الناظر في ما يُكتب في حقل الفكر والدارسات الفلسفية في البلاد العربية يجد «معاصرة» لافتة في الاصطلاحات، فتجد الذي يحفر في التراث والذي يفكك الخطاب والذي يبحث في ثنايا المخطوطات عن الأيديولوجيا الكاشفة للدوافع «الحقيقية» خلف المقول. ما يجمع هذا الذي تفرق في كتب المفكرين العرب المبشرين بالحداثة تخصيصا، هو السعي إلى رد فكر المتقدمين إلى بنيات تجعل من هذا الفكر «فيضا» عن تلك البنى، ولزوما يكاد يكون منطقيا عن مقدماتها أو آلياتها.
فالفكر العربي القديم والحديث هو عند المفكر محمد عابد الجابري محكوم ببنية قاهرة يُطلق عليه «النموذج/ السلف» يقول: «وإذن فعندما نتحدث عن بنية العقل العربي، فإننا نقصد أساسا هذه المفاهيم والأنشطة الفكرية التي تزود بها الثقافة العربية المنتمين إليها، والتي تشكل لديهم اللاشعور المعرفي الذي يوجه، بكيفية لاشعورية، رؤاهم الفكرية والأخلاقية ونظرتهم إلى أنفسهم وغيرهم». (تكوين العقل العربي: المركز الثقافي العربي الطبعة الرابعة) أي أنه يُقر بأنها تشتغل على مستوى اللاوعي، لكن ما لا يقوله وهو الأهم: كيف استطاع هو الانسلال من هذه البنية التي تشتغل بالنص من كلامه لا شعوريا؟ من أي موقع يتكلم فيلسوفنا في كتاباته؟ وكيف يتسق القول باللاشعور المعرفي مع ادعاء القدرة على إدراك الواقع بموضوعية، يقول: إن خطابنا هنا لن يكون خطاب دعوة، ولا خطابا مضادا لأي دعوة. إنه خطاب ينشد التعبير عن الحقيقة كما تبدت لنا من خلال موقف حيادي وموضوعي من الوقائع. (مدخل إلى القرآن الكريم ج 1 دار النشر المغربية 2006) ولعل استقراءً للمفاهيم الأساسية التي جعلها الرجل محورا لنقده للعقل العربي، مثل الجزر الثقافية، وتدشين عصر تدوين جديد على صورة القديم، والمطالبة باللحاق بالركب الحضاري و«على تبيئة المفاهيم الغربية في وسطنا واستنباتها في تربتنا» و»فصل التراث عن الذات للنظر فيه» يجعلنا نتساءل عن حقيقة هذا الانفلات في خطاب مغرق في «البيانية». وبالمناسبة، ليس ذلك عيبا في الخطاب، لكن المشكلة فيمن يُخطّئ طبيعة كل خطاب، فالاستعارات والأقيسة والمماثلات وقودُ كل فكر ومصدر ثراء أي خطاب.
يقول محمد أركون: «هناك نظام معرفي معتزلي، حنبلي، أصولي، ماركسي، فرويدي، بنيوي، كاثوليكي، تلمودي، بوذي… إلخ للحقيقة. والعولمة كمرحلة تاريخية جديدة من مراحل الفكر تفتح لأول مرة المجال من أجل المقارنة بين أنظمة الحقيقة التي سيطرت على البشر عبر التاريخ. وهي إذ تفعل ذلك تُخضع كنظام لمنهجية الحفر الأركيولوجي العميق من أجل الكشف عن البنيات التحتية المدفونة، التي انبنت عليها الحقائق السطحية الظاهرة» (تحليل الخطاب الديني دار الطليعة بيروت 2001) ويزيد في مكان آخر: إلا أنهم (السنة والشيعة) لم يدركوا أن الخطوط الفاصلة بين المذاهب وتصوراتها للحقيقة هي في الواقع مرتبطة بالمواقف المعرفية وما يتبعها من وسائل منهاجية وأساليب خطابية، أكثر مما هي مرتبطة بالبحث عن «الحقيقة» أو الاعتراف بوجودها.
