ولادة الجامعة السورية
سمّت حكومة الفريق رضا الركابي الدكتور رضا سعيد عميداً لمعهد الطب العربي في دمشق، وعينت عبد اللطيف صلاح من نابلس، عميداً لكلية الحقوق. ولم يُمض الحقوقي الفلسطيني أكثر من تسعة أشهر في سورية، استُبدل بعدها بالدمشقي مسلّم العطار، الذي عمل مع رضا سعيد على وضع النظام الأساسي للجامعة السورية، وبدأ منذ العام 1919 بوضع اسم "الجامعة العلمية السورية" على شهادات كليتي الحقوق والطب، وصدرت بين 1919 و1920 أكثر من أربعين شهادة تحت هذا المسمى.
يشير المؤرخون عادة إلى حزيران/ يونيو 1923 تاريخاً رسمياً لتأسيس الجامعة السورية المعترف بها عالمياً أيام الانتداب، ولكن في الحقيقة بدأ إسباغ صفة "جامعة" عليها منذ عام 1919، ما يجعلها ثالث أقدم جامعات العالم العربي، بعد جامعة القاهرة المؤسسة عام 1908، وجامعة الجزائر التي أُسست بعدها بعام واحد.
صدرت التعليمات التنفيذية، وقوانين الجامعة العلمية السورية عام 1920، مؤلفة من 65 بنداً، مطبوعة على كرّاس ورق رسمي من عشر صفحات. نصّ القانون على أنّه لأي طالب تجاوز السابعة عشرة، ويحمل شهادة ثانوية رسمية من المدارس العثمانية، الحق في الالتحاق بالجامعة السورية من دون امتحان قبول، ومن لا يملك شهادة عثمانية معترفاً بها، عليه التقدم لامتحان شفهي وكتابي، واختيار لغة أجنبية ليُمتحن بها، إمّا الفرنسية أو الإنكليزية، ولديه حق اختيار مواده العلمية، إما الجبر، أو الكيمياء، أو علم المثلثات، أو الأحياء، وكذلك الأدبية، بين التاريخ والجغرافيا. وعلى الطلاب جميعهم إبراز شهادة صحية تثبت أنهم لا يعانون من أي مرض مزمن، جسدي أو عقلي، وعليهم أخذ لقاح ضد مرض الجدري، كما كان عليهم جلب ورقة حسن سلوك من مختار الحي الذي يقيمون فيه، وصورتين شمسيتين حديثتين، لإكمال الطلب.
ودخل النظام في تفاصيل الحياة اليومية للطلاب والمدرسين، فكان التأخير ممنوعاً، ولم يُسمح لطالب بدخول قاعة المحاضرات بعد مرور خمس دقائق على بدء المحاضرة، كما لم يحق للمدرس أن يتأخر أكثر من عشر دقائق، إلاّ في حال وجود عذر رسمي. وكانت الأعذار تقدم خطياً إلى لجنة يترأسها رئيس الجامعة نفسه، مؤلفة من العمداء ورؤساء الأقسام، وفي بداية الدوام، طُلب من الهيئة التدريسية والطلاب التوقيع على سجل الحضور والغياب.
منع القانون التدخين في الحرم الجامعي، والتحدث في الدين، أو السياسة، منعاً باتاً، كما منع التظاهر لأي سبب كان، والاعتصامات، وتوزيع المناشير، والكتابة على الجدران. من يخالف هذه القوانين كان يُطرد فوراً من الجامعة، وكذا كانت العقوبة في حالة السرقة الفكرية والاقتباس، من دون ذكر المراجع المطلوبة في أي بحث علمي.
بداية الحكم الفرنسي
عند سقوط الحكومة العربية، واحتلال الجيش الفرنسي دمشق، أبرقت سلطة الانتداب إلى باريس بالقول إنه لا داعي للإبقاء على كلية طب فيها، لأن كليتي الجامعتين الأمريكية واليسوعية تكفيان لسد حاجة سورية ولبنان من الأطباء. فأرسلت باريس طبيباً فرنسياً من الجزائر، لمعاينة وضع كلية الطب، ليكتب الأخير تقريراً مفصلاً للمندوب السامي هنري غورو، مقترحاً تحويل الجامعة السورية إلى مؤسسة تعليمية مشتركة بين الفرنسيين والسوريين، تدار من قبل أطباء فرنسيين، ومساعدين سوريين، وتكون تابعة مباشرة للحكومة الفرنسية. رفض المدرسون السوريون هذا الاقتراح رفضاً قاطعاً، وطالبوا الجنرال غورو بألاّ يقضي على حلمهم، وإنجاز حياتهم، مذكرين بأن الجامعة السورية أصبحت خلال فترة قصيرة واستثنائية، الأفضلَ في العالم الإسلامي كله، مقترحين زيادة عدد المدرسين الفرنسيين فحسب. وافق غورو على الاقتراح، وأمر بالحفاظ على الجامعة.
