ألهذه الدرجة يعشق الناس سيرة جلّاديهم! أسئلة رواية "حذاء فيلليني" كانت واضحة ومحدّدة: هل يقتل المعذَّب الجلّاد أم يعذّبه أم هناك باب للتسامح معه؟ شخصياً خارج وداخل الرواية، قولاً واحداً: لا تسامح مع الجلاد، يجب أن يُقتلوا جميعاً بالدم البارد نفسه كي تشفى الصدور، ألا يمكن أن نكون فاشيّين لمرّة واحدة في حياتنا؟ الحديث عن عدالة إنتقاليّة أمر جيّد وحضاريّ، لكنّ هذا مقبول عند وقوع ظلم، أمّا أن تُسحل آدمية الناس في سجن صيدنايا وغيره بهذا الشكل فلا تسامح إلّا في إطالة فترة القتل. معظم الأنظمة العربيّة مستبدّة، لكنّ نظام الأسد شفط الهواء والكرامة من البلد. نحن بشر في دولنا من الدرجة العاشرة، تأكلنا عشيرة الرئيس والبطانة وأقاربهم والأمن ولا تترك لنا سوى فتات الدعاء، نحن لا نستطيع أن نملك ترف هذا العفو. حين تسألين أحدًا عن سبب قيام الثورة في مصر، سيقال الجوع والفساد لكنّ السبب من وجهة نظري هو اليد الغليظة الباطشة للدولة المتمثّلة في إهانة الأمن لكرامة الناس. سحل كرامة البشر بحجة حماية الوطن هراء، هو حجّة البطانة وخطاب متطرّف في فاشيته: فلتمت كرامة الناس من أجل الوطن. صحيح في النهاية أنّ الأوطان يجب أن تبنى على تجاوز الألم لكن لا بدّ من قصاص قاسٍ لا عادل.
- "النساء هنّ من سيسمعنني وإن بأفئدة مكسورة، أمّا الرجال فقلوبهم مهشّمة وما تبقّى منها تحوّل إلى حجر". هذه جملة ملفتة في الرواية، هل أتت من تواصلك مع القارئات؟ لماذا تسمعك المرأة أكثر من الرجل؟ بسبب حساسيتها أم لأنك تجيد التحدّث عنها وإليها؟
*حين كتبت رواية " كاتيوشا"، خرجت مراجعات كثيرة، لكن اللافت أن أكثر من تسعين بالمائة منها كانت للنساء، كاتبات أو قارئات، كان سؤالي: لماذا؟ هل لأنّ الرواية على لسان امرأة وهذا أمر صعب بالطبع على كاتب مهما امتلك من التجارب والروح، هل لأنّني في لحظة سحريّة مسّني شيء من روح المرأة؟ هل كنت أخزّنه؟ صادقت نساء كثيرات مع أنني أعترف أنني شخص خجل، لم أفهمهنّ ولا سعيت، أحببتهن هكذا بكل حمولتهن، وللأسف لم أتعلم المكر والحيلة منهن. ربما السبب يرجع إلى أنني أصدق حيلة النساء أكثر من فراسة الرجل.
في روايتي: "الحب بمن حضر"، أظنني قلت إنّ الرجال هم من يقعون في الحبّ، النساء لا يقعن غالباً، المرأة تفكّر. كان ماركيز يقول إنّني مدين للنساء، وأنا أيضاً. ولدت في منطقة صعبة تأكل الرجال، تأكل الجميع، بشر في غاية القسوة، لكنّنا نجونا بفضل حنان النساء وغنائهنّ. تضيق الدنيا وتتّسع وفي الأزمات والفواصل تربّت أيدي النساء. يموت العائل فتضيق الدنيا، تموت الأمّ فتنتهي الحياة، أتألم كثيراً عند موت الأمّهات.
