تخطي إلى المحتوى
يوميات دمشق التالية: كيف عاشت المدينة التحول بعد هروب العثمانيين 1918؟ يوميات دمشق التالية: كيف عاشت المدينة التحول بعد هروب العثمانيين 1918؟ > يوميات دمشق التالية: كيف عاشت المدينة التحول بعد هروب العثمانيين 1918؟

يوميات دمشق التالية: كيف عاشت المدينة التحول بعد هروب العثمانيين 1918؟

تبدو مدينة دمشق وباقي المدن السورية عموما، وهي تعيش هذه الأيام مرحلة دقيقة، فهي وإن بدت سعيدة، لكنها قلقة وعصيبة في الوقت نفسه. فبعد خمسة عقود من سيطرة النظام السوري، وأجهزته القمعية، على حياة المدينة وأهلها، وإذا بها تتحرر ويعلن فيها عن سقوط مرحلة «سوريا الوحشية» أو البربرية، وفق تعبير السوسيولوجي الفرنسي الراحل ميشيل سورا. وعلى الرغم مما أثاره هذا الخبر من حالة من الدهشة الممزوجة بالفرح وعدم التصديق بما يجري، إلا أن هذا التحول الكبير بحد ذاته في تاريخ سوريا والمنطقة، سرعان ما طرح أسئلة ومخاوف أخرى، خاصة أن خبر هروب حاكمها الظالم ترافق مع خبر آخر، مفاده حل الأجهزة الأمنية والشرطية كافة، ما كان يعني أن على دمشق أن تتأقلم لفترة من الزمن مع حالة من الفوضى، والسرقات، وانتشار اللصوص، وعدم معرفة متى تنتهي هذه اللحظة. وقد نجحت القوى المعارضة المسلحة في الحد من الحوادث الأمنية، لكن هذا لم يعنِ أن المدينة استقرت، أو قد تستقر في الأسابيع القليلة المقبلة، إلا أن السؤال حول واقع المدينة، لم يعد يتعلق باستقرار الأوضاع الأمنية فحسب، بل هناك من بات يسأل حول مستقبل المدينة في الفترة المقبلة، وطبيعة القوى التي لنقل أنها ستتنافس حولها، وهو تنافس يبدو أنه لن يقتصر على إدارة أحوال المدينة والبلاد عموما، بل سيكون كما يعتقد بعض الخائفين والقلقين على المجال العام وإدارته، وهو قلق لا يتعلق فقط بكون بعض الجماعات المسلحة المسيطرة على المدينة اليوم ذات خلفية سلفية، بقدر ما أنه نابع من عدم إظهار هذه القوى، أي رغبة بالنقاش مع الأطراف المحلية، سواء السياسية، أو حتى الاجتماعية، حول مستقبل هذه المدينة. ولعل من المبكر توقع حول دمشق في اليوم التالي، خاصة أن الصورة ما تزال غير واضحة حول طبيعة القوى الموجودة، ونواياها تجاه بعضها، ومدى جاهزية المجتمع للمشاركة في النقاش حول صناعة الفضاء العام، ومن هنا قد توفر العودة للماضي والتجارب التي عاشتها المدينة، مدخلاً للنقاش وتخيل المشهد العام في الفترة المقبلة. خاصة أن السؤال حول اليوم التالي ومحاولة صناعته، كانت قد عرفته المدينة قبل مئة سنة من الآن.