العقبة الأولى أمام الجامعة السورية في عهدها الجديد، كانت موضوع الاعتراف المحلي والدولي بشهاداتها. الفرنسيون اعترفوا بها على الفور، وقبلوا عدداً من طلابها المتفوقين في باريس لإكمال تخصصاتهم، أما الحكومة البريطانية الحاكمة في فلسطين، فلم تعترف بالشهادات، وكذلك كل من الحكومات المصرية والعراقية والتركية. كان على أي طبيب سوري يرغب بالعمل في أي من هذه البلاد الخضوع لامتحان، بغض النظر عن خبرته العملية أو العلمية، وكان هذا مهيناً جداً للنخبة السورية، ولمدرّسي الجامعة السورية.
كلما كان صوت طلاب دمشق يرتفع، كلما كانت مدة انتظارهم للاعتراف بشهاداتهم حول العالم تطول.
كانت هناك أسباب عدة لهذا التشدد البريطاني، أولها غيرة حلفاء بريطانيا في مصر والعراق من سمعة الأطباء السوريين وجامعتهم الطيبة، وضغط المدرسين في كل من القاهرة وبغداد على الحكومة البريطانية لعرقلة قبول شهادات الجامعة السورية، التي كان يحصد بموجبها الأطباء السوريون الوظائف فور تقدمهم لأي مستشفى، أو مستوصف في العالم العربي. وكان السبب الثاني سياسياً، إذ كان طلاب الجامعة السورية من أشد المنتقدين للاحتلال البريطاني لفلسطين، والداعمين للحراك الثوري الفلسطيني. وكلما كان صوت طلاب دمشق يرتفع، كلما كانت مدة انتظارهم للاعتراف بشهاداتهم حول العالم تطول. ولم تعترف بريطانيا بالشهادات السورية حتى أيار/ مايو 1939، عندما تدخّل الدكتور عبد الرحمن الشهبندر لدى رئيس الحكومة الوطنية في مصر مصطفى النحاس باشا، فأمر بإلغاء التدابير المسبقة ضد خريجي الجامعة السورية. كان هذا بعد 36 عاماً من إنشاء الجامعة.
وفي الأول من تموز/ يوليو 1929، افتتح الدكتور رضا سعيد المدرج الكبير في الجامعة، وبعد عامين دشن المطبعة الرسمية لإصدار المجلة الطبية، ومجلات علمية أخرى، كما وسّع المكتبة لتضمّ 4500 كتاب عالمي بالعربية والفرنسية والإنكليزية، وبدأ بتشجيع المواهب الفنية والرياضية لدى الطلاب، وبتخصيص مبالغ لدعم نشاطهم.
في العام الدراسي 1930-1931، تسجل 81 طالباً جديداً في الجامعة السورية، سبعة منهم من الدمشقيات، أبرزهن لوريس ماهر، التي تخرجت من كلية الطب، وظهرت في صورة تذكارية مع رضا سعيد، وأعضاء الهيئة التدريسية وهي بكامل أناقتها، من دون أي تمييز لها عن رفاقها من الذكور، أو الأساتذة.
عند غياب هذا الجيل من المربين الكبار، إما بسبب الوفاة، أو التقاعد، أُغلقت صفحة من حياة الجامعة السورية، وبدأت مرحلة جديدة لم تقلّ بياضاً عن سابقتها. في الخمسينيات مثلاً، نعمت الجامعة بقيادة علمية ووطنية ندر مثيلها في العالم العربي، للأستاذ الدكتور قسطنطين زريق، الذي استثمر الكثير لإرسال طلابه إلى أوروبا الغربية، والولايات المتحدة، لتحصيل علمهم في مجالات مختلفة، منها الطب البشري، ثم جاء بعده الأستاذ الدكتور أحمد السمان أيام الجمهورية العربية المتحدة، الذي عُدّ من أفضل رؤساء الجامعة علماً ومعرفة، ورويت عنه القصة الشهيرة التالية:
في يوم من الأيام جاءته مجموعة من الشبان العراقيين الموالين للرئيس جمال عبد الناصر، والمقيمين في دمشق، بسبب قيامهم بمحاولة اغتيال فاشلة ضد الرئيس العراقي آنذاك عبد الكريم قاسم، وطلبوا الانتساب إلى الجامعة السورية، فرفض الدكتور السمّان طلبهم، ما أثار غضب الطالب صدام حسين، الذي دخل مكتب رئيس الجامعة يستشيط غضباً، سائلاً كيف يُرفض في الجامعة السورية وهو "من رجالات" الرئيس جمال؟ بهدوء مطلق ردّ الدكتور السمان: "إذا رغب الرئيس عبد الناصر فعليه أن يقبلك في جامعة القاهرة! أنا أعتذر، لا مكان لك في جامعة دمشق!". كانت هذه المجادلة في وقت كان الدمشقيون فيه سكارى بجمال عبد الناصر، ولا يردون له طلباً، والناس جميعهم يعملون ألف حساب له، ولجهاز مخابراته المخيف المعروف بالمكتب الثاني. ولكن بالنسبة إلى رئيس الجامعة، كانت سمعة الجامعة، ومستوى طلابها، أهم من رضا الرئيس جمال عبد الناصر.