- "سنوات النمش" رواية سيرة أو سيرة روائية، تحكي قصتك وقصة المكان الذي نشأت فيه، مكان استثنائي ساحر ومدهش ومرعب. تقول إنك بدأت الكتابة بالمقلوب، عادة ما يبني الكتاب مشروعهم الروائي على الأكثر إدهاشاً في سيرتهم وحياتهم، أنت فعلت العكس. لماذا؟
* لم أفعل العكس بالضبط، بل بدأت من منطقتي برواية "ألعاب الهوى"، لم أستطع تجاوز فكرتها. شيخ جامع في أقصى منطقة في الشمال حيث البراري والهيش، يأتيه عزرائيل ليطلب منه أن يعود معه لكنّه يتحايل عليه، في النهاية يجد نفسه أمام الميزان وأن حسناته تعادل سيئاته، ويحتاج فقط لحسنة واحدة كي يدخل الجنة، راح يدور طول الرواية بحثًا عنها، في النهاية لم يجدها للأسف. هناك نوع من التماس أو بعض التماهي بين هذه الرواية ورواية سنوات النمش لوحدة المكان، الذي أخذ حيّزًا كبيرًا في سنوات النمش. السؤال أيضًا ألم أخش من ذلك؟ الحقيقة أنني أؤمن بمقولة فيلليني: يمكنك أن تصنع من هذا الفيلم فيلماً آخر.
الروايتان للحقيقة مدهشتان، الأولى فكرتها لا تأتي في العمر مرّتين وهي وفق البعض من أجمل ما كتبت، فكرة لم تأتِ حتى لماركيز، بل إنّهم استكثروها عليَ في البداية وقال شاعر مشهور: إنها بيضة الديك، لكنّه لم يكن يعرف أن الديوك تبيض أكثر من مرة في منطقتنا، لكن حتى لا أكذب عليك فإن سنوات النمش أرى فيها المكان بعين الطفل، فيها سيرة ذاتية للمكان نفسه ولروح الطفل الراوي داخل النص.
- هل خفت أن تكتب نفسك بلسانك؟
* ربما، خصوصاً أننا في عالم عربي لا يصدّق الخيال ولا يؤمن به، أحد النقاد المشهورين حين قرأ "ألعاب الهوى" سألني: لماذا لا تكتب عن نفسك؟ يومذاك كانت الكتابة الملتصقة بالذات منتشرة كما كان يتمّ تأويل كلّ ما كتبته النساء على أنّه ذاتيّ وحدث بالفعل. وربما هناك سبب آخر: كنت أخشى أن أكتب سنوات النمش حتى لا أعتبرها نهاية وأغلق دفاتري بعدها، لكنّني فعلتها في لحظة نزق، مؤمناً أنّ رزقي سيتبعني وهناك العديد من القصص التي أحبّ، عشتها أو سأعيشها تستحقّ الكتابة. تأخّرت نعم، ربما كنت آخذ الكتابة بالرهبة، وكانت مقاعد الكتاب محجوزة بالكامل عند جيل التسعينات الذي أظنه كان جيلاً إقصائياً لمن هم خارج رؤيته بل وخارج لغته، والغريب أنهم جميعًا تمّ إقصاؤهم تقريبًا، كانت حساسية الحبر الأعظم إدوار الخراط تظلّلهم بما تحمله من تنويعات مبهرة: عبر النوعيّة وكتابة البنات وعرامة الاحتشاد والحساسيّة الجديدة. أنا جئت بحساسيتي وحدي بعد تطوافي داخل عوالم كثيرة، كان الجوّ طارداً ورغم ذلك حين كتبت القصص القصيرة جداً، ربما صادفت تصوّر الخراط ولعبت في منطقة تورغنيف، جمل قصيرة وهي دائماً جملتي وتلتصق برؤيتي عن اللغة...
جئت من منطقة بدائية في معيشتها وقوانينها، أخذ منّي التزامي الأسريّ والمجتمعيّ وقتًا وحملت عبئاً ثقيلاً، واحتجت وقتاً لأرى، ربما لم يكن وقتاً طويلاً، كان وقتاً محتشداً مكثّفاً عثرب به على صوتي وكوّنت قناعات جديدة بحكم المعرفة، عشت حياة متنوّعة وعملت في بيئات كثيرة، وأظنّ أنّني صنعت حيوات أخرى داخل هذه الحيوات التي تبتلت فيها ورأيت ذلك فقط لحظة الكتابة. بعد ألعاب الهوى عثرت على صوت آخر لي مضى معي حتّى لحظتنا، صوت يحبّ كتابة الآخرين، يحكي عنها وعن اختلافها لكنّه يغنّي في شارع آخر.