الحرب العالمية الأولى

فبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، استطاع البريطانيون برفقة الأمير فيصل ورفاقه، من الدخول لمدينة دمشق، التي وجدت نفسها أيضا بين ليلة وضحاها بين عالمين، الأول عثماني خسر الحرب، وآخر لم تكن ملامحه واضحة، وإن بدا أنه يؤسس لمرحلة حكم عربية في المدينة. ولعل ما يهمنا هنا في حدث دخول فيصل لدمشق 1918، يذكرنا ببعض ملامح ما نعيشه اليوم، مع ضرورة عدم الانجرار لإجراء مطابقة كاملة، أو القول إن تجربة الجولاني تشبه تجربة الأمير فيصل، كما قد يذهب لذلك البعض في استنتاجه، وإنما ما يهمنا في مشهد فيصل هو ما عرفته دمشق بعد دخوله وانسحاب أو هروب العثمانيين 1918، إذ عاشت المدينة لمدة عامين تقريبا 1918ـ 1920 نقاشات واسعة حول طريقة الحكم، وأيضا حول أساليب الضغط على السلطة، كما أنها شهدت ولادة مجال عام جديد، وأدوات جديدة في صناعة الخطاب والرأي العام، ولذلك يشكل الاطلاع على هذه الفترة فرصة جيدة.
ويشكل كتاب المؤرخ الأمريكي جيمس غلفن «الولاءات المضطربة.. القومية والسياسة الجماعية في سوريا مع أفول شمس الإمبراطورية»، ترجمة عمرو الملاح، مرجعا مهما في هذا السياق، كونه درس وتتبع بدقة مرحلة هاتين السنتين، والأساليب التي اتبعتها كل من السلطة (فريق فيصل) والقوى الأخرى في المدينة (اللجان الشعبية)، في التمدد داخل المجال العام، وإدارة الحوار مع بعضها. يذكر غلفن أنه عندما دخل فيصل المدينة، واصل العمل ببعض الإجراءات العثمانية، كما حاول الحفاظ على استقرار الأسعار، والحيلولة دون نقص الغذاء في المراكز المدينية، عبر شراء الحبوب بصورة مباشرة من المزارعين في حوران. وبدافع الحرص على أن يدرك السكان من هو الطرف المسؤول عن هذه الخطوات، غالبا ما سعى الى انضمام بيروقراطيين وصحافيين، وحتى شعراء كلفوا بنظم القصائد في مديح الأمير فيصل، كما أصدروا نوعا من العفو العام على المجرمين وأخذ مقربون منه يتفقدون المخابز، ويحاسبون أصحابها في حال حاولوا التلاعب بالأوزان. يرصد غيفن أيضا كيف عان الدمشقيون في البداية من موضوع تغير العملة، خاصة أن العملة العثمانية لم تعد قائمة ومدعومة من المارك الألماني، الذي لم تعد له قيمة آنذاك، ولذلك أخذت المدينة تشهد عملات أخرى مثل الجنيه المصري قبل أن يصل إلى حد الانهيار أيضا في خريف عام 1919. ترافق هذا الوضع مع تدفق اللاجئين من الأناضول، ووادي البقاع، والحدود الشرقية. وقد دخل اللاجئون إلى دمشق وحلب ومدن أخرى في المنطقة الشرقية في موجتين. حدثت أولاهما إبان الحرب العالمية الأولى وما بعدها مباشرة، وبدت حلب ملاذات لأكبر عدد من اللاجئين الأرمن (قرابة 37 ألفا). ويبدو أنه بعد فترة من دخول فيصل للمدينة، انقسمت الولاءات داخلها بين فريقه من ناحية، وبين فريق اللجان الشعبية، التي كان يقودها عدد من التجار الصغار، والعلماء، والقبضايات ومن اللاجئين حديثا إلى المدن، الذين تصاعد دورهم مع عام 1919 في ظل تراجع بريطانيا عن دعم فيصل مالياً، ما أضعف حكومة الأخير، فأخذت هذه اللجان تعمل على توزيع المساعدات، وتسيير الدوريات للحماية المحلية، كما أسسوا لبعض الميليشيات المحلية. ويعتقد غلفن هنا أن هذه الجماعات لم يكن ظهورا يعكس فحسب ترديا في الأوضاع في زمن فيصل، وإنما هو دليل أيضا على بروز حركة سياسية شعبية في حد ذاتها، مقابل فريق السلطة وأعيانها. وهو انقسام غالبا ما حاول المؤرخون تجاوزه، من خلال التشديد على الوحدة والتخفيف من أثر التنوع، بينما يرى أنه في العامين التاليين لسقوط العثمانيين، كانت دمشق تعيش على وقع خلافات حادة وشديدة، وتتسم بالمنافسة الشديدة بين الجماعات الخطابية، وهي منافسة حملت لاحقا إيذانا بتحولات أكبر، تمثل في دخول الفرنسيين للمدينة عام 1920. ويبدو أن هذا الصراع الخطابي قد عبر عن نفسه في أكثر من جانب، ومن بين هذه الجوانب يمكن الوقوف عند موضوع الملابس. فقد كانت الملابس في البداية بمثابة مؤشر جغرافي، وبسبب من القوالب النمطية الجهوية، فقد نال الضباط الحجازيون القادمون للمدينة نصيبا من السخرية والازدراء، من خلال وصفهم بعبارة «البدو»، ما دفعهم لاحقا الى استبدال الكوفية بالسدارة على الطراز الأوروبي، في محاولة أيضا من فيصل للقول، إن هذا التغيير يحمل التطلعات الحضرية التي يحملها متنور دمشق من الطبقات العليا. ويبدو أن هذا الأمر، قد أثار لاحقا موجة من المشاعر في الطبقات الدنيا وزعمائها الذين وجهوا في ظل شعورهم بطبقية السدارة، الإهانات إلى النساء اللواتي يرتدين الأزياء الأوروبية، وهاجموهن أحيانا علناً.