لماذا لم يكونوا قادرين على إدراك ذلك؟ لأنهم كانوا جميعهم مسجونين داخل السياج المعرفي الخاص بالعصور الوسطى. (محمد أركون: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل دار الساقي 1999) إن مفكرنا يذهب، متابعا فوكو، إلى أن لكل حقيقة نظامها الذي يجعل منها ما هي عليه، فلا يكفي كما يقول صاحب «نظام الخطاب» أن تقول الحقيقة، لكن ينبغي أن تتكلم من داخل دائرة الحقيقة» والفكر من هذا المنظور محكوم بسياج معرفي لعصره يَجعله منتجا للمعنى داخل أسوار هذا العصر وبشروطه، كما يجعله فاقدا للمعنى خارج حدوده ومحدداته. لكن أركون يُفاجئنا بالحديث عن الموضوعية والعلمية عندما يتعلق الأمر بخطابه هو دون تبرير لذلك، فما الذي يجعل عقل المتقدمين محكوما بسياج عقل فوكو وشافت وولف، ويجعل عقل مفكرنا غير «مسؤول» إلا أمام وعي صاحبه؟ يقول أركون غير بعيد عما سبق: «نتمكن من مناقشتها على أسس علمية وموضوعية. « (تحليل الخطاب الديني) كيف يستقيم الحديث عن أسيجة معرفية وأنظمة حقيقة مع التوسل بمفردات الموضوعية والعلمية، كيف يكون التحليل علميا أو موضوعيا مع أن صاحبي الحفر والتفكيك لا يرتضيان العلمية والموضوعية وصفا لخطابيهما، لأنهما من هذا المنظور، لهما شروط إمكان بذاتهما سمحا بظهورهم في خطابات مستعمليهم ومن ثَمَّ هما عند أصحاب هذا المنزع، بلازِمِ قولهم، موضوعُ بحثٍ وليسوا وسيلته.
إن ما هو موضوع للتفكير من منظور التفكيك عند دريدا أو من منظور «الحفر» عند فوكو، يتحول توصيفا لخطاب أركون وآية على صوابه، بل إن صاحب الحفر يقول: «إن لجوء المؤرخ للموضوعية يجعله شبيها بالديماغوجي المنافق، فإذا كان الأخير يُنكر الجسد لتبقى سرمدية الفكر فالثاني يدّعي الموضوعية ليمحو ذاته كي يظهر الآخرون ويأخذوا الكلمة» (ميشيل فوكو: جينالوجيا المعرفة).
نقف في آخر هذه العجالة التي فصلتها في كتاب «الخطاب العربي والحداثة» عند زكي نجيب محمود يقول في كتابه «في مفترق الطرق»: «أول ما يرد إلى الخاطر عند الحديث عن الفكر العربي وخصائصه هو طبيعة المكان يحيا فيه العربي، والذي يمارس العربي فاعليته بين جنباته، وذلك المكان هو الصحراء الممتدة من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، تتخللها واحات خضراء، تصغر حينا، وتكبر حينا آخر، ثم يذكر كيف استلهم من رحالة أوروبي خاصيتين أساسيتين من خصائص الصحراء وهما ثبات الأشياء على حالها، وذلك لأن كومة من صفائح معدنية وجدها رحالتنا تبدو كأنها خرجت من المصنع للتو، والصفة الثانية هي الإطلاق لأن الرحالة الأوروبي لم يستطع تمييز المرئيات عن بُعد في الصحراء. يستخلص رائد التفكير المنطقي في العالم العربي من ملاحظات الرحالة الأوروبي أن ثبات الأشياء على حالها في الصحراء (كومة من صفائح معدنية) وعدم تمايُزها (لعيني رحالة أوروبي) ساهمتا في تشكيل فكر العربي، وطبعتاه بصفتي الثبات والإطلاق. وحاصل هذا المقول أن البيئة محدد رئيسي للفكر وحاكم على «إنتاجه» وطرائق تصوره وتشكيل رؤيته، نجد فكرة السياج والبنية مرة أخرى وقد تمثلت هنا في البيئة المحيطة بالإنسان.
لكن المشكلة مرة أخرى أن هذا المحدد لا يتصرف في عقل كل إنسان، لكن فقط في عقل العربي المسكين، أما نظرة الأوروبي هنا فموضوعية ومطابقة ولا تحكمها بيئته، وإذا سألنا فيلسوفنا عن مصدر هذ الامتياز للأوروبي لن نجد جوابا. عدم إدراك الفروق هو نتاج للتربية التي تلقاها الغربي، فالعربي يستطيع أن يميز من هذا الممتد المتشابه الثابت، بالنسبة للأوروبي، ما به يقتفي أثرا، أو يستشعر عاصفة أو غير ذلك تماما كما يستطيع ساكن القطب أن يميز في الممتد الأبيض الثابت أنواعا من الثلج، ومن ثَمَّ أسماء له لا يكاد يرى لها لزوما ولا دلالةً من نشأ في غير بيئته، لكن القفز فوق شرط اللغة والتاريخ ومحاولة تسطير قوانين للعقل أو بُنَى للتفكير من منظور «عقل» بعينه هي أوهى ضروب الدور وأكثرها عقما.
ولعل علينا أن ننتظر بلازم هذا الخطاب مستقبلا قريبا أو بعيدا، يجد فيه الدارسون المبدأ المفسر والبنية المُشكِّلة والسياج الحاكم لآراء محمد أركون ومحمد عابد الجابري وزكي نجيب محمود وغيرهم من منتحلي هذا النوع من النظر، في الشروط الموضوعية والبنيوية والأيديولوجية والأركيولوجية لمقولهم لا في ما توسلوا به من معارف وادعوه من حجاج أو ما ادعوا استخلاصه من «حقائق».