- هل أجّلت "سنوات النمش" لأنّك خفت أن تبقى أسيرها؟ ويبقى القارئ أيضاً أسيرها؟
* أظن ذلك، هذا عالم غير معروف في الكتابة وأيضًا في الواقع لا يصدّق أحد وجوده، لذا كما قلت في النصّ إن سئل واحد: من أين؟ يردّ من منطقة على شمال السماء أو من تحت المحيط ويختم بأنّه تمّ ضمّها بعد خلق الأرض بقليل.
ربما عشت مهموماً بمن حولي على أصعدة كثيرة: أهلي وأهل قريتي ومركزي وأصدقائي الخبيثون الذين "لا يحسنون بهاء السقوط الأخير" كما يقول جمال القصاص، لكنني جئت أيضًا من منطقة مجهولة، لم تبق في عيني صور أغنيائها، بل صورة الغلابة فيها، أنا مخلوق بهذه الروح واخترتها حين كبرت وكتبت. النمش طلع في وجهي، استقر ولعلع، النمش الآن وفي الحقيقة لمحة جمال في وجوه الخلق، الأطفال في قريتي لا يعرفون النمش، يرونه عيبًا في الخلقة، يصفونه بالعدس لأنهم يشاهدونه في المصارف ويأكله البط، سبّني الولد الذي يكبرني حين أحرزت هدفًا في مرماه، وقال لي: "يا معتس" بل أوعز لبقية الأطفال أن يطلقوا هذا الأسم عليَ، الأطفال أيضَا قساة. لكنني بروحي التي يعلو فيها الغناء والطرب والسخرية تجاوزت ذلك وتعاليت عليه ورأيت النمش الأسود في نفوس من استوطنوا هذه المنطقة، أنا أحبّ شخصيّاتي بالطبع لكنّ شرّ الكتابة غاص في النمش. أحببت أن أراه بعين الطفل صبوحًا دون غضاضة، أكتب وأضحك. ربما جاء وقته.
- أعرف ولعك بالمقاهي العربية، بينما يتبدّل مفهوم المدينة العربية ككلّ ماذا يحدث للمقهى؟ هل سيهمّش حدّ أنّنا لن نعرف ملامحه في المستقبل؟
* أخشى دائمًا هذا السؤال، لن يتبقّ لي شيء إذا انقرضت المقاهي أو تغير شكلها وظيفتها... لم أكتب حرفًا خارج المقهى، لا أظنّ أنّ المقهى سيتأثّر كثيرًا، كلّ المطابخ الجديدة لم تمنع أبدًا وجود المطبخ القديم وإن قلّلت من حضوره، له عشّاقه كما للمقاهي عشّاقها، أمشي أحيانًا خمسة كيلومترات لأكتب في المقهى الذي يناسبني. غير أنّ ملمحاً مهمّاً طغى على حياة المصريين بشكل عامّ هو تشغيل القرآن معظم الوقت في سيّارات الميكروباص في كلّ أنحاء الجمهورية، انتقلت الحكاية إلى المقاهي، رغم صوت زهر الطاولات والدومينو الأخيرة والورق، كأن الجميع يخشى من عقاب ما أو من غياب الرزق، أو هو بالأحرى مزاج المصريّين الذي تبدّل في الثلاثين عامًا الأخيرة وحلّت مظاهر السلفيّة على المدن والقرى. لم يسلم الغناء أيضاً، سطوة عمرو كباب وتامر الآخر في مصر... أتمنّى أن تستمرّ المقاهي كما أحبّها كي أكتب الروايات الأربع التي في رأسي، إذا تغيّرت المقاهي أو اندثرت سأتوقّف حينئذ عن الكتابة.