خلق الجماهير والفضاء العام

من بين التفاصيل التي يقف عندها غلفن أيضا، ما يتعلق بأساليب التعبئة في الشارع بعد دخول فيصل، إذ يرى أن الأخير حاول الاعتماد كثيرا على الاحتفالات العامة والمظاهرة، كأدوات تكتيكية لخلق جمهور آخر، وفضاء جديد، وأيضا لبعث رسائل من خلالها للقوى الدولية. غالبا ما كان أعضاء الحكومة العربية ووكلاؤها، يفتقرون إلى المعرفة بالأحياء والقرى، ولذلك حاولوا تبني استراتيجيات من أجل ربط الحكومة بالسكان بشكل مباشر، وتمثلت أولى الخطوات في هذا الاتجاه، من خلال الاستعانة بالمخاتير الذي لعبوا دور الوسطاء وحرصوا على عرض الملصقات والشعارات التي أقرتها الحكومة من مكان بارز، وحرصوا على عرض الملصقات والشعارات التي أقرتها الحكومة في مكان بارز في الأحياء والقرى. وهكذا كان المخاتير في سوريا الفيصلية يعززون التعبئة السياسية للسكان، وينشرون وجهات النظر الأيديولوجية، كما حاولت حكومة فيصل الاتصال بالنقابات الحرفية (صياغ وتجار حبوب وفنادق ومقاه وحلاقيين.. وغيرهم)، وبالأخص قادتها الذي كانوا بمثابة قنوات مهمة لنشر الأخبار والمعلومات، بحكم جولاتهم الدورية في الأحياء والمناطق ، كما أنها ركزت على حشد طلب المدارس من خلال دفعهم للكتابة ومدح الحكومة وسوريا الجديدة، فمثلا يذكر لنا أحد الشهود آنذاك كيف تحولت المدرسة إلى ثكنة عسكرية، إلا أن هذا الأمر لم يبق حصرا على الحكومة، بل حاولت أيضا اللجان الشعبية العمل على حشد الطلبة في السياسة، وتجنيد بعضهم في الميليشيات الشعبية، وتعليمهم القرآن.

الصحافة والمظاهرات..

ومن بين الأدوات التي حاولت الحكومة التركيز عليها، ما يتعلق بالصحافة والمقاهي والمسرحيات. إذ كانت الصحافة بالنسبة لها الوسيلة الأيسر في نشر المعلومات وتعبئة السكان، وعلى الرغم من أن نسبة الملمين بالقراءة كانت منخفضة، لكنها لعبت دورا في التعبئة، ولذلك قامت بتقديم حوافز نقدية للناشرين ورؤساء التحرير، لكتابة افتتاحيات لصالح الحكومة، كما أنها ركزت على موضوع المظاهرات، التي لم تكن بدعة حديثة، إذ كانت سوريا تقيم العراضات والتظاهرات للاحتفال بعدد من الأحداث في الفترة العثمانية، وقد رعت الحكومة التظاهرات من أجل عرض قضيتها أمام العالم الخارجي، كما أنهم حاولوا من خلالها إيصال رسائل للمعارضين كونهم أصحاب الشعبية الأكبر، كما استفادت الحكومة من الطابع المسرحي للتظاهرات وإسناد دور منفعل للجماهير كي تغرس في الأذهان «الأنموذج الملائم» عن المجتمع السوري والسياسة القومية. وهنا أيضا أبدت اللجان الشعبية إدراكا أيضا لدور المظاهرات، ولذلك أخذت تحاول إخراج مظاهرات تتقدمها أرامل وبنات شهداء وعلماء وسواهم من القادة الروحيين، ما ساعدهم أحيانا في التغلب على السلطة في الحشد من خلال قدرتهم على توسيع المشاركين في مظاهراتهم ، بدلا من تركيز السلطة أكثر على النخب، وهو ما كان بمثابة مؤشر على حدوث تحولات كبيرة في العلاقات السياسية والاجتماعية بين السوريين، وربما هو ما قد نراه أيضا في الأيام المقبلة، من خلال معرفة الأدوات التي ستعتمد عليها كل القوى في دمشق والمدن الأخرى لتحقيق حشد وحضور أوسع في الشارع والسلطة.

المصدر: 
القدس